الجمعة ١١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١١

الهامشيون

أفنان القاسم

 كانت أفكاري تضعني على هامش العالم.
فرانسوا مورياك

 كل جهد للسيطرة على شرطهم ينقلب إلى محاولة للتدمير الذاتي.
كلود سيمون

الجزائر 1962
عدة أيام قبل الاستقلال

آدم، يعني عدم بالعربية، كاتب في الخمسين من عمره، لا يحب الكُسْكُسَ ولا القهوة. لهذا السبب بقي عازبًا. وبالمقابل، يعشق الورد. كرس حياته لزراعة الكلمات والورد وانتقادات قرائه. ليس كل قرائه. فقط من يشعرون بأنفسهم أنهم المعنيون في كتاباته. و... لأنه صريح مع نفسه، لا يستطيع إخفاء ما يفكر فيه عن الآخرين. هذا هو عيبه: الصراحة. ومن الغالب ما تستقبل أفكاره الجديدة بسوء، كمواقفه الشجاعة. وكما يقال: الكتاب يبدعون في الهموم لأنفسهم. لكن، أن تكتب جيدًا أم سيئًا في عالم يحكمه النزاع، هذا لا يعني شيئًا، ما يهم هو التقدير، ولا موهبة آدم، ولا شجاعته مقدّرتان. ومع ذلك، يواصل، رابط الجأش، على الطريق ذاتها. على الأقل حتى يتوقفون عن نشر كتبه، وقبول مقالاته. من هنا إلى هناك، لن يرخي قبضته. سيفعل كل شيء من أجل أن تصل آراؤه إلى المرسل إليهم. لا يستطيع قبول الموت فكريًا طالما لم تنكسر ريشته. ونظرًا للأحداث التراجيدية التي تهز البلد، لن يتأخر هذا اليوم عن القدوم. لهذا السبب قال كل ما لديه قويًا وعاليًا عن ضربات جبهة التحرير العمياء وجرائم الجيش الفرنسي، فعاد عليه ذلك بعداء الطرفين.

صاح المحقق الفرنسي:

 قضيت على نفسك بنفسك، يا سيد آدم! تصرفك بهذا الشكل يجعلك تحكم على نفسك بعدم الكتابة.

صاح آدم بدوره:
 لا أحد في العالم سيمنعني من التعبير عن رأيي بحرية، يا حضرة الضابط!
 لكنك تنسى أن هذه فرنسا!
 لا أنسى أنكم جيش كولونيالي.
 كولونياليون نحن الذين جئناكم بالحضارة!
 الحضارة التي تقتل، تحرق، تعذب، ليست حضارة، إنها البربرية مخبأة تحت ثياب نظيفة.
 برابرة نحن الذين علمناكم قراءة وكتابة أسمائكم!
 ربما كنا أميين، لكننا أولاً وقبل كل شيء بشر، وواقع أن نقرأ ونكتب، وليس فقط أن نقرأ ونكتب أسماءنا، حق جوهري لنا. زد على ذلك، أنت تحرمني من هذا الحق عندما يكون المقصود أن أقول الحقيقة للعالم أجمع.
 أية حقيقة؟ حقيقتكم أم حقيقتنا؟
 الحقيقة بلا زيادة ولا نقصان. لهذا أرفض كل فعل لا إنساني، سواء اقترفه ناسيّ أم ناسك.
 أنت تنسى أمرًا ثانويًا، يا سيد آدم.
 ما هو، يا حضرة الضابط؟
 أنها الحرب.
 حرب قذرة، تريد القول.
 وليست السلطة بيدكم.
 العجلة تدور، وفي يوم ما، سنمتلك السلطة.
 لماذا؟ لترتكبوا جرائم أخرى؟
 جرائم أخرى ربما، ولكن تبقى ما بيننا، يا حضرة الضابط.
 أنت من يقول هذا!
 أنا من يقول هذا، وأضيف أنني سأواصل قول الحقيقة عاليًا وقويًا، لتتوقف الجرائم، وليكون عصر الحرية بالفعل عصرنا.
 عصر الحرية خديعة! سنكون حريتكم دومًا. إذن اذعن، يا سيد آدم، ولا تكتب أي شيء كان.

صاح رئيس الفلاقة:
 لا حق لك في نقدنا، يا سي آدم، في نقد أفعالنا والثورة. هذا ما لا يمكن قبوله.

أجاب آدم:
 في حركة ديمقراطية، يا سي لحسين، ما لا يمكن قبوله هو بالأحرى السكوت عندما يتعلق الأمر بمصلحتنا كلنا، والضربات العمياء لا تأتي لنا إلا بالتعاسات، تُعرّض للشبهات مصداقية قضيتنا.
 المصداقية لا تهمنا، ما يهم هو أن تحرز الثورة تفوقًا، وأن يشخ الفرنسيون فزعًا ليهربوا من الجزائر.
 هذه الأفعال الإرهابية المرتكبة ضد أبرياء تعاكس كل مبادئي.
 ولكن لا أبرياء هناك، كلهم يتشابهون، كلهم هنا ليبقوا، ليقضوا علينا.
 عدونا هو الجيش، زد على ذلك أنني عبرت عن رأيي بصراحة قاسية منددًا بما ارتكب من فظاعات.
 هؤلاء العسكر المتوحشون يستحقون الشنق، وانتقادنا في الوقت الذي تنتقدهم فيه، هو أن تضعنا على نفس مقعد الاتهام.
 أنا لا أتهم أحدًا. أنا لا أفعل سوى الإنذار.
 أنا أيضًا أنذرك، يا سي آدم، نحن أم هم، عليك أن تختار.
 هل تهددني، يا سي لحسين، أنا الوفي الأكثر من بين أوفيائكم!
 عندما تضع الثورة في خطر، لن نعتبرك منا. وفاؤك يساوي صفرًا.

مارغو، تعني هامشية باللاتينية، نادلة في بار الحي. إنها يهودية إسبانية، عمرها ثلاثون عامًا. على عكس مواطنيها الأندلسيين، بشرتها فاتحة، وشعرها ذهبي. من النادر إلا يبدي زبون تأثره بجمالها: الشباب والأقل شبابًا، كانت تجذبهم كلهم. لكنها حتى الوقت الحاضر، لم تجد بينهم الرجل الذي يلزمها. لتزويجها، فكرت أمها في إرجاعها إلى بلدهم دون عودة، لأن الجزائر لها لم تكن سوى بلد الهجرة، الإقامة المؤقتة، لا أكثر. كانت تريد أن تتحاشى الزواج المتأخر لابنتها، والزوج "العربي"، حتى وإن كان غنيًا. لا تفرق مارغو بين الأطباق والشعوب، وتتفاهم جيدًا مع الجميع، تحب البايلا بقدر الكُسْكُس والستيك فريت. أما فتى الأحلام، أن يكون جزائريًا أم فرنسيًا أم من أي جنسية أخرى عندما يجدها، فستقول له نعم، دون تردد. زد على ذلك، مارغو مؤيدة للحكم الذاتي للجزائريين. رأي خبأته عن الجميع كما يجب حتى الوقت الحاضر، حتى عن أمها. لا تستطيع قول ما تفكر فيه عندما يتكلم الجميع عن القنابل الموضوعة في المقاهي، عندما تكون الضحايا من النساء والأطفال. المظليون يرتكبون الأفعال الأكثر شناعة ضد نساء وأطفال أهل البلد، ولكنهن نساء أهل البلد وأطفالهن! هذا يعني في العقلية السائدة ما يعني. ومع ذلك، ليست هذه الناحية هي التي تُرى من مارغو، مارغو التي كانت أمها ترى فيها فتاة وحدها في كل شيء: في طريقة ملبسها، ومأكلها، وعملها، واختلاطها بالفتيان، مارغو فتاة ليست كالأخريات. كانت مارغو تعتبر الأمر مديحًا، حتى اليوم الذي جرؤت فيه على إبداء رأيها حول الصراع الدائر.

صاح صاحب البار:
 يا آنسة مارغو، لم نعد بحاجة إلى خدماتك.
 لماذا، يا سيد ريمون؟
 تعرفين جيدًا ما فعلت.
 هل سرقت؟
 لا.
 هل سكرت؟
 لا.
 هل تخلفت عن عملي يومًا واحدًا؟
 لا.
 إذن لماذا؟
 لأنك ارتكبت جنحة في الرأي.
 تطردني لأنني أقول ما أفكر فيه، لأن لي رأيًا مخالفًا لرأيك؟
 تريدين القول مخالفًا لرأينا كلنا، نحن الذين كنا نظنك متعاضدة معنا.
 أنا متعاضدة معكم دومًا، حتى ولو كان لي رأي مخالف لرأي أغلبيتكم.
 بدعم الفلاقة؟ قتلة الأطفال هؤلاء!
 أنا لا أدعم الفلاقة. أنا ضد الضربات العمياء. لكني مع حق الجزائريين في تقرير مصيرهم.
 ما معنى هذا، لكنك مع حق الجزائريين في تقرير مصيرهم؟ طردنا من بلدنا؟ نحن على أي حال هنا في بلدنا.

يقلدها ساحرًا:
 لكني مع حق أهالي البلد الأصليين الخراء في تقرير مصيرهم! لا، يا آنسة مارغو. هذا لا يمشي! أفكارك خطيرة! أنت خطيرة! بسببك سأخسر كل زبائني. أفضل فقدانك على فقدان لقمة عيشي.
 لكن، يا سيد ريمون...
 ليس هناك من لكن، لا مكان لك عندي.

صاحت الأم بمارغو:
 أنت عار الأسرة، عاري، عار المرحوم أبيك!
 أنا لا يد لي في الأمر، يا أمي. السيد ريمون هو من قرر كل شيء!
 والخطأ خطأ من؟ خطأ الآنسة مارغو، الثورية! لم أكن أعلم أن لي ابنةً جبهة تحرير!
 لست جبهة تحرير، يا أمي. أنا من أنا ولكن لست جبهة تحرير!
 دومًا ما كنت فتاة وحدك، يا مارغو! فتاة خارجة على العادي، مع الأسف!
 هذا لأنني أفكر قليلاً تقولين هذا، لأنني لا أفكر مثلكم، لأنني استطعت قول رأيي في مسألة تلسع أرواحنا؟
 تنسين أننا لسنا من هنا، نحن من...
 أنت ولدت هنا، أنا ولدت هنا، هذا بلدنا، بالطريقة نفسها التي للآخرين.
 ليست هناك طريقة نفسها بين إسباني، وفوق هذا سفاراد، وفرنسي، نحن المغتربين، وسنظل، إلى الأبد. نحن لا يخصنا ما يجري. ربما تريدين أن يحطم المظليون بابنا؟ أنت فقدت عملك، وأنا مهددة بفقدان عملي. وبعد ذلك، كيف سنعيش، هل يمكنك أن تقولي لي؟ رأيت جرحى، الكثير من الجرحى، في المستشفى الذي أعمل في تنظيفه، وأجرؤ على الادعاء أنهم كلهم فرنسيون، أنهم كلهم ضحايا أصدقائك واضعي القنابل. لا يوجد أي عربي، أي واحد من السكان الأصليين.

 لأنهم قُضي عليهم كلهم بمن فيهم الجرحى، وأُلقي بهم في قبر جماعي.
 تقولين أي شيء، يا مارغو.
 لا، يا أمي، أنها الحقيقة الخالصة.
 تقولين أي شيء، لا تحكين إلا السفائف.
 سفائف، الدم الجزائري!
 أنصحك ألا تعودي إلى الكلام في هذا لأحد، ولنخنق الأمر، من الأفضل أن تختفي لبعض الوقت.
 من الأفضل أن...
 ستقيمين لبعض الوقت عند عمتك سارة. ستعينينها في عملها، وتكسبين مصروفك بالانتظار.
 بانتظار ماذا؟
 بانتظار أن يتوقف كل شيء.
 لن يتوقف كل هذا إذا ما لم تكن للجزائريين الحقوق نفسها التي لنا جميعًا.
 ماذا تقولين، يا مارغو؟!
 إضافة إلى ذلك، حتى بيننا، نحن الأوروبيين، هناك حقوق وحقوق.
 لقد أصبحت مجنونة!
 أنظري ما نعانيه، نحن الإسبانيين... اليهود. هذا لا يمكنه الاستمرار!

في البداية، غضب آدم لاستبعاده: لم تعد كتبه تنشر، والمنشورة صادرتها القيادة العسكرية. لم تعد مقالاته تنشر، وعزله الفلاقة تمامًا. منعوه من أي اتصال. ورويدًا رويدًا، بتحضيره أطروحة عن أعمال كامو، استسلم لعزلة طوعية. وليصمد، زرع وردًا في حديقته الصغيرة، وباعه في ساحة السوق. ورد أحمر، وورد أبيض، وورد أصفر، وورد شاي، وورد أضاليا. ومع ذلك، لم يكن آدم يرى الحياة وردية. كان استقلال بلده يقترب يومًا عن يوم، لكنه أبدى تشاؤمه. كان يقول إن التراجيديا الجارية ستستمر. كان يقول ذلك من قبل، إلا أنه كان يتمنى بفضل ريشته، بفضل كل الريشات الحرة، تقويم الأشياء، وإقامة عالم عادل وديمقراطي. الآن وريشته حُجّمت، انهار كل أمل، لم تعد الحرية سوى خديعة. لم تبق له سوى العزلة أو الموت. كان يتكلم قليلاً، ويقرأ كثيرًا. لم يكن أصدقاء له سوى هذه الكائنات الرخصة العود، المعطرة، ذات الجمال الزائل: الورود. كانت جوهر عزلته.

نظر مواطنوه إلى هذه العزلة بعين ليست راضية، إذ أنهم فسروها كموقف ضد الثورة، وبالتالي عومل آدم أسوأ معاملة، وأهين، حتى أنه ازدُري.

ذهبت مارغو عند عمتها سارة للإقامةِ بعضَ الوقت، كما نصحتها أمها. كان من اللازم أن تختفي قليلاً، خاصة وأنها لم تفقد عملها فقط بل وتقدير الجاليتين الإسبانية والفرنسية أيضًا. لأول مرة في تاريخ هذا البلد تتحد الجاليتان حول مسألة تفرقهما مع ذلك منذ الاحتلال: حق الشعوب في تقرير المصير. استقبلت العمة سارة مارغو على الرحب والسعة، واقترحت عليها بيع أوراق اليانصيب معها. كانت بائعات الصدفة قليلات في الحالة الراهنة. لم يعد الناس يؤمنون بالحظ عندما ينظرون إلى البحر، ويفكرون أنهم سيُدفعون إلى قطعه دون الرجوع أبدًا. كانت سارة تظل في كشكها شارع ميشليه، ومارغو تحرث الشوارع داعية، في الموت والأسى، إلى شراء ورقة يمكن أن تكون حظ حياة بأكملها. كان الناس ممن يقبلون اللعب قليلين. وكالعادة، كان بالأحرى جمال مارغو الجاذب لمشتري الصدفة. جمال لم تكن للصدفة فيه يد على الإطلاق. في الماضي، كان أبراهام، زوج سارة، أول سجين لجمال مارغو. عندما كان لها من العمر خمسة عشر عامًا، اغتصبها أبراهام. احتفظت بالسر، فمضت الأيام، وزالت الآثار. تبدل الرجل، وغدا للدين مشايعًا، وللتقوى أكثر قربًا، ولمارغو أكثر حنوًا. كان عليه أن يواجه العار الآخر، عار كل يوم، عندما يعامله فرنسي الأصل كما لو لم يكن شيئًا لأنه يهودي، وعندما يحتقره للسبب نفسه مضطَّهد آخر، عربي من الأهالي الأصليين أو قبائلي، ويبصق عند عبوره: "يهودي حاشاك!" كانت تلك مأساته الحقيقية، صراعه لأجل احترام إنسانيته. لكنه وهو يرى الجميلة مارغو كما لو كان يكتشفها للمرة الأولى، استيقظت رغبته، وغدت إرادة امتلاكها لديه أقوى من كل إرادة أخرى وجودية. فاجأها أبراهام، عند غياب زوجته، وهي في الحمام، وارتمى عليها كوحش ضال. لم تستطع مارغو شيئًا أمام العملاق الذي كانه أبراهام، ولم تفعل مقاومتها في أبراهام سوى إثارته أكثر: اغتصبها للمرة الثانية، لكنها لم تعد الفتاة الصغيرة. جمع حوائجه، وغادر بيت العمة نهائيًا.

وجدت مارغو غرفة صغيرة مقابل بيت آدم. من النافذة، كانت تراه يقرأ، ويكتب، ويعتني بحديقته، وكان آدم يلتقيها في السوق أو في الشارع دون أن تثير لديه أقل انتباه. لا جمال هناك غير جمال ورده! واصلت مارغو حرث شوارع الجزائر لبيع أوراق اليانصيب، والحظ الذي كانت تعده للآخرين لا يأتي للطرق على بابها. كانت تعيش حياة قاسية، وتنظر عن كثب وأحيانًا بدافع الإعجاب إلى ذلك الرجل الذي يقرأ ويكتب ويزرع الورد. وكان ذلك يقف عند ذلك الحد. كان الألم النفسي الذي سببه زوج عمتها لها يتسلط دومًا على روحها، ويجعلها سهلة الكسر أكثر، لم يكن لها حظ تلك الورود التي وجدت في ذلك الرجل الغريب حاميًا وصديقًا.

في أحد الأيام، انفجرت قنبلة حِرَفية في بار قرب بيت آدم. ولما كان يمر من هناك، أوقفه المظليون، واتهم بجريمة لم يرتكبها، بفعل حاربه منذ انطلاقة الثورة، إلا أن جيرانه العرب قد بدلوا موقفهم منه. اعتُبر آدم كبطل، وأسر الفلاقة مارغو بالصدفة، لإبدالها بآدم. بكتها أمها، وكل الآخرين أرادوا تحريرها بأي ثمن. غدت رمز مقاومة الاقتلاع بالقوة، وأقسم الكل حولها على عدم ترك الجزائر.

تم الإبدال، ومع ذلك لم يبدل آدم موقفه، وكذلك مارغو. ولخيبة أمل الفرنسيين والإسبان، طردوا أم مارغو من حيهم، رغم أنها شجبت ابنتها جهارًا وعلانية. وحّد آدم ومارغو العزم في الضيق والألم عندما عزلهما العدوّان، الجزائري والفرنسي، في عمارة يحتل كل منهما قسمًا منها، فوجد آدم نفسه ومارغو حبيسين في حجرتين إحداهما إلى جانب الأخرى. ومن شقوق في الجدار، كانا يسمعان ما يلحق بالواحد والآخر من تعذيب.

في الليل، وهما وحدهما، كانا يحاولان التواصل بينهما. كان آدم يصرخ ألمه، ومارغو تسر إليه روحها الممزقة.

ازداد التعذيب عنفًا: كل يوم كان آدم يُضرب ومارغو تُغتصب. في إحدى الليالي، بينما كان آدم يفقد وعيه، أيقظته ضربات لمخالب على الجدار، فراح يضرب بمخالبه، هو أيضًا. ضَرِيَ كلاهما، ثم، دفعا بكل ما تبقى لديهما من قوة، فانفتح الجدار.

عرفت مارغو المعذَّب، وحدثته عن أوراق اليانصيب. قالت له إعجابها الرصين بالرجل الغريب الذي يزرع الورد، وقالت لنفسها إن لقاءها بآدم جزء من لعبة الصدفة.

حكى لها آدم عن ورده، عن ماضيه الذي لا فائدة منه، وأسف لأنه لم يلاحظها أبدًا، كل ما عاناه حتى الوقت الحاضر هيأه من أجل هذا اللقاء.

تمكنت مارغو من الانزلاق، وجاءت تبكي بين ذراعي آدم. حكت له كيف اغتُصبت في عامها الخامس عشر من ذاك الجلاد أبراهام، وكيف اغتصبها المظليون مساء أمس. قالت إنها تتألم... منذ كانت صغيرة، وهي تتألم. كانت بحاجة إلى قلب يفهمها، إلى جسد يدفئها، كانت بحاجة إلى حامٍ.

لأجلها، لأجل حمايتها، قرر آدم ألا يترك نفسه للموت، أن يحيا برغم جراحه. أرادت مارغو أن تهزم ألمها من أجله، أن تنذر نفسها لحاميها. وهكذا، للصمود في وجه جلاديهما، قاما بالحب، واغتذيا بالدم، دمهما. لكن في الوضع الذي كانا فيه، وبعيدًا عن كل سلوك رومنطيقي، كان ذلك لهما كمن ينتحران!

في الصباح، وقع جلادوهما عليهما ميتين.

وجد المظليون أنفسهم والفلاقة وجهًا لوجه في فضاء مفتوح، في لحظة حاسمة من تاريخهم: أهلكوا بالتبادل أنفسهم، وأُعلن الاستقلال في حمام من الدم.

* من الأعشاش المهدومة المجموعة القصصية الأولى لأفنان القاسم 1972 بمناسبة نشره للأعمال الكاملة.

ساعة الصفر

قصة أفنان القاسم

يبدو لي لأن يكون المرء ذكيًا، من الجوهري أن يكون حذرًا، حتى من نفسه.

بول ليوتو

الحذر أبو اليقين.

جان دو لا فونتين

بعد منتصف الليل بقليل، وأضواء المصابيح الخافتة تتسلل بكلل من أردية الحلكة، كنت أرود أزقة القدس القديمة، وكان احتكاك أجنحة فراش الليل يصل إلى أذني بوضوح. وأنا أرفع رأسي، لاحظت غيومًا قاتمة تزحف، وتنتشر بثقل. غدا الليل أكثر فأكثر سمكًا، وكان ذلك غريبًا في ليلة من ليالي الصيف. أطرقت بصري، فرأيت حذائي ملوثًا بالطين. تعجبت! لم أصل إلى معرفة متى حصل هذا. قلت لنفسي إنني عبرت على التأكيد طريقًا لا يسلكها الكثير دون أن أدري. حاولت التذكر، ولكن بلا جدوى. انحنيت، وبأصابعي أخذت أمسح حذائي: رأسه، طرفه، نعله. حُفر، بلاط، حطام، خطوات غير متناسقة، انزلاقات، تعثرات ربما: عشت كل هذا دون أن أعرف كيف. لا بد أن الأمر كان مثيرًا!

انتصبت، وأنا أزفر طويلاً. فركت أصابعي، وتركت كتفًا أعلى من الآخر، وأنا أفكر أن هذا ليس موقف شخص يحذر حتى من نفسه. بقيت هكذا مدة دقيقة، دون حركة، وأنا أقول لنفسي إنني كنت في حالة من شرود الذهن، وإن ذلك كان أقوى مني. دفعتني نسمة باردة إلى التحرك من جديد. أول ما فعلت خفضت كتفي، وأنا أسحب نفسًا عميقًا. وقبل أن أعود إلى السير، ألقيت نظرة على حذائي، فدفع حذائي في وجهي لسانه.

لماذا كنت في الخارج ليلاً، ما بعد منتصف الليل، وفي تلك الليلة على التحديد؟ هل كنت أسير فقط لمتعة السير أم لأنني كنت مجبرًا على ذلك؟

الحقيقة أنني بعد زيارة طالت لصديق، وأنا أريد العودة إلى منزلي الكائن في القدس الجديدة، وجدت باب العامود مقفلاً. كان إشعار من رئيس البلدية يحدد: يقفل باب العامود على الساعة العاشرة كل مساء، ولن يفتح إلا عند صلاة الفجر، وهذا اعتبارًا من أول حزيران. تحذير للعامة. حرر في 1967.05.25.

أمضيت مدة طويلة، وأنا أتأمل إعجابًا إمضاء رئيس البلدية المهيب، الذي يصعب تقليده، وأنا أفكر أن الحذر لا يستثني دومًا عدم التبصر، وأن باستطاعتي تعريض نفسي للعديد من الأخطار. بعد ذلك، أدرت ظهري للإشعار، وعدت إلى السير. خطر على بالي أن أعبر من باب آخر يكون مفتوحًا، أو أرجع عند صديقي قائلاً: أقفلوا باب العامود، وسرعان ما سيفهمني. كان بإمكاني النزول في أول فندق لا تنطفئ لافتته طوال الليل، لكن لم تكن رغبتي في السير ليلاً وحدها التي جاءت بي هنا، إذ أنني أبلغ من العمر ما يجعلني قادرًا على قمع أية رغبة. كان مجرد التفكير في أنني أسير بعد منتصف الليل، في أزقة القدس القديمة، بعد منتصف تلك الليلة على الخصوص، يكفي لمحو كل علامة تعجب أو استفهام يثيرها ذلك الوضع حولي.

قال لي صديقي، وهو يهز رأسه بعصبية، وهو ينحني قليلاً نحوي:

 غدًا، أقول لك غدًا، من البداهة أن يهجموا غدًا، أؤكد لك.

لم يقل سنهجم. كان محررو الخراء أولئك قد عودوهم على الكلام عنهم بضمير الغائب كما لو كانوا يتكلمون عن غرباء. كنا غرباء لأنفسنا. حربنا كانت شغل الآخرين. قوتنا كانت في موضع آخر. لهذا كانت حربًا خاسرة سلفًا.

أعاد بشعور القوي، القوي جدًا، هو الضعيف الذي كان:

 أقول لك غدًا، يا رب السماء، سيهجمون غدًا.

وأنا، ماذا كان موقفي؟ كنت أنظر إليه بعين نصف مغلقة، وأشد على يده، الممدودة على الطاولة القصيرة التي كانت تفصل بيننا، يد نصف متينة. لم تكن لدي رغبة في النوم، على العكس، كانت الأحداث من الجسامة بحيث لا يمكن للعيون أن تغمض كل مساء، هانئة مطمئنة. لم تكن لدي رغبة في إبداء قوتي، كانت كل قوانا لا شيء مقابل قوة العدو. كنت الوحيد الذي يفكر أن الحرب سيكسبها "تساهل" سلفًا. ربما لأنني لم أكن أسمع الراديو كثيرًا، أو لأنني كنت حذرًا، أرتاب، وأخاف، ومن طبيعة وجلة، قليلاً ما أميل إلى الثقة بالناس أو المستقبل.

أضاف صديقي مع إحساس بالقوة تفلت منه.
 كنت أتوقع أن يهجموا اليوم، لكنهم لم يفعلوا. سيهجمون غدًا، أنا أحدس ذلك، أنا أحزر ذلك.
كانت تسحرني خصلاته السوداء، هي أيضًا كانت تهتز بعصبية كلما أخذته الحمية.

سألته:
 أتعرف فيم أرغب هذه اللحظة؟

أطلق صيحة حماسية كما لو أنه اصطاد سمكة كبيرة:
 أن يعطوك بندقية، أن يقودوك إلى الخطوط الأولى، وأن تطلق، تطلق.

ابتسمت لخصلاته المجنونة، لأنفه الدقيق. لم أكن أريد صدمه، لكني لم أكن أستطيع إخفاء ما يقعد على قلبي:
 كنت أعتبرك ذكيًا حتى الوقت الحاضر، لكنك تخيب أملي.
انتصب:
 ماذا؟

نفض رأسه. كان ذلك كافيًا لخصلاته السوداء كي تهتز، وتهز خيالي. تركته ينتظر قليلاً قبل أن أقول له:
 لك شعر جميل! يمدك بقوة كبيرة على الإغراء. يا له من حظ!

رد متوترًا:
 أنا لا أفهم.

تركته ينتظر من جديد. لاحظت خديه يحمران، صُدغيه ينتفخان.
 أنا لا أفهم. أوضح بسرعة وإلا لكمتك!

وأنا أراه يرتعش أمامي كاللهب بين أصابع الريح، أشفقت عليه. لم أقل له إنني أرغب في مداعبة خصلاته، إنني أفكر في أنني وقعت أسير جماله. لم أقل له إنني أريد أن أحيطه بذراعيّ، وبينما هو يقاومني، أن أجز شعره كالجدي.

قلت:
 سيهجمون اليوم أو غدًا أو بعد غد، لا يهم متى، لأنهم سيهجمون على التأكيد هذه المرة. شخصيًا، أنا أفكر في النصر مثلك، لكني أفكر فيه على طريقتي. لدي طريقتي الخاصة بي في التفكير، حتى في الانتصار.
 كيف؟ أنا لا أفهم.
 سأوضح لك.

ذهبت إلى النافذة، فتحتها، وانحنيت خارجها. كان هناك صبية مجردون من كل شيء، وهم يصيحون، ويهتفون للحرب.

قلت، وأنا أعود إلى مكاني:
 يُحَيّي الصبية الحرب.

قال صديقي:
 يبدو أن الكل يهنئ نفسه بالحرب ما عداك! ليس من الحسن أن تكون حذرًا مرتابًا إلى هذا الحد عندما يقطع مصير شعب بأكمله لحظة تاريخية كهذه.
 حاسمة، يجب القول لحظة حاسمة.
 إن شئت، لحظة حاسمة.
 دومًا ما كنت هكذا عندما يتعلق الأمر بحالة عصيبة. شيء أقوى مني.
 ستكون هذه الحرب حاسمة، وسنكسبها رغم كل تشاؤمك.
 أنت، ما يهمك، هو النصر، أليس كذلك؟
 نعم
 ما ترغب فيه، هو هزيمة إسرائيل، أليس كذلك؟
 نعم.
 ما تأمله، هو استرجاع الفردوس الضائع، أليس كذلك؟
 نعم.
 وأنا أيضًا.

استشاط غضبًا:
 أنت تهذي! ما هذا الهذر؟ أوضح!

أحددت نظري إليه، ثم:
 أريد أن تخرّقني بالرصاص!

أعاد كلماتي، غير مصدق.

أضفت:
 نعم للنصر. لكن هذه الحرب لن تأتنا إلا بالألم والبؤس. لن يكسب داوود الصغير الذي هو نحن أبدًا ضد جالوت، العملاق العبري. لا، لست انهزاميًا، أنا حذر مرتاب كما قلت، وقبل كل شيء أنا شخص يفكر.
 تسمي هذا "تفكير" أن تطلب مني إطلاق الرصاص عليك؟
 في هذه اللحظة الحاسمة، أو إذا شئت التاريخية، ستنتحرون كلكم ما عداي. لهذا أريد أن أكون أول من يموت، ولأثبت لك أنني لست خائفًا من الموت. أنا أطلبه منك، لكني أعرف أنك لن تفعله، لأنك جبان.

في حارة النصارى، ذرعت زقاقًا طويلاً معتمًا عند نهايته قليل من الضوء. وقفت تحت المصباح لأنظر إلى ساعتي. كان الوقت يمضي رتيبًا. بقيت هناك، وأنا أنظر إليه، وهو يمضي، دون أن تخل نظرتي بنظام إيقاعه الأبدي. وماذا لو تندلع الحرب الآن؟ كان السؤال ينتهي مع علامة الاستفهام، ومع ذلك كان "الآن" يتجاوز، كما أرى، الزمن الحاضر، وكان هذا بالنسبة لي شيئًا غير مألوف، نعم هذا ما كان، كان كل شيء يبدو لي غير عادي.

التفت حولي، وأنا آمل في الوقوع على شيء استثنائي. ثم عدت إلى ساعتي، وأنا أحسها باردة حول معصمي. لمنعي من الارتعاش، أقنعت نفسي بالتقدم. قطعت حشرة الفضاء الجامد أمام عينيّ كالسهم، وملأ طنينها أذنيّ. قامت بنصف دورة، وعادت تقصفني. لمحت وميض عينيها، وقدرت مدى عزمها. عندما قررت خوض الحرب ضد الحشرة الليلية، وراود الحشرة الشعور بالهزيمة أمامي، اختارت الابتعاد، لتهيئ بشكل أفضل هجومها الجديد، كما كنت أفترض. رأيتها تحلق بعيدًا عني، قرب المصباح. لوحت بقبضتي مهددًا، لكنها تجاهلتني تمامًا.
خفضت رأسي، وتابعت طريقي. كان من اللازم الذهاب إلى مكان ما. كان من اللازم الاختيار بين قضاء باقي الليل في الأزقة الرطبة الضيقة واللجوء إلى مكان ما، مسجد أو كنيسة مثلاً. لكني رفضت الذهاب إليهما. كان مجرد التفكير في قضاء جزء من الليل ممددًا على بساط مهترئ أو جالسًا على مقعد منكسر يجعلني أتمرد على تنفيذ ذلك.

وأنا أخرج من الزقاق، لاح لي ضوء يومض غير بعيد. كان فندقًا. اتجهت صوبه، وأنا أفكر أنني سأطرق الباب، وأن موظف الاستقبال سيكون نائمًا. سأقول له: عفوك! لم أكن أعلم أنهم يقفلون باب العامود كل مساء على الساعة العاشرة. هذا يعني أن الوضع خطير للغاية. كل شيء لا يسير سيرًا حسنًا. – على العكس، كل شيء يسير سيرًا حسنًا، يا سيدي! والبرهان أنت، زبون يأتينا بعد منتصف الليل. – لديكم حجرة على التأكيد. – سرير واحد؟ - نعم، سرير واحد. أنا وحدي. لا ترعبني الوحدة. لهذا السبب لم أفكر بعد في الزواج. – أنت محظوظ، يا سيدي، أما أنا فلا، وهو يعطيني المفتاح. يقول لي رقم الحجرة، ويشرح لي كيف الذهاب إليها. عندما أجد نفسي بين الجدران الأربعة، لا أخلع ثيابي. أرمي بنفسي على السرير في كامل ملابسي بدافع الحذر. لكن حرصًا على نظافة الفراش، من اللائق أن أخلع حذائي الموحل. لن أنسى إقفال الباب بالمفتاح. لصوص القدس يجولون ويصولون حتى عشية حرب كبيرة. سيمكنهم مراوغة تيقظ مسئول الاستقبال، وعلى الخصوص عندما يغفو، وستكون لهم حرية التصرف. هذه الليلة، لن أنساها ما حييت! وماذا أيضًا؟ آه! لن أنسى إقفال النوافذ.
لكن في اللحظة التي وصلت فيها إلى منتصف الطريق إلى الفندق، انطفأت الأضواء فجأة. دوت صفارة الإنذار، وجاءت خطوات مذعورة من كل مكان، محاصرة إياي. حركت يدي، ولكمت أحدهم كان يمضي أمامي بسرعة هائلة. كان كل ذلك شؤمًا. أحسست بالضيق في كل حركة من حركاتهم. دفعتني أجساد ضخمة، أجساد قاسية الملمس. ضربتني قبضات خشنة، قبضات عنيفة سقطت عليّ.
 إلى الملجأ، أيها الأبله!
 إنها غارة! إلى الملجأ!
 ما هذا الخازوق الذي يعيق العبور!
 ادفعوه!

وإذا بضربة عنيفة أقصى عنف، سحقت بطني، وأسقطت جسدي، وحجر شديد أقصى شدة، شج رأسي، وأفقدني وعيي.

كان نعيق صفارة الإنذار يتصادى في أذنيّ، وكان أحدهم يبلل وجهي ليعيدني إلى نفسي. لكن كلما عدت إلى نفسي، كلما تضاعف النفير. حاولت النهوض، أردت الصراخ، إلا أن صوتي اختنق. ساعدتني امرأة شابة على الاستلقاء، بدفعة رقيقة من يدها ضاغطة على صدري، وسوت الضماد على رأسي. عندما لاحظت أنني صرت أقرب إلى السكينة والهدوء، قالت لي مفترة الثغر:
 لم تكن غارة، ولكن طائرة استطلاع، لا أكثر.

فتحت فمي، فانعقد لساني كالحبل.
تابعت:
 تريد أن أقول لك كيف ولماذا أنت هنا، أليس كذلك؟

الحقيقة، كيف ولماذا كنت هناك؟ ومن جديد، فتحت فمي، لكني لم أتوصل إلى نطق أقل كلمة.

قالت:
 ليس ما حصل على مثل هذه الغرابة. في الواقع، أردتُ الركض إلى ملجأ غير بعيد عن مسكني كالجميع، ووجدتك مغميًا عليك على عتبة بابي.

لم أطمئن تمامًا. ضغطت عنقي، رأسي، جبهتي. حركت رأسي يمنة ويسرة، يسرة ويمنة، بينما هي تجلس على حافة السرير تنظر إليّ، تنتظر أن يفرغ الطفل الذي كنته مع كل تلك الفوضى من الحركات.

سألتني:
 كل شيء على ما يرام؟

لم أجبها لحذري الدائم.

نهضت، وأعطتني ظهرها، فارعة القوام، هيفاء، في قميص النوم. لم تتأخر عن العودة مع فنجان شاي في يدها. حركت الشاي، ثم وضعت الفنجان على طاولة صغيرة قربي. أخذت مجلسًا على مقعد غير بعيد من ساعة حائط، عُلق فوقه شمعدان ولوحة لم أستطع تبيان تفاصيلها. كان مصباح يتدلى من السقف، واطئ لدرجة به يصدم العابر رأسه عند المرور أسفله. كان حذائي موضوعًا على الأرض، وثيابي على السرير. لم يكن لحذري منها ما يبرره، أرسلت إليها نظرة مليئة بالشكر والعرفان، فابتسمت، ومرة أخرى سألتني:
 أنت على ما يرام الآن؟

قلت، وأنا ألمس الضماد:
 ما حصل لي أمر عادي. لم أكن أعرف ما أفعل، بقيت منزرعًا هناك، معترضًا طريقهم. الإنذار شيء جاد دومًا، ومن الواجب اتباع التعليمات التي يقول بها.

وتفتحت الوردة البيضاء في فمها.
 هل أنت على ما يرام الآن؟

قلت:
 أنا على ما يرام، بفضلك. أشكرك!

سرها ذلك. هزت بهدوء قدميها الحافيتين المطلية أظافرهما بالأحمر القاني. نصحتني بشرب الشاي قبل أن يبرد.

بقي أحدنا ينظر إلى الآخر طويلاً دون أن ينبس بكلمة. أربكني ذلك الوضع بعض الشيء. لم يكن سبب ارتباكي الحذر وإنما الخجل. كنت أعتزم البدء بالحديث، بتبادل بعض الكلمات مع مضيفتي، ثم لا، لم أكن أجرؤ. أردت أن أقول لها كلمة لطيفة، شكرها مرة أخرى، لكني لا أقول شيئًا. كنت أستمع إلى دقات الساعة فقط، وضربات قلبي. أما عن الوردة البيضاء في فمها، فلم تذبل، صفاء الليل السابح في أعماق عينيها لم يتعكر.

وأنا أهم بتوجيه بعض المدائح إليها، سألتني:
 هل تعتقد أنهم سيهجمون؟
 من؟ نحن أم هم؟
 نحن. سنهجم نحن، سنبدأ الحرب نحن. هل تستطيع أن تتصور العكس؟

لم أرغب في معارضتها. لم أشأ أن أقول لها هم الذين سيشنون الحرب، وأن البرهان على ذلك طائرة الاستطلاع تلك التي ظهرت في السماء في النصف الثاني من الليل. اكتفيت بقول:
 سيهجمون على أي حال.
 متى؟
 غدًا.
 في هذه الساعة، أنت تعني اليوم، خلال عدة ساعات، ربما هذه اللحظة.
 ربما.
 هل أنت مسرور؟

لم أرغب في صدمها. لم أشأ أن أقول لها إن هذا لا يبهجني. اكتفيت بإجابة:
 لستُ أدري.
 بالله عليك، لستَ تدري!
 لستُ أدري.
 لستَ تدري، تقول لستَ تدري!

ابتسمت، وأعدت مرتبكًا:
 لستُ أدري.
 هل تشك في قوتنا؟

ومرة أخرى، لم أشأ معارضتها ولا صدمها. أكدت بصوت خفيض:
 نحن أقوياء.
 إذن لماذا أنت لست مسرورًا؟ لأنهم كسروا لك رأسك؟

قلت مبتسمًا:
 ربما.
 لكنك تعرف جيدًا أن ذلك كان حادثًا. كانوا يتدافعون، وأنت كنت...

قاطعتها، وأنا آخذ رأسي بين يديّ، مرددًا بعياء:
 رأسي مثقل، مثقل...

تنهدت، وسكتت.

أغمضت عينيّ، وفكرت في نهديها، في عنقها، في لحمها الوردي. سلخت في الحلم شفتيّ لكثرة ما قبلت شفتيها، سلخت وجهي على فخذيها. عدة أمتار كانت تفصل ما بيننا، وكان عليّ فقط أن أقطع هذه المسافة القصيرة، أن أحطم كل شيء في طريقي. هذه هي حربي. عدت أفتح عينيّ، وسألتها:
 هل تسكنين وحدك في هذا البيت؟

ردت بعداوة مفاجئة:
 وماذا يهمك أن أكون وحدي أم لا؟
 أسأل فقط.
 أنا أرمنية، من أصل أرمني إن كنت تفضل ذلك. ولدت هنا، في القدس. ثقافتي المزدوجة لا تمنعني من الحلم بالعربية كل ليلة. مات والداي، منذ عدة سنوات.

أضافت محزنة:
 ربما كانا يطلان علينا الآن من الجنة.

قلت مبتسمًا:
 أتمنى ألا يسيئا الظن بنا.

مدت ساقيها، ورمت رأسها على مسند المقعد. هذا الجسد الرخص هو وطني. كان على بعد خطوتين مني، الشيء الوحيد الموجود بالنسبة لي. هذا الجسد الجليل والمشتهى هو حقيقتي. إنه الحقيقة الوحيدة التي تربطني. كل شيء في الخارج كذب في كذب: وطنيتهم وشجاعتهم، كل شيء زائف.

فكرت في أن هذه الأرمنية قد تكلمت منذ قليل عن "قوتنا" عندما سمعتها تضيف:
 أنا أعمل عند باتا.

ألقيت نظرة على حذائي، وأنا أكرر القول: لقد تكلمت عن "قوتنا"، وها هي تسهر الليل كله بانتظار مجد، "مجدنا". شعرت بالعار. شخص ولد هنا، يحلم بالعربية، يحق له امتلاك القدس.
وضعت عينيها عليّ، وتركت أصابعها تبحر في بحر شعرها الأسود.

 كما تلاحظ، أنا سمراء وشعري أسود، فلا أحد يصدقني عندما أقول إنني أرمنية. يحتجون على الحرية التي علمني إياها والداي، ويعتبرونني عربية مزيفة!
 على العكس، على العكس...

اعتدلت، وسألتني:
 أنت لست ضدي إذن؟
 على العكس، على العكس...
 أنت لست ضدي؟
 يجب أن يبقى المرء معتدلاً في أحكامه. بفضل هذه الحرية التي علمك إياها والداك أجدني لم أزل حيًا!

ضحكت برقة. كنت أسمع ضحكتها، ولدي شعور بأنني رقيقها. كان ذلك يجعلني سعيدًا. كلهم عبيد في الخارج، ومع ذلك يعتبرون أنفسهم أحرارًا، ويريدون استعباد العالم.

فجأة، وصلت ضوضاء من الخارج، وهذا الصراخ:
 عاهرة قذرة!

قُذفت قنينة نفط على النافذة، تبعها عود كبريت. تفجر الزجاج، والتهمت النار الستارة. استطعت إطفاء كل شيء.
 ونحن، أيتها العاهرة!

سارعت لأرى من هم أولئك الزعران الذين تثيرهم الحرب لدرجة الحلم بالسرقة والاغتصاب. هرب ثلاثة أشخاص أو أربعة بأقصى سرعة.
 إنه الثمن الذي على المرأة الحرة أن تدفعه في هذا البلد.
 أعتذر لأجلهم، أزقة القدس لم تُصنع من حجارة القداسة.
 ليس هذا بالخطير. أنا معتادة. لنعد إليك الآن. لو لم أكن هناك منذ قليل لما استطعت فعل شيء؟
 لاستطاع سيل الغضب العارم جرفي معه، سيل الغضب هذا الذي يخطئ أحيانًا في معرفة عدوه من صديقه كما لاحظنا منذ عدة لحظات.
 لم تكن تريد النزول إلى الملجأ، أليس كذلك؟ لماذا؟

لم أشأ أن أقول لها إن هذه الحرب ليست حربي، إنني أحذر من الملاجئ.
 لأنني أفضل الموت وحدي، بعيدًا عن الجميع.
 لأن في رأيك حتى في الملاجئ سيموت الناس؟
 ليس لديهم مخارج للنجاة، بينما في الخارج...
 أنت تنسى أن النصر سيكون حليفنا، وأنه إذا كان على البعض أن يموتوا، فهم أعداؤنا.

قلت للمرة الأولى دون رِياء:
 نصركم أتركه لكم، ولي حرية اختيار موتي.

غرزت أصابعها في لحم كتفها حائرة، في المخمل والحرير، في الشهوة والمتعة، وخنقتني الرغبة في تمزيق شفتيّ على كتفها العاري.
 أن تختار موتك هكذا لهو من البلاهة لما يذهب كل البلد إلى النصر، إلى الحياة، كل البلاهة.
قلت وأنا أفكر أنها تعتبرني أبله بالفعل:
 أفضل أن أبقى في الخارج، بعيدًا عن الملاجئ.
 ولكن لماذا؟

ضحكت بخجل، واخترت الصمت.

ساد الصمت ما بيننا. نظرت إلى المصباح المتدلي، والمصباح المتدلي ينظر بدوره إليّ. أثارت نظرتي انتباه مضيفتي. لم أكن كالآخرين. لم أكن أركض ساعة الخطر كالآخرين، إلى الملجأ. لم أكن أعريها بنظراتي قبل أن أدعوها أو أرغمها على النوم معي. لم أكن شخصًا يغتصب الحياة الخاصة لشخص، حتى ولو كان جالسًا نصف عار أمامي. هكذا كنت، وهكذا سأكون، رغم كل الرغبة التي كنت أكابدها في تلك اللحظة، ولم أكن مسرورًا من نفسي. حتى هذه الحرب، حربي، حرب الحب هذه، وربما حرب الكره، يجعلونني أخسرها سلفًا.

بعد قليل الوقت، نهضت قائلة:
 سآوي في الحجرة المجاورة، إذا ما احتجت شيئًا ما عليك سوى أن تناديني. سأنهض في الحال، لأن ملائكتي خفيفة.

وأطفأت دافعة إياي في هاوية غائرة. شحذ الأثاث أنيابه التي بدأت بالتهامي، بتمزيق لحمي. انفصلت الأمواج عن الليل، وغمرتني. ليل تيه. ليل منفى. أحسست بنفسي أغرق في ذلك الليل المضل. ما لبثت أن ناديت:
 اتركي الضوء، من فضلك!

اعترت صوتي رعشة، فعادت تضيء الحجرة. أخذتُ نفسًا مديدًا، واستمددتُ من بسمتها الشجاعة.

هَمْهَمَتْ:
 إذن هو طفل يخاف الظلام، ولم أكن أعلم! كما تريد. سأترك الضوء مشتعلاً حتى تنام.
وأعطتني ظهرها، فهتفت بها قبل أن تذهب:
 لم تقولي لي اسمك!

كنت أراها من الجانب، وكانت تبتسم. اتحد الخفق بين قلبينا. فكرت أنني أحتل سريرها، وأنها تنام في الحجرة المجاورة. تخيلت ما كانت تفكر فيه: ربما كان عليّ قبول البقاء معه، لكنه يتركني أذهب دون أن يقول شيئًا، لأنه أبله، أو مغرور. له شكل الأبله، وفي العمق هو خجول كبير. يحذر حتى من مشاعره!

ومع ذلك، كانت تربطنا لحظة صغيرة الواحد بالآخر، عشر ثوان كبيرة صغيرة تثقل الوجود الذي كنا نحياه نحن الاثنان، كل واحد من جهته. إنها لحظة ضائعة، أو إنها لحظة نتركها تفلت. قصيرة وهائلة في آن. ساكنة وخطرة. كل شيء يتقرر خلالها، وأبدًا بعدها، بعدها يكون الوقت قد فات. لقد بدأ العد العكسي، بما أن ساعة الصفر قد أزفت. عشرة، تسعة، ثمانية، سبعة، ستة، خمسة، أربعة، ثلاثة، اثنان، واحد، واحد، واحد، واحد... فكرت "صفر" بينما كانت تبتسم، لا مبالية، بريئة. ومع ذلك، كانت لها ابتسامة محرقة، فتيلة الزمن ولهب المعركة. فكرت في الصفر، وأنا أتعلق على شفتيها، كما لو كنت أريد تحاشي سقوطي، نهايتي. بجاه الإله! كيف يمكنني الوصول إلى الصفر، ووضع حد لحياة كاذبة بأكملها، لوجود عفن كامل، لكل الآمال الزائفة، لكل الأحلام الهدامة؟ وتلك الفاجعة المعلنة والممتنعة عن الولادة: واحد، واحد، واحد، واحد... الممتنعة عن أن تكون بيننا، المقتاتة من دمنا ودمعنا. واحد، واحد، واحد، واحد... قالت لي اسمها، وذهبت. ثم سمعت إغلاق بابها. تركت وراءها رائحة موت غامضة مختلطة بعطرها الأنثوي. شذى فكرتها عن الحياة أيضًا. وهذا "الواحد" الذي لا يني: واحد، واحد، واحد، واحد... والعقرب يتحرك، لكنه لا يتقدم. العقرب يغني، وأنا أفكر: لم تبق سوى ثانية، ثانية واحدة للاجتياز، واحدة، أخيرة، آخر ثانية، لكنها ثانية أخيرة عملاقة، تبدأ من حافة هذا السرير، وتنتهي بعد مليون عام من القهر.

وأنا أنهض، لم أفهم في الحال أنني قضيت عدة أيام نائمًا. ستة أيام. كانت الستارة مسدلة، وكان النهار في الخارج. كان يهيمن في الحجرة جو مفجع. قمت بعدة خطوات، خطوات مثقلة، خطوات شخص عاجز. وأنا أفكر فيها، قلت لنفسي إنها تنام في الحجرة المجاورة، ففتحت الباب، وألقيت نظرة في الممر. صمت غريب. ما لبثت أن عدت لأسحب الستارة. شمس غريبة.
فتحت النافذة، وتنفست بشراهة. هواء غريب. هواء مسيخ قبض عليّ من حنجرتي. كان صباحًا ليس ككل صباح! كان الزقاق خاليًا. كانت الدرجات الصاعدة إلى السماء، التي كان المسيح قد استعارها، تفوح برائحة الجريمة والاغتصاب. كانت الجدران باردة وعارية، والبلاط قذرًا. كانت تفوح عنها رائحة الدنس. كان الوقت باكرًا، وإلا لمحت على الأقل بعض الذباب. إلا إذا كان هناك تفسير آخر. نظرت إلى ساعتي: واقفة! قرصت قلبي عقرب. كان المهم ألا يتوقف قلبي عن الخفق. لم أكن أريد الموت. كان كذبًا ما كنت قد قلته بخصوص موتي، بخصوص ما يدعى اختياري. لم أكن سوى جبان بين جبناء آخرين. احتددت ضد نفسي، ضد غياب الناس في الطريق، الآلهة في مدينة الآلهة. كانت الشمس هناك، وعاصفة من الأفكار السوداء تكتسح دماغي. كان الزقاق ميتًا تمامًا، وأنا كنت لم أزل حيًا.

ذهبت إلى الممر. كان باب في الصدر، وثان على اليمين، وثالث على اليسار. فتحت الباب الذي في الصدر: الحمام. قلت لنفسي: الباب الذي على اليسار هو باب المطبخ على التأكيد. لم أفتحه. قرعت الباب الأيمن ثلاثًا، ولم أنتظر جوابًا. دفعته. انفتح، وهو يَصِرُّ. سرير غير مرتب، بقايا دخان لم ينقشع، لطخة من العفن ليست ابنة الأمس. أخذ قلبي يدق دقًا جنونيًا. أين كان يمكنها أن تكون؟ كان الكل يدفن نفسه في بيته، أما هي، فقد خرجت تاركة إياي وحدي. كنت وحدي في ذلك البيت الذي لم يكن لي، وحدي في العالم الذي كان للآخرين. فحصت ساعتي الواقفة من جديد. لم أعد أستطيع تصديق الوقت، كان الوقت قد مضى، وكنت نائمًا خلال قطعه لي. خلعت ساعتي، وألقيت بها في عرض الحائط. كم كان ذلك يدعو إلى الرثاء: الذي فعلته حطمت وقتًا محنطًا!

اتجهت بسرعة نحو الباب المقابل: المطبخ كما توقعت. كان المطبخ باردًا بقدر الأشياء التي كانت تحيط بي. لم أكن أتحسب خروجها، تركها لي وحدي، لم أكن أفكر في هربها مني، في هربها من البيت. كان بيتها. لم يكن بيتي. كان بيتها هي. كانت قد ذهبت للعمل، بكل بساطة. في المساء، بعد عملها، ستعود إلى البيت.

رجعت إلى الحجرة التي كنت قد نمت فيها. وأنا أخلع الضماد من حول رأسي، علقت عيناي بورقة متروكة على الطاولة الصغيرة. هببت إليها كي أتلقف الكلمات التالية: الحرب بدأت بينما كنت نائمًا، فلم أشأ إيقاظك. لا تحقد عليّ لأجل هذا، لأن هذه الحرب ستُكسب بغمضة عين، وأنت بحاجة إلى الراحة. استدعاني بشكل عاجل الفدائيون الذين سمعت عنهم حتمًا، ربما تأخرت هذا المساء، ربما لا أعود قبل الغد، وربما لن أعود أبدًا...

نظرت إلى أصابعي المتشنجة على قطعة الورق. كان إزميل نحات يحفر فيها الموت، وقد امتنع صراخ متحجر عن تحرير حنجرتي. فتحت فمي على سعته، فأفلت منه صفير أشبه بالفحيح. تلألأ العرق على جبيني، وما لبث أن فتك بكل جسدي. كان لدي انطباع أنني سقطت في بركة من الفضلات. كنت أحس بنفسي قذرًا حتى أعمق نقطة في كياني. تلويت، والدم يجمد في شراييني. أردت القيء، نعم، القيء، بصق ذاتي، بصق أحشائي. ومن النافذة، بكل قوة كنت أقدر عليها، عويت:
 النصر!

أجابتني قهقهات تتصادى في الزقاق.

كان الموت هناك، كان في كل مكان، كان فيّ. لمحت في آخر الزقاق الهدم الذي فعله القصف: البيوت السلفية، الأشجار الألفية، الفندق الذي كنت أريد النزول فيه تلك الليلة. سمعت سلسلة من الانفجارات. رأيت الحرب أخيرًا، لكنى داومت على البقاء وحدي، متروكًا، وحدي، مسحوقًا. الحذر الذي كنت أظنه طبيعيًا لدي كان أبًا لعدم اليقين. كانت سحابات الدخان تعلو في كل مكان، وأجنحة الرماد تتساقط. وعلى الرغم من كل هذا، كانت الشمس تشرق، بوقاحة، والصباح يرجع بسفاهة.

ارتديت ثيابي، وخرجت، وأنا أتقاذف من زقاق إلى آخر. أخذت الجدران تقص عليّ قصص الذين كانوا قد هدموها، وكانت البلاطات لم تزل تتأوه من حملها لأقدام العمالقة الذين كانوا قد مضوا بها. أمس، كنت أسير هنا، كنت أتمشى هنا، وأمس، كانوا قد دفعوني لأنني كنت أعيق العبور، أولئك الصغار، أولئك الأقزام الذين لم يكن شأن لهم، والذين كانوا يبحثون عن ملجأ. كانوا يعملون أقوياء على ضعفاء. سال دمعي. كنت أبكي على ضعف كل تلك النفوس "الشجاعة"، على هزيمة كل تلك الأشخاص "المنتصرة". كنت أبكي على ضعفي، وعلى هزيمتي عندما فكرت فيها فجأة، في مضيفتي الغريبة، تلك التي ضاع اسمها في غابة ذكرياتي. أردت الانطلاق بحثًا عنها، اتباع آثارها. أردت استعارة الطريق نفسها التي استعارتها، الطريق الوحيدة المفتوحة في تلك القدس المهدمة، المقتولة، فتقدمت للحاق بها، للحاق بحياة الشرف. قمت بخطوة إلى الأمام، خطوة في حربي، لأنني دخلتها منذ قليل. كنت متأكدًا. كانت حربي، خطواتي، طريقي، فعجلت الخطى، وأنا أرفع قدمًا من الأنقاض، أدفع قدمًا في...

كل نتيجة جديدة للجمع بين الطريحة والنقيضة في الجدل الهيغلي تخرج من تحليل نقدي تمهيدي: مرحلة من الهدم تسبقها وتعد لها.

إدغار لو روا

ماذا ستفعل، أيها الطائر البريّ؟

فكر سعدان في هذا السؤال قليلاً، ثم رفع عينيه إلى القمة الزرقاء لشجرة لوز. حمى عينيه من أشعة الشمس، وقال لنفسه: هذا حسن، سيكون النهار جميلاً! غرق بأصابعه في العشب، وأذاب الذهب في العينين، فأضاء النضار أهدابه. سيكون النهار جميلاً! كان قد وعد زوجته، نعيمة، إذا كان النهار جميلاً أن يفترشا العشب في المساء، ويلتحفا بالسماء.

شد انتباهه ماء الساقية الرقراق، فأحس بجريان الدم في عروقه، وانتفض على غناء البلابل. شعر بعضلات ذراعيه تتوتر كعضلات الجذافين، ورأى كيف رسمت أصابعه في العشب المراكب، وكيف أبحرت في بحر أخضر. ابتسم، وعاد يقول لنفسه: سيكون النهار جميلاً! اتسعت ابتسامته حتى بانت كل أسنانه، وسقط شعره الغزير على جبينه. كان يبتسم. كان يبتسم، ويبتسم. بقناعة. تابع بعينيه جناحي خُضَيْر يقطع السماء إلى عشه: سيكون الربيع جميلاً هذه السنة! نهض، وذهب إلى الساقية. وقف على حافتها، ونظر إلى الماء الرقراق. أراد أن يلقي بنفسه فيه، أن يغسل فيه كل بدنه. لكنه تردد: كان عمل كثير ينتظره في المزرعة.

مد قدمه الحافية في الماء معترضًا مجرى السيل، وغطس بها في الزبد المحمول على ظهر المويجات الكسولة، لكنه ما لبث أن عاد على عقبيه، وراح يعدو. لم يبتعد سوى عدة أمتار قبل أن يوقفه بعض الضحك. بحث عن مصدر الضحك من حوله، ووقع على زينب التي أخذت تضحك بملء شدقيها. أي قوام مختال، قوام زينب! دخل حقل الكرنب، وكاد يوقعها، وهو يسارع إلى الوقوف قربها. كانت زينب تداوم على الضحك الشجي، وفي يدها رأس كبير من الكرنب الأخضر. ابتسم سعدان ببلاهة، وقال لها:
 اضحكي! هيا اضحكي!

توقفت زينب عن الضحك دفعة واحدة، وتطلعت إليه بعينيها العسليتين، الصافيتين، فحسب أنه يرى في مرآة عينيها وجه طفل بشعره الغزير المتساقط على جبينه وبأنفه الدقيق الدبق.
 اضحكي، يا زينب، اضحكي! لماذا لم تعودي تضحكين؟

أعطته ظهرها، وانحنت لتقطع رؤوس الكرنب، وتضعها في سلتها. بقي سعدان ينظر إليها إلى أن ناداه عبد القادر، رئيس العمال:
 سعدان، تعال!

لكن زينب رمته بنظرات والهة، وغدا لها شكل الأرملة الحزينة فجأة.
 سعدان، تعال هنا حالاً!

لم يكن سعدان سعيدًا، كان يجدف بين أسنانه:
 يا ابن الكلب، يا سعدان! ما الذي يريده من سعدان؟
 هل تأتي؟

صاح على مضض:
 أنا آت.

ثم لزينب:
 أي نهار جميل!

كان الثناء لها بقدر ما هو للنهار. استعادت زينب بساطتها ومرحها، وأفلتت ضحكة صغيرة كي تسعده، بينما لم يزل عبد القادر يطلبه. تغضن وجه سعدان، وهو يكز على أسنانه مَغيظًا من نفسه:
 يا ابن الكلب، يا سعدان! لماذا لا يدعه وشأنه؟

كان يريد أن يبعث به إلى الشيطان، لكنه أجاب:
 سآتي!

أحس بخدر في ساقيه، فتحرك خطوة باتجاه زينب، وأعاد:
 أي نهار جميل!

كان ينعكس على الوجه الأسمر الريفي اخضرار الأرض، وكانت تترك نفسها تروح مع ذلك الاختلاج السخي لأجنحة طيور تحلق في الأجواء. فتحت فمها في الأخير، وقالت:
 اذهب إليه! هناك ما تعمله بانتظارك.

تأمل شفتيها مليًا، ثم أعطاها ظهره، والتحق بعبد القادر:
 ما الذي تريده من سعدان؟

رمى عبد القادر باستهزاء:
 أريد أن أتركه يتنزه، على أن يركب البغل لئلا يتعب قدميه. وعند عودته في المساء، أن أغلي له كوبًا من الشاي، وأفرش لسموه وسائد الحرير على الأرض!

نفخ عبد القادر، وأخذ يمسح بكوفيته العرق عن وجهه. نظر سعدان إلى وجنتيه المترهلتين قائلاً لنفسه: كأن لحمه من عجين!

قال عبد القادر:
 البيك كان هنا منذ قليل، وسأل عنك. قلت له إنك ذهبت بالخيول عند الحداد من أجل الحدوات.
 لكني لم أذهب بالخيول عند الحداد من أجل...
 إلى متى ستبقى طفلاً ساذجًا، يا سعدان؟ قلت له ذلك من أجلك، كذبت عليه لصالحك. هل تفهم الآن، أيها الطفل الأبله؟

عاد سعدان إلى تأمل الوجه العجيني.
 لو قلت له الحقيقة، لو قلت له إنك تمضي وقتك في ألا تعمل شيئًا، في الحلم أو الابتسام لزينب بغباء، أنت تعرف جيدًا ماذا سيكون عقابك.
 نعم، أعرف.
 إذن إذا أردت مواصلة اللعب كالأطفال في مثل سنك، فحذار من اللعب بالنار، وإلا طيرك التيار، ورماك في جوفها، وبعدها، سيكون ضياعك إلى الأبد بعدها.

كانت كلمات عبد القادر تشعره بجرم لم يرتكبه. مضى طائر فوقهما، وذهب الشمس يتموج على جناحيه. أراد سعدان أن يقول إنه كان يحسب نفسه طائرًا، إن كل تلك الأعشاش كانت له، إنه سيلقي بنفسه في الساقية، ويعوم في الماء البارد، لكنه لم يجرؤ على ذلك.
قال:
 إذن من الواجب عليّ أن أذهب بها.
 أن تذهب بها إلى أين، أيها الأبله؟
 بما أنك قلت للبيك يجب عليّ أن أذهب بالخيول عند الحداد.

رمى عبد القادر رأس الكرنب الذي قطعه في السلة، والشرر يتطاير من سكينه. قال، وهو يقهقه:
 يا له من طفل أبله! هل تظن أنها تنتظرك؟ لقد ذهبت بها بنفسي مع شروق الشمس.
قفز سعدان من الفرح، وهو يصفق، ويصيح:
 الله يحييك، يا عبد القادر! الله يحيي شنباتك!

ارتمى عليه شادًا إياه من خاصرتيه، لكن عبد القادر دفعه عنه مبعدًا، وهو يردد:
 توقف، أيها المجنون، توقف!

رفعت زينب رأسها، وصاحت،
 ماذا جرى له؟
 إنه مجنون! إنه طفل في كامل الحماقة، هذا كل ما هنالك!

تبسمت زينب عن لؤلؤ، وعبد القادر يردد: توقف! توقف!

قال سعدان، وهو يقطر نشوة:
 إذا أتيت عندي هذا المساء، طلبت من نعيمة أن تغلي لك إبريقًا من الشاي تشربه وحدك.
تذكر أن تلك الليلة ليلته، أنه سيقضيها في الحقل مع زوجته، لكنه قال لنفسه إن عبد القادر لن يأتي. وبالفعل، سمعه يقول:
 سنشرب الشاي في يوم آخر.

قبض عليه سعدان من ذراعه، لحظة، ثم خلاه. لم يلح، أخذ سلة وسكينًا ماضيًا ليقطع رؤوس الكرنب عندما قال رئيس العمال له:
 هناك عمل آخر ينتظرك.

شخص سعدان، وسأل:
 أوامر البيك؟
 ومن غيره يعطي الأوامر؟
 أنا أسأل فقط.
 نعم، أوامر البيك.

أضاف عبد القادر، وهو يقترب منه، ويطوي سكينه:
 عليك الذهاب إلى الحظيرة، ونقل القش إلى الإسطبل، فسيأتي البيك بحاضنة لتفريخ البيض يضعها هناك.
 أنقل القش إلى الإسطبل؟
 وقبل المغرب عليك أن تنتهي لتذهب في طلب الخيول.

رمى سعدان سلة القصب على الأرض ثم زرع سكينه في أحد رؤوس الكرنب الخضراء، والشفرة تهتز.

سأل سعدان:
 هذا كل ما هنالك؟
 هذا كل ما هنالك. حتى الساعة.

أعطى ظهره لرئيس العمال، وسار عدة خطوات، فقال هذا الأخير:
 ها أنا أنبهك! إياك أن تخدعك الشمس، فتترك العمل لتنام!

ابتسم سعدان، وعاد يأخذ طريقه، وهو ينظر إلى زينب، وزينب ترافقها نظرات الهيام الرقيقة، ثم صاح بأعلى صوت يقدر عليه:
 هذا النهار أجمل نهارات حياتي!

وانطلق يجري.

دخل الحظيرة كالسهم، فتفرقت الدجاجات هنا وهناك، وقاقت بهلع، بينما طار الديوك فوق الرفوف للالتحاق بإناثها، والخروج معها. تجمع سرب من الدجاج على عتبة الباب، وراح يختلس النظر إلى سعدان، فكش تلك الطيور الفضولية، وهو يضرب يديه على فخذيه، وهو يتظاهر بعزمه على ذبحها، حتى تفرقت خائفة في زوايا الفناء الأربع. كانت سذاجة الطيور تسلي سعدان كثيرًا، وكان عليه أن ينقل جبل القش من الحظيرة إلى الإسطبل، وأن ينتهي من كل شيء قبل غروب الشمس. عاير جبل الذهب ذاك من فوق إلى تحت، أخذ منه حزمة، وشم رائحتها مفكرًا: عندما نموت تكون لنا نفس الرائحة! أقلقته هذه الفكرة: لأنه كان شابًا، ولأن أباه علمه أن يحب الأرض والحياة. نثر حزمة كبيرة من القش على الأرض الملوثة بالروث، وجعلها ذهبية. جر عربة خشبية ذات عجلة واحدة، وفي الوقت نفسه طار ديك منها إلى أحد الرفوف، ولولا أن خفض سعدان رأسه لضربه الضيف في جبينه. التحق الديك بباقي إخوته وأخواته في الفناء، ففكر سعدان: لقد تركني وحدي! حرك مذراته، وقال لنفسه: هذا حسن! لنبدأ بهدم الجبل! زرع مذراته في بطن ما كان يدعوه "جبل"، ورفع كومة من القش رماها في العربة. انتشرت رائحة القش في كل مكان، وأثملته. عندما امتلأت العربة، دفعها حتى الإسطبل حيث لم يكن سوى بغل عجوز لم يميز سعدان وجوده إلا بعد أن اعتاد على العتمة. كان الحيوان ينظر إلي الفلاح الشاب بعينيه الحزينتين، فقال سعدان لنفسه: بغل أضاع حياته! أما عنه، فدم الشباب كان يسيل في شرايينه. وقف أمام البغل، وتبادل معه نظرات مفيضة بالحنان. كان كل منهما يريد أن يقول شيئًا للآخر، وما كان البغل العجوز يريد إفهامه لا علاقة له البتة بالشباب أو الشيخوخة. لاحظ سعدان أن الحوض كان مليئًا بالماء القذر، فحك رأسه حائرًا، وهو يفكر في الحالة التي يعيش فيها الحيوان. قال لنفسه إنه في يوم من الأيام سيكون أشبه بهذا البغل العجوز المنسي، وسيأتي أحدهم إليه، يكون في مثل حيويته وشبابه، سينظر إليه في العتمة، ولن يتبادل معه الكلام. كانت المرة الأولى التي تراوده فيها فكرة كهذه، هو الطفل "الأبله"، مجنون الطبيعة، المجنون بكل بساطة. قلب العربة، وعاد إلى الحظيرة.

كانت لآلئ المساء تداعب بأصابعها الشفيفة جبين سعدان، ففاض قلبه حبًا بها. هتف سعدان: نعم، كنت أعرف أن المساء سيكون جميلاً! عاد بالخيول الصهباء الثلاثة، وهو يجرها من اللجام مبتسمًا، والحيوانات الجميلة كانت تتبعه صاهلة، متبخترة. كان عليه الذهاب لإحضارها قبل الغروب، لكن نقل جبل القش قد أخذ منه وقتًا كثيرًا. هل سيوبخونه على ذلك؟ لم يكن ليهتم بذلك والقُبّة النجومية هي له الآن. غنى طائر الليل، وداعبت الأنسام العليلة شعره، فضم الطفل الكبير الطبيعة. ضمها بقوة حتى غدت جزءًا من لحمه. نسي الدرب الطويل، الغمام الأسود القابع خلف الضفة الأخرى لبحيرة الليل. نسي ما كان ينتظره ما بعد دربه. منذ وقت ليس بالبعيد، مواجهته مع البغل ذي شروط الحياة التعسة كانت لحظة نادرة في وجوده. كان سعدان يعيش من يوم ليوم، وعندما كان ينظر إلى المستقبل، لم يكن يفكر إلا في أشياء سارة. أخذ على نفسه تأخره: نعيمة بانتظاري، تركتها تنتظر طويلاً! جر الخيول بحزم، وعجل الخطى.

قرب الإسطبل، كان الليل حالكًا بغرابة، وبينما هو يقترب بحذر، لمح شبح أحدهم كان ينتظره. أحس بقلبه ينقبض، فسقط عليه صوت خشن:
 أين كنت لتعود بخيولي حتى هذه الساعة؟

عرف صوت البيك، وفكر: كم الليل حالك من هنا! انتابه شعور عميق بالذنب في اللحظة التي عاد فيها الصوت الخشن يسأله:
 إذن أين كنت؟

تقدم سعدان مواجهًا سيده، فبدا مسخًا أمام البيك، العملاق البدوي. كان البيك قد عُين حاكمًا عسكريًا قبل أن يمتلك كل المنطقة. أفلتت الكلمات من سعدان، فأشار إلى الخيول بإصبعه دون أن يكف عن النظر إلى السوط المهدد في القبضة الشرسة.

أعاد البيك، وهو يدفع بمقبض السوط سعدان في كتفه جاعلاً إياه يتراجع في الوقت ذاته والخيول:
 هل يمكنك أن تقول لي أين كنت حتى هذه الساعة؟

أجاب:
 ذهبت من أجلها، لأعود بها.

صفعه البيك:
 حتى هذه الساعة!
 تأخرت في نقل القش، كان كثيرًا!

عاد يصفعه:
 كثيرًا!

أفلت سعدان الأعنة ليخفف من التهاب وجنته القليل، دون نجاح. ردد مضطربًا:
 سيدي... سيدي...

ساطه سيده، فتوقد الليل، وشبت الخيول.
 سيدي... سيدي...

ركع على قدمي سيده ليقبلهما، والبيك يصرخ ويلهث لشد ما ساطه:
 قل أيضًا! أعد إلى ما لا نهاية!
 سيدي... سيدي...

مزق السوط كتفه، وسال الدم. كان سعدان مجنون الألم.

أمر البيك، وهو يدقه بقدمه:
 انهض!

رفع سعدان على سيده عينين مليئتين بالدمع، وهمهم:
 أقسم لك... أقسم لك...

لكنه ساطه أيضًا وأيضًا، فزرع سعدان أظافره في الأرض مكررًا:
 أقسم لك... أقسم لك...

سأل البيك، وهو يطحن أسنانه:
 ماذا يعني هذا؟
 أقسم لك... أقسم لك...

ضربه بقدمه:
 انهض!

اعتمد سعدان على يديه وقدميه دون أن يستطيع النهوض. كان الألم يسمره في الأرض، بينما كان البيك يأمر:
 قلت لك انهض!

استطاع الفلاح الشاب أن يقف في الأخير. كان دمه يسيل، والحصى يضحك منه. جره البيك من خناقه حتى الإسطبل:
 ستنقل هذا القش إلى الفناء حتى ولو قعدت الليل بطوله، أريده في الفناء، وليس هنا، في الفناء، مفهوم؟
وأعطاه ضربة عنيفة في معدته. سقط سعدان على القش، وابتلعه جبل الذهب. تركه البيك، وغادر المكان.

أيها الطائر! أيها الطائر!
كانت نعيمة تجري في الليل بحثًا عن سعدان، وكانت تفكر: لم يعد الطائر إلى العش هذا المساء! أحست بالفرخ الذي كان ينمو في بطنها يتحرك بشكل يدعو إلى القلق. عندما كانت تفكر في زوجها، كان الفرخ يحك منقاره ببطنها. كان يريد أن يُضحكها، وكانت تقول لنفسها: آه! كم هو مدلل، فرخي. لم يكن الوقت للدعابة. كانت قلقة على سعدان الذي لم يعد إلى العش ككل مساء.
لمحت على أرض الفناء بقعة حمراء كانت تعكس ضوء القمر، فخفق قلبها بقوة. جثت بثوب الفلاحة الطويل المطرز، ولمست كتل الدم اللزجة. ثم، نادته بعينين محملقتين:
 سعدان!

وانفجرت باكية. أخذت تجري في كل الاتجاهات دون أن تدري إلى أين تذهب. كانت الخيول تقضم العشب، وتمضغه بهدوء، فأقلقتها لامبالاتها في تلك اللحظة الجسيمة. دفعت باب الحظيرة، فانتصبت بعض الأعناق المريشة، وحدقت فيها بعض العيون المدورة. قوقأت إحدى الدجاجات كأنها تسأل عم كانت تفعله هناك، فعادت نعيمة أدراجها، ونادت من جديد:
 سعدان!

جرت نحو الإسطبل الغارق في محيط من القش والظلام، وألقت نظرة عبر الأمواج السوداء والذهبية، فلاحظت أن البغل العجوز كان يبكي. كانت دمعة كبيرة تفلت من عينيه، وكانت تضيء نظرته الحزينة. توقفت نعيمة عن البكاء، لكن عضلاتها ظلت تتقلص. وهي تنظر حولها، وقعت على قدم كانت تتحرك بصعوبة، وكان كل جسد سعدان لا يتحرك، فهرعت إليه، صائحة: سعدان! أيها الشقي، يا سعدان! وجذبته إلى صدرها. حاولت قليلاً تنظيف جراحه، وعادت إلى البكاء.

ساعدها البغل العجوز على نقل سعدان حتى الساقية. عهدت به إلى الحيوان العطوف الوقت الذي تذهب فيه لإحضار بعض الدقيق من كوخهم، دقيق عجنته، وبسطته على الجراح. مزقت طرف ثوبها لتعمل له ضمادًا، وسعدان ينظر إليها مبتسمًا.
سألته:
 هل أنت أحسن؟ قل لي إذا كنت تشعر بالتحسن.

واصل النظر إليها، وهو يبتسم. كانت بسمته تشبه ابتهالاً شقيًا، ارتعاشًا موجعًا. قالت، وقلبها مفعم بالألم:
 لا تتألم، يا سعدان، أنا هنا!
جذبها إلى صدره، لكنها ابتعدت، وابتهلت:
 توقف عن الألم، يا سعدان! إياك أن تتألم أبدًا!

همهم سعدان:
 مساء جميل! أليسه مساءً جميلاً؟
أمالت رأسها، ونظرت بعينين زائغتين إلى الساقية.

حدثها سعدان عن كل شيء: غضب البيك، أوامره، ضربات السياط. كانت عينا نعيمة تضيعان دومًا في الساقية. تأمل عنقها، ورغب في أن يلتهم بأصابعه العاج. نظر إلى ضفيرتيها، وترك أصابعه تطيران للالتقاء بهما. أخذ ينقل الذهب من عقدهما الفحمية، ويلقيه في الهواء. كان سعدان يتسلى كما لو نسي كل شيء. ملك نعيمة الخوف، فهتفت:
 أعرف أنك لست أبله، كما يدعي الجميع، لكنك ستبقى الطفل الذي هو أنت حتى ولو مزقوك إربًا!

فكر سعدان: كم أحب هذه المرأة! ارتعشت شفتاه، وأراد أن يبكي على صدرها، أن يقول لها إنه يحبها، يحبها، نعم، يحبها. أضافت بين زفراتها:

 سأقتل نفسي لو يقتلونك!
 لا تكوني مجنونة!

لم تتمالك نفسها:
 سأكون مجنونة، سأكون مجنونة، وسأقتل نفسي ليموت الطفل معي، ولا يعرف أبدًا آلام هذه الحياة.

اقترب سعدان منها، وأراد أن يأخذها بين ذراعيه. نظر إلى عينيها الحزينتين، واجتاحت قلبه عاصفة من الحب. لمس بطنها بأصابعه المتكسرة، وضغطه، وهو يحس بحركة الطفل. ضغط البطن بقوة أكثر فأكثر بلا شعور منه، وهو يفكر: أريد أن يكون ولدًا! كان يمكنه خنق الصغير. وعلى حين غرة، أعاده ضحك نعيمة الشهواني إلى الواقع، قاذفًا به على الأرض من جديد، جريحًا، بلا قوة، ولا إرادة.

قالت:
 أنت تدغدغني. ارفع يدك!

قال بصوت غريب:
 نعيمة!

وعاد لها قلقها وحزنها. تابعت تلك الغيمة القاتمة في عينيه. انتظرت أن يتكلم، لكنه هز رأسه لمرات ثلاث، وأخذ يضغط جراحه تحت الضمادات ضغطًا خفيفًا. أمال رأسه نحو الأرض، وهو يبحث بين الحصى عن الحجر الذي سخر به. لمست نعيمة كتفه، فقال كما لو وجد كلماته:
 ليكن كل شيء واضحًا ما بيننا، أريد أن يكون ولدًا!

وضع يد زوجته على صدره، فأحست بقلب سعدان يسارع الخفق. قالت لنفسها: كم يبالغ في رغباته! في الواقع، أبدًا لم تكن رغباته تتحقق كما يريد، أبدًا لم يكن يستطيع أن يفعل منها ما يريد. عذب روحها نداء غامض، فأجابت آسفة:
 ليت الأمر كان بيدي!

ترك يدها، واستشاط غضبًا:
 أريد أن يكون ولدًا وإلا قتلته!

أرادت أن تسأله لماذا، لكنها قالت لنفسها، وهي تنظر إليه برقة، إن لديه الحق ربما، هكذا يغدو ولدها رجلاً قويًا وشجاعًا ذات يوم. فك سعدان ضفيرتها الأولى. زحف بأصابعه الجسورة حتى ضفيرتها الثانية، وفكها أيضًا. نثر شعر الليل، وهو يفكر: شعر ماجن! شعر أسود ماجن! كانت ناحية عدم الحياء هذه التي تثيره لدى زوجته، الخجولة مع ذلك والمحتشمة.
هتف، وكله ابتسام:
 إذا كان ولدًا صنعت منه البيك الذي أريد أو على الأقل رجلاً كبيرًا كالبيك.

عبست نعيمة، وجعلتها تلك الفكرة المرعبة بشعة التقاطيع.

قالت:
 إذا كان الأمر كذلك، أجهضت نفسي.
 نعيمة، لماذا؟
 لأن الرجال كالبيك هم أشرار، وأنا أريد ابنًا طيبًا.
بالمقابل، كانت لا تعجبه هذه الناحية الأخلاقية. كان، هو، طيبًا بطبعه، ولكن ماذا استفاد؟ إذا أصبح ابنه كالبيك قويًا أصبح هو أيضًا قويًا، وأمكنه امتلاك المزارع وبيتًا من حجر. قال لنفسه: لكني لن أشتري له سوطًا! وعادت إليه أوجاعه من جديد.

قال كمن يتعزى:
 البكوات ليسوا كلهم أشرارًا.
 بلى. كلهم أشرار، وأنا أكرههم. إياك أن تفكر في أن تجعل من ابننا بيك زمانه!
 لماذا؟
 سبق وقلت لك. وفوق ذلك، ابن الفلاح لن يكون أبدًا بيك كل الفلاحين!
 سيكون بيك كل الفلاحين، لكنه لن يسمي نفسه البيك. سيكون البيك، لكن بشكل آخر.
 أنت، أيها الأبله، من تحسب نفسك؟ سيد المغول؟ قلت لك ألا تفكر في هذا.

حط الصمت بينهما، توقف طائر الليل عن الصداح، لم تعد نجوم السماء تتلألأ، لم تعد شفاه الأشجار تهمس. مضت عدة لحظات دون أن يكسر سعدان الصمت. وفي النهاية، جرؤ على قول:
 حسنًا، لن أفكر في هذا، لكني مع ذلك أريد أن يكون ولدًا.

أخذت يده بين يديها، وقالت كما لو كانت ثملى:
 غدًا، عندما سنكبر غدًا، سيأتي إلى عوننا، أليس كذلك؟

انفجر سعدان ضاحكًا:
 أنت أيضًا تريدين أن يكون ولدًا.
 سيشتري لنا حصانًا يساعدنا على التنقل.

مسح بيده على جبينها، وأراد عناقها، لكنه اكتفى بقول:
 حصان واحد فقط؟ سيشتري لنا عربة تجرها أربعة خيول.

هتفت بفرح:
 أربعة خيول دفعة واحدة؟

أكد، وهو يترك نفسه إلى الفرح هو أيضًا:
 نعم، أربعة خيول دفعة واحدة.
 آه! كم هو طيب، كم هو يحب والديه! لكن...

ترددت، وغدت شاحبة، حزينة:
 أنا خائفة، يا سعدان!

ترددت أكثر، وشدت يده بقوة بين يديها:
 أنا خائفة من أن تكون بنتًا.

انتفض، وسحب يده مهمهمًا:
 أبعد الله عنا الشر! سيكون يوم نحس لنا جميعًا!
 مع ذلك البنات فيهن الخير، أليس كذلك؟
 لسن على الرحب والسعة دومًا.
 البنات فيهن الخير مع ذلك، هذا ما كانت جدتي قد قالته لأبويّ يوم ميلادي.

فكر سعدان: يا لها من شقية. لم يكن يتمنى لابنته أن تعاني الآلام نفسها.
 أوقفي التفكير في هذا! لا أريد أن تحدثيني عنه!

غمرت يدها في المجرى، والماء الرقراق يداوم على السريان. حتى ولو أوقفت التفكير في هذا، فسيحصل ما يجب عليه أن يحصل. قالت لنفسها: بنت أم ولد، طيب أم شرير، هذا شيء يتجاوزنا على كل حال، لا نستطيع أمامه شيئًا. عاد طائر الليل إلى الصداح، والنجوم إلى التلألؤ، والشجر إلى الهمس. فجأة، سمعته يقول:
 أحبك، يا نعيمة! أحبك أكثر من كل شيء!

كانت خائفة من أن تسبب له الألم، لكنها رغبت في وضع ثغرها على ثغره، كالطيور، وفي عض منقاره. اقترب سعدان بأصابعه من ظهرها، وزلق بأصابعه الموجعة حتى تجويف خاصرتيها. أراد أن ينزع عنها ثوبها، ويلقي به في الماء، لكنها حالت دون ذلك.

سألته:
 وجبل القش؟ عليك أن تنقله أولاً.

كان سعدان يفكر: حقًا إنه مسائي! وكان النرجس يتفتح على ضفة البحيرة السماوية.

في الصباح التالي، حضر عبد القادر عند سعدان. أعلمه أن البيك يريد رؤيته، ولما جاءه سعدان، أمره البيك بقطع أشجار الغابة ابتداء من اليوم. كان عليه أن يسوّي الأرض التي سيبني البيك عليها حاضنة لتفريخ البيض. لم تكن الحظيرة واسعة بما فيه الكفاية ولا عملية. خلال ذلك، ستحل نعيمة محله في الحقول، وبالطبع لسوف تعفى من أعمالها المرهِقة في القصر.

حمل سعدان فأسه، وذهب إلى الغابة. كان الجو جميلاً، والحرارة خفيفة، والنسمة لطيفة، والأخضر والأزرق سيدي المكان. كان المرء ليحسب نفسه في الفردوس! بقي يقف طويلاً بين الأشجار، وهو يعانقها بعينيه واحدة واحدة. فكر أنه سيقطعها، وسيقتلعها بوحشية الهالكين في الجحيم. على منظر فأسه، كانت أسراب الطيور تغرد مع ذلك. قال سعدان لنفسه: الطيور لا تعرف الارتياب! احتار بين أن يزرع فأسه في جذوع الشجر أم في قلبه، لكن جبنه سيجعل منه الرجل الأكثر شجاعة.

زرع سعدان فأسه في جذع صنوبرة، وهو يهمهم بحزن: سأقتلعها من الجذور، وسأفزع الأفراخ! عاد يزرع في الجذر فأسه، ففتح فيه جرحًا أبيض. أخذ يسدد في الجرح الضربات، في صميمه، حتى مالت الشجرة، والطيور لا تفطن إلى ما يقوم به، كانت تواصل الغناء، وهو يواصل تسديد رأس فأسه في جرح الصنوبرة الأبيض، وقلبه قاس كالحجر. هكذا كان يترجم جبنه: بدلاً من أن يسدد في قلبه الضربات، كان يسددها في قلب الصنوبرة، ويضع حدًا لحياتها. بدأت الشجرة تُخرج من حلقها الزفرات، فضربها سعدان ضربة الموت الأخيرة، لتنكسر، وتهوي. فزعت الطيور، وهربت بصغارها عن الأعشاش بعيدًا بعد أن انتهى بها الأمر إلى فهم أن أحدهم قد اعتدى عليها وهزمها، ولكن بعد فوات الأوان.

كانت الطيور الفزعة تحلق في كل الاتجاهات فوق رأس سعدان، وكان الشاب الفلاح يشعر بارتكابه الفعل الأكثر إجرامًا في حياته. رمى الفأس، وخف ليرى قمة الصنوبرة الساقطة على الأرض، فوجد عشًا مهدمًا، وبيضًا محطمًا، وأفراخ ضعيفة جدًا لا تقوى على العيش. أحس بمخالب أمها وأبيها تمزق له نياط القلب، وكان يلزمه الصراخ لشدة أوجاعه. فكر سعدان في الجنين الذي ينمو في بطن زوجه، وقال لنفسه: إنه الآن مثلها! وسالت على خده دمعة.

كانت الطيور تروح وتأتي في مجموعات صغيرة فوق رأسه، ففكر بحذر: تريد أن تشن حربًا! عندما نقره أحدها من جبينه، حمل فأسه، وهزها مهددًا، فخافت، وابتعدت. وليشجع نفسه، ردد سعدان: إنها أوامر البيك! فلق جذعًا آخر، ونفخ. كان يعرق، وكانت الطيور قد شكلت مجموعات أكثر أهمية، لكنها لا تجرؤ دومًا على الاقتراب منه، إلا أنها امتنعت عن التغريد.

في تلك الليلة، بكى سعدان. سألته زوجته السبب، فقال لها إنه سيموت عما قريب، لأنه اقترف جرمًا في حق الطيور بهدم أعشاشها. ارتمت بين ذراعيه، وقبلته من عينيه، ومن شفتيه، ورجته:
 إذا مت إياك أن تذهب وحدك، إذا مت خذني معك!

وهم على أبواب الخريف، قال سعدان لزوجه:
 قطعت شجرًا كثيرًا.
 وهل ستتوقف أم ماذا؟
 قال لي البيك أن أستمر. يريد أن تكون الحاضنة ضخمة.

ثم بصوت كاب:
 هدمت أعشاشًا كثيرة، وأكثر ما يقلقني مصير الطيور بلا مأوى.

تأمل بطن زوجه الضخم كجبل، وزلق بيده تحت الثوب، وضغط بطنها.

طلبت نعيمة:
 توقف! أنت توجعني!

سحب يده، ونظر طويلاً في عينيها، ثم جال بطرفه في كل أنحاء الكوخ.
 ماذا سنغدو، نحن، لو هدموا لنا عشنا؟

على هذه الكلمات الجارحة، قطبت نعيمة حاجبيها، واكفهرت عيناها.
أضاف سعدان:
 إن الأمر سواء، أليس كذلك؟

في ليلة المخاض، دفعت نعيمة كوعها في خاصرة سعدان، وهي تعض شفتها السفلى حتى النزيف، وتتلوى من أشد وجع. أشعل سعدان المصباح، وجذبها إليه. كان يتوجع لوجعها، وكان يفكر: هذه الليلة ليلتها. أراد أن يهرع في طلب عون أحدهم، لكنها نادته. كانت الأوجاع قد توقفت. قالت له:
 لا تحضر أحدًا.

عاد يتمدد إلى جانبها، ولف كتفيها بذراعه. اقترب بوجهه من وجهها، وحك ذقنه بذقنها.
سأل سعدان:
 لماذا، يا لعبتي؟ لماذا، يا طفلتي؟ لماذا لا تريدين أن أحضر أحدًا؟

أجابت نعيمة:
 لأنني أخجل من أن يراني أحد.
 لكنك بحاجة إلى عون.
 ستعينني أنت.
 ولكن... أنا لا أعرف شيئًا.
 سأقول لك، سأقول لك ما عليك فعله.

تفجرت الأمواج فيها بقوة أكثر فأكثر، وكأن بحرًا من الزجاج المسحوق كان يخترقها. كانت تصعد من خاصرتيها حتى حلقها، مزلزلة إياها من طرف إلى طرف. أفلت منها الدمع، وسعدان يبكي من الألم معها. كان يعاني مما تعاني، وكان كمن يلد هو.

لم تلبث نعيمة أن غرقت في العرق، فمسح سعدان بكمه جبينها، ووجنتيها، وذقنها.

ابتسمت نعيمة، وسألت:
 أنت تفعل هذا من أجلي أم من أجل الولد؟
 من أجلك، أفعل هذا من أجلك.
 ومن أجل الولد.
 من أجلكما أنتما الاثنان، أفعل هذا من أجلكما أنتما الاثنان.
 آه! يا له من شقيّ، هذا الولد الذي يعذب أمه!
 نعم، يا له من شقيّ!
 ليس بالشقيّ الآن.
 نعم، ليس بالشقيّ الآن.

فكرت قليلاً، ثم:
 كيف سنسميه؟

لم يجب سعدان. شحبت ابتسامة نعيمة.
 قل لي، يا سعدان. كيف سنسميه؟

نهض، لكنها أمسكته من ذراعه.
 لا تتركني، يا سعدان.
 إذا تركتك في الحالة التي أنت عليها مت. سأذهب لأحضر زوجة عبد القادر.
 لا، يا سعدان. قلت لك إنني لا أريد أحدًا أن يراني.

غابت قليلاً، ثم:
 دومًا ما كانت أمي ترفض أن يراها أحد، وكانت تلد وحدها.
 ولكن، إنه لمن الجنون! جنون طفلة فاقدة الرشد تمامًا!
 من فينا فاقد الرشد أكثر، أنا أم أنت؟
 لست فاقد الرشد في اللحظات العسيرة.

ضحكت على الرغم منها:
 أنت تضحكني، يا سعدان!

مال عليها، وهو شديد القلق، وداعب وجنتيها وعنقها مهمهمًا:
 أحبك! انتبهي على نفسك! أنت لديك إرادة الحديد، أليس كذلك؟ كوني قوية!
عادت إلى الضحك على الرغم منها:
 أنا أم أنت من عليه أن يكون قويًا! اذهب وانظر إلى نفسك في المرآة، هيا، اذهب. لا تخش شيئًا، في البداية لا تجيء الطلقات تباعًا، هناك فترات طويلة أحيانًا. أنا لا أمسكك. اذهب وانظر إلى نفسك في المرآة، لتضحك قليلاً.

ابتسم سعدان دون أن يتحرك. فكرت في أنه قال لها "أحبك"، فغمرها شعاع سماوي.
همهمت:
 وأنا أيضًا، أحبك!

شحبت ابتسامتها شيئًا فشيئًا، ثم:
 لم تقل لي كيف سنسمي ابننا.
 لم أفكر في ذلك.
 إلى هذه الدرجة تكرهه؟

لم يجب.
 قل، أتكرهه إلى هذه الدرجة؟
 أنا لا أكرهه، لكنه يؤلمك بشدة.

مدت له يدها، فشدها بقوة. كانت باردة كقطعة الجليد:
 لا بأس في هذا، سيبقى ولدًا طيبًا، أليس كذلك؟
 أرجو ذلك.
 أنت ترجو ذلك؟ هل نسيت العربة التي تجرها الخيول الأربعة، العربة التي سيشتريها لنا عندما نصبح كبارًا؟ إنه ولد طيب.
 نعم، إنه ولد طيب.
 ولد طيب سيعنى بأمه العجوز الصغيرة، وبأبيه الشيخ الصغير.
 نعم، ولد طيب سيعنى بأمه العجوز الصغيرة، وبأبيه الشيخ الصغير.
 حسنًا. سخن الآن دلو الماء، واحضر الطشت هنا، قربي. احضر لي أيضًا الحفاضات، إنها جاهزة هناك، في الدولاب. هيأتها مع أسمال ولدنا. وانتبه جيدًا على ألا تُلبس الصغير قبل أن تغسله وإلا وسختها كلها. هيا، قم وافعل ما قلته لك.

خطا سعدان خطوتين، لكنها ما لبثت أن نادته، وغرزت أظافرها في ذراعه. كانت الآلام تتزايد، وكانت تقصف لها الأحشاء. كانت قلاع فيها تنهار، وكانت جذوة القنديل تئن. تقلصت، تقوست، يبست، وتركته في الأخير، وابتسمت ابتسامة شاحبة، وهي تلهث.

همهمت، وهي تلمس جرحًا صغيرًا على ذراعه:
 لقد أوجعتك. آه! كم هو شقيّ، هذا الولد الذي يوجع أمه. هل يعجبك ولد كهذا؟
 لا، لا يعجبني.
 لماذا؟ إنه طفل!
 طفل أم غير طفل، لا يعجبني، فهو يسبب لك الكثير من الألم.
 أنا، يعجبني، رغم كل آلام العالم. يعجبني طفلي. وأنت؟
 لا يعجبني.
 حسنًا. تستطيع أن تفعل ما طلبته منك.

أشعل البابور، ووضع عليه دلو الماء. قال لنفسه، والقلق يبدو عليه لحال نعيمة: على الماء أن يسخن بسرعة، ووصله صوت زوجته الواهي:

 أحبك، يا سعدان! دومًا ما كنت تريد إسعادي رغم كل ما نحن فيه من شقاء، وإذا مت؟ إذا ذهبت وحدي بعيدًا عنك؟ ستنقص مصيبة من مصائبك.
جاء قربها، وهو يرجوها أن تشفق به:
 أنت سعادتي، يا نعيمة! لا تحرميني من سعادتي، يا حبيبتي!

دفن وجهه بين نهديها ليشم أفضل ما يشم رائحتها المثملة، وقال بصوت مرتجف:
 أنا لا أريد أن أفقدك.
 هل تحبني إلى هذه الدرجة؟
 أحبك أكثر من كل شيء.

غدت شفتا نعيمة باردتين تمامًا، وحلقها جافًا، وأضلاعها سهلة الكسر، أكثر فأكثر سهلة الكسر, وكالطفل، دحدل شعبان رأسه بين نهدي زوجته، كان يبدو للناظر أنه هو من يموت، ومن يستغيث.
 لا تعذب نفسك، يا رجل! لن أموت. لي أفكار سيئة أحيانًا.
 أفكار امرأة مجنونة!
 سأكف عن اليأس. هل سأكف؟
 نعم، من أجلي.
 حسنًا. احضر لي الطشت، بدأت أنزف.

ترك الكوخ، وأخذ يجري في الليل نحو البئر، فمن عادته أن يغطيها بالطشت. فكر سعدان: ستلد عما قريب! لم يكن سعيدًا. كان يرزح تحت وطأة هذا الحدث. عندما وصل البئر، أخذ الطشت، وبقي طويلاً يسبر أغوارها. وبعد ذلك، رفع رأسه إلى السماء، ولمح غمامًا أسود كان يزحف على مهل. قال لنفسه، منقبض القلب، لما سمعها تصرخ فجأة: ستلد عما قريب، إنها على وشك الولادة! ترك الطشت يسقط في جوف البئر، وبدوره، سقط في ضجيج لا ينتهي. وثب إلى البيت للحاق بها، وعندما كان قرب السرير، رأى بين فخذيها شيئًا أشبه بحيوان صغير، بقط ربما، مغطى بالدم والغائط. كان هذا الشيء يصرخ ويبكي. أخذ نعيمة بين ذراعيه، كانت ثقيلة جدًا بحيث لم يستطع رفعها، ففهم أنها كانت ميتة.

قال سعدان:
 شقيقة النعمان هذه لها، وهذه، وهذه، ستكون باقة جميلة، وهذه أيضًا.

قطف شقائق النعمان، وهو يقفز من رابية إلى أخرى. كالسعدان. المعنى الآخر لاسمه. لكن منذ موت نعيمة، كان يفضل لو يدعونه نحسان. نحسه الأول كان موت زوجته، ونحسه الثاني سيكون ربما غدًا أو بعد غد، كان من الصعب التنبؤ به. لم يكن يعلم ما سيقع له ولا متى. الحقيقة أنه كان يحزره لكنه كان يبقى سره. ومنذ ذلك الحين، كان يخاف المستقبل، فيعمل كل شيء لاحتواء خوفه ويأسه. وشقيقة النعمان هذه أيضًا لها. لو كنت أقدر لقطفت لها روحي. وهذا المنثور. من أجل عيني نعيمة، الغادرة! ماتت وتركتني وحدي! وهذا أيضًا. انحنى وكأنه يصلي لإله الزهور. وزهر اللؤلؤ هذا. كانت تحب زهور الحقول! أخذ قلبه ينزف. أشار إليه منثور على كتف صخرة، فقفز صوبه. لم تزل الباقة صغيرة جدًا بعد. كانت تحب زهور الحقول من كل قلبها، وغالبًا ما كانت تغرز بها شعرها في المساء. ثلاث أو أربع. تذكر اليوم الذي كان فيه قد سرق باقة من القرنفل من حديقة البيك، وكيف كانت قد زوقت بقرنفلة دموية نهديها. عاد يقفز من مكان إلى آخر. نادته هندباء برية من سريرها المندى، فقطفها من جذرها، نظفها، وأحاط الزهور بها. قال لنفسه: ها هي ذي تنتظر! منذ غيابها، كان يشكل لها كل يوم باقة من الزهور التي كانت تحبها. تساءل: وإذا ما انتهت زهور الحقول؟ لكنه طمأن نفسه: لن تنتهي! هذه الأرض كالمرأة، تخصب في كل الفصول! شقيقة نعمان أخيرة، وجرى إلى المقبرة. قطع الأولاد ألعابهم لينظروا إليه، مستغربين ومليئين بالود في آن. وقف وسط القبور، وأجال نظره عليها. كان عالم الموتى يثير لديه الخشوع، السكون، والأبدية. اقترب من قبر امرأته، وتلا الفاتحة، وهو يشد باقة الزهور على صدره، ويكاد يكسر تيجانها. ثم وضع الزهور على المِسلة. جلس على الأرض قائلاً لنفسه: نعيمة سعيدة الآن. لم يكن بإمكانه أن يكبح مشاعره نحوها، وترك دمعه يسيل، لكنه منع نفسه عن الصياح بها: هاءنذا! تمدد على القبر، وغطاه بالقبلات. تعلق به، وعاد إلى البكاء.

عندما رجع سعدان إلى الحقل، وجد عبد القادر ينتظره. كان رئيس العمال قد أطلق لحيته، وكان له شكل الغصن الشائك. كان الغبار يغطي وجهه، وقنبازه القذر تفوح منه رائحة كريهة. كان عبد القادر الوحيد الذي يفهم ألم صديقه "الأبله"، الطفل الأبله، كما كان يقول. كان يرمي إلى أن يكون حاضرًا دومًا للوقوف إلى جانبه، وكان يتفنن في ابتكار كل الذرائع لئلا يدعه وحيدًا.
قال عبد القادر:
 كنت بانتظارك.

تطلع إليه طويلاً، كان الدمع قد جف على وجه سعدان، لكن الناظر إليه كان يرى أنه بكى. فكر رئيس العمال "يا لسعدان المسكين!" قبل أن يقول له:
 توقفت العفريتة!

هكذا كانوا يسمون التراكتور: العفريتة!
 لهذا أحضرت البغل الشيخ.

وأشار بإصبعه إليه.

كان البغل العجوز يرعى، أسنانه التعبة تسبب له الألم، ومع ذلك، كان يبدو طلق المحيا. لم يفه سعدان بكلمة، فتقدم عبد القادر منه خطوة، ووبخه بلطف:
 إذا بقيت على حالك هذه انتهى بك الأمر إلى الموت غمًا!

خلى سعدان كلماته دون أن يستطيع إخفاء يأسه:
 إذا متنا أو عشنا، الحال هو الحال، يا عبد القادر.
 لا، ليس الحال هو الحال. ونبرة اليأس التي تستعملها هذه، شيء جديد، شيء جديد حقًا! هناك بنت تركتها زوجتك من ورائها، ثم حياة مديدة مفتوحة أمامك عليك أن تعيشها حتى النهاية.

بعد أن تطلع إلى حاجبيه الكثين ولحيته الشائكة كما لو كان يراه للمرة الأولى، قال سعدان بهدوء:
 هذه الحياة لم تعد حياتي.
 بلى. هي حياتك. لا تنس ابنتك، إياك!
 كنت أريد أن يكون ولدًا، كنا نريده نحن الاثنان، أنا ونعيمة.
 مهما يكن من أمر، فهي بنت. ماذا تقترح أن نفعل بها؟ هيا، قل! ربما تريد أن نرميها في الغابة لتأكلها الذئاب؟ إنها ابنتك، شئت أم أبيت.

ظل سعدان صامتًا. فكر: إنها ابنتي على الرغم من كل شيء. حقًا لم يكن يريدها، لكنه أصر على تسميتها نعيمة كزوجته المتوفاة. كان قد عهد بها إلى زوجة عبد القادر لترضعها وتعنى بها.

نطق عبد القادر جملة كان لها أثر هجوم الطيور الجارحة:
 الحل الوحيد، يا سعدان، هو أن تتزوج، لأجل ابنتك، ولأجل أن تنسى. بنات الحلال كثيرات، وما عليك سوى الاختيار. لم لا زينب؟ زينب تحبك.
فكر سعدان: زينب تحبني. هذا الحب مصابي الثاني الذي يتربص بي بعد موت نعيمة، أنا النحسان.

تركه عبد القادر يفكر، وذهب ليربط المحراث بالبغل الذي جره من اللجام، فتحولت الأرض من ورائه إلى أثلام مستقيمة ومنتظمة. عندما تعب البغل، زرع حوافره في الأرض، ورفض القيام بأية حركة.

قال عبد القادر:
 ها هو "الأخ" يتوقف عن العمل، هو أيضًا، كما توقفت العفريتة.

سأل سعدان:
 ومتى سيصلحها البيك؟
 الله يعلم. ماذا سنفعل؟ البغل كبير كثيرًا، وهو على وشك الموت.
قفز سعدان نحو المحراث، فك البغل، وربط بالمحراث نفسه.

صاح:
 تعال، يا عبد القادر! احرث على ظهر هذا البغل قبل أن يموت هو الآخر!

بعد ست سنوات، كان سعدان وعبد القادر يحتسيان كأسًا من الشاي في مقهى القرية.

سأل عبد القادر:
 قل لي، يا سعدان، حتى متى ستبقى على عنادك؟ متى ستتزوج بزينب؟

أجاب سعدان:
 لست أدري. يوجع قلبي هذا النوع من الفتيات.
 يوجع قلبك لأنها رفضت إلى حد الآن كل خاطب؟
 ربما كان كذلك. ثم، بعد زوجتك، هي من تُعنى بابنتي.
 نعيمة تحبها من كل قلبها، وتدعوها "يمّا".

رشف سعدان شايه، تأمل شعر عبد القادر الأبيض ولحيته الناعمة اليوم، وهتف بابتسامة صغيرة:
 شاب شعرك كله، يا عبد القادر!
 إنها الرزانة التي تنقص الشباب!
وضحك حتى دمعت عيناه.

اقترب برأسه من رأس صديقه، وعهد إليه بشيء من الكآبة:
 سيأتي يوم نموت فيه جميعًا، يا سعدان. لهذا أنصحك بالزواج، لتترك من بعدك نسلاً يحمل اسمك. أنت كذلك شعرك قد بدأ يشيب.

مر سعدان بيده في شعره بينما تابع عبد القادر:
 أنت شبت قبل الأوان، وأنا أعرف لماذا، فلهذا الحريق الأبيض أسبابه.
 أنت أحسن من يعرف الوحل الذي نحن نتعثر فيه.

فكر عبد القادر: لا يقول الوحل الذي أتعثر أنا فيه. ربما كان يتكلم عن الوحلين، وبكلام آخر عن كل التعاسات التي كانوا كلهم يعانون منها.
 أذكرك إذا تزوجت زينب، جاءتك بكدها وعرقها مهرًا، ولن تنفق قرشًا واحدًا من أجل الجهاز. زينب ربة بيت لا غبار عليها، لديها كل ما يلزم، ستنقل فراشها إلى دارك، ويوم زواجكما، سأذبح لكما نعجتين.

سكت ليرى رد فعل صديقه، ثم:
 ماذا قلت؟ ما عليك سوى أن تحدد يوم الزواج، وسأتكلف بالباقي.

في تلك اللحظة، دخل المقهى شاب بأقصى سرعة، وقال بكلمات مضطربة:
 المعركة بدأت!
مما أدهش سعدان:
 عن أية معركة تتكلم؟

أحاط كل الرواد بالشاب ليعرفوا أية معركة هي. لم يكونوا ينتظرون حدثًا كهذا.

أوضح الشاب:
 يحاول اليهود احتلال جنين.
 ماذا؟!
 يحاول اليهود...
 ...احتلال جنين!!!

كانت بينهم وبين جنين مسافة عشرين كيلومترًا، لكنهم لم يكونوا ينتظرون أن يهجم الإسرائيليون، أن يجيئوا إلى هناك. كان عالمهم عالم البيك، سوطه، وصولجانه. كانوا لا يعرفون ما يجري خارج حدوده، ولا يسعون إلى معرفة ذلك. لكن "اليهود" كانوا يهجمون... استعاد الفلاحون صياحهم الضائع، وامتزجت أصواتهم المبحوحة. لم يكن في المقهى مذياع، ولا في كل القرية، ما عدا مذياع البيك، فكيف عرف غراب الشؤم هذا الخبر؟ من قال له؟

اقترح الشاب:
 اصعدوا فوق الهضبة، فيكون باستطاعتكم مشاهدة قصف المدافع والدبابات.
 ليس هذا صحيحًا!
 ما أنت إلا كاذب!
 ليس هناك غيرك من يقول هذا!
 لا بد أنك تهذي!

والآخر يدلي بالأيمان المغلظة، أنه عائد من نابلس، أنه رأى بأم عينه، عند مطلع الفجر، فرقة مدرعة، وقافلة من الجنود المشاة، وهي تقطع الحدود، الحدود الحقيقية، لا الأخرى، حدودهم، الوهمية!

وسعدان يغادر المقهى، قال لعبد القادر:
 كنت قد عزمت على الزواج بزينب، أما الآن والحرب بدأت...

بعد عدة أيام، تربع سعدان على الأرض أمام طاس من الألمنيوم مليء بالزيت، علي ركبته رغيف خبز أسود، وبيده كأس شاي. غمس الخبز في الزيت، ودفعه في فمه مع جرعة من الشاي. جلست الصغيرة نعيمة على مقربة منه، وهي تحك عينها اليسرى، وتنظر إلى أبيها.
سأل سعدان، وهو يبتسم لها:
 لماذا لا تأكلين؟

واصلت حك عينها بينما كان عنقود مخاطي يسيل من منخرها ليصل شفتها العليا، ويلتصق بها.
 نعيمة، لماذا لا تأكلين؟

واصلت حك عينها أكثر فأكثر.
 نعيمة، كلي!

نشقت العنقود المخاطي دفعة واحدة، وقالت:
 هذا الأكل، أنا لا أحبه، يابا.

وسال عنقود أصفر آخر من منخرها.

قال، وهو يقدم لها كسرة:
 لكنه خبز جيد، حتى ولو كان أسود وابن البارحة. ربما أنت لا تحبين خبز القرية، ، ومع ذلك، فهو خبز جيد، جيد جدًا، والزيت من أجود الزيوت.

ومن جديد، نشقت العنقود المخاطي، وتدحدلت خطوتين. تناولت كسرة الخبز، وعضتها، لكن الخبز كان يابسًا، فأوجع أسنانها. جذبت كمها على أنفها، ومسحته.

أوضح سعدان:
 عليك أن تغمسي خبزك في الزيت كي يطرى.

تركت كسرة الخبز تسقط على ركبتها، وخفضت رأسها بعناد. رفع لها أبوها وجهها بإصبع وضعها تحت ذقنها: وجه بقّعه البؤس والنمش.
 ما لك، يا نعيمة؟
 أنا لا أحب الزيت.
 ليس عندي زعتر. تريدين أن أذهب في طلب قليل منه لك؟ ما أطيب الزيت بالزعتر!

هزت رأسها علامة الموافقة.

قام سعدان بقفزة عند الجيران، ولم يتأخر عن الرجوع بحفنة من الزعتر.
قال لابنته:
 خذي، ها هو الزعتر. كلي!

توقفت الطفلة عن حك عينها، وقد غدت حمراء، فأخذ أبوها وجهها بين يديه، ونظر بانتباه.
 انظري إلى ما فعلت في عينك!

همهمت الصغيرة نعيمة:
 كانت تحكني.
 طيب، كلي.

قسمت قطعة خبز صغيرة، ورمتها ناشفة في فمها.
 أنت تسخرين مني أم ماذا!
 لماذا يابا؟
 والزعتر، لماذا طلبت من أن أستعيره من الجيران؟ أليس لتأكليه مع الزيت؟
 لكني لا أحب الزعتر، ولا الزيت، لا أحب شيئًا.
 أنت لا تحبين شيئًا، حقًا لا شيء!
 أنا لا أحب شيئًا، حقًا لا شيء.

وبعد لحظة:
 ما عدا شوربة زينب.
 ما عدا شوربة زينب!
 ما عدا شوربة زينب. أنا لا أحب شيئًا، ما عدا شوربة زينب.

أراد أن يقول لها في زمن الحرب، زينب لا تعمل شوربة، تأكل خبزًا مغموسًا في الزيت والزعتر كالجميع. كان البيك قد علق كل ما يدفع للفلاحين، حتى أنه كان قد شطب كل حصص الحبوب. وبانتظار أن تنتهي الحرب، وأن تعود الأمور إلى مجاريها، قرر سعدان إرسال ابنته لتعيش مع أطفال عبد القادر كالماضي، فتنسى قليلاً شوربة زينب.

قال سعدان:
 لم تعد زينب تعمل شوربة.

قالت الطفلة:
 أعرف.
 وكيف تعرفين؟
 لم يعد هناك كرنب، ولا أية خضروات. البيك أكلها كلها!
 من قال لك هذا؟
 زينب.

فكر: لقد علمتها زينب أشياء كثيرة!
 إذن كلي قليلاً من الزيت والزعتر، واشربي قليلاً من الشاي، هذا لذيذ مع الشاي. خذي، هذا كأسك.
 أنا لا أحب الشاي، أحب شوربة زينب.
 قلنا إن زينب لم تعد تعمل شوربة، وأنت يجب أن تأكلي لتكبري.
 صحيح أن اليهود يقتلون الأطفال الذين لا يريدون الأكل؟
 ماذا؟!

دست قطعة خبز في فمها، وأخذت جرعة شاي.
 من قال لك هذا؟
 زينب.

فكر سعدان: إذن هكذا جعلت زينب ابنتي عاشقة بشوربتها! أراد أن يقول لها إن ذلك ليس صحيحًا، إن لا علاقة للحرب بالأطفال الذين يرفضون الأكل، لكنه عدل عن ذلك:
 انسي كل هذا، وانتهي من الأكل.

رمت النحيفة الصغيرة كسرة الخبز، وقالت، وهي تركض نحو الخارج:
 شبعت.

وفي اللحظة ذاتها، دوى انفجار قوي في أقصى القرية، فصرخ سعدان:
 نعيمة!

وركض خلفها.

رآها في الحقل بعيدة، بينما كانت تمضي في السماء قاذفة قنابل.
 نعيمة، ارجعي!

رمت الصغيرة أباها بنظرة مذعورة، فقفز ليشدها إلى صدره بقوة، وهو يهمهم:
 يا طفلتي! يا صغيرتي!

ابتعد، فرأى وجه زوجته المتوفاة أمامه. ابتسم له الوجه ابتسامة مظللة بالعتاب، لأنه توقف عن وضع باقة الزهور المعتادة على قبرها، فقرر الذهاب إلى أبعد رابية لو يلزم ليقطف كل ما يوجد من زهور.
 يابا، انظر فوق!

رفع سعدان رأسه متابعًا الإصبع الصغيرة المقوسة، وحطت عيناه على قمة شجرة لوز.
 ماذا هناك، يا نعيمة؟
 العش، ألا ترى العش؟

وفي اللحظة ذاتها، حطم الفلاحون الجوعى، على رأسهم عبد القادر، بوابة قصر البيك، وأشعلوا النار فيه. سقط العديد منهم تحت رصاص حراس القصر، وبالمقابل قُتل البيك، وطُردت عائلته إلى ما وراء نهر الأردن، من حيث جاءت. وُزعت مخازن الحبوب على الجميع، وصاح عبد القادر بقوة وسط الحطام:
 نحن أحرار!

ومن وراء الهضبة، أصبح القصف أكثر فأكثر حدة، أكثر فأكثر قربًا.

 العش في الأعلى، ألم تره؟
أبعد سعدان أغصان شجرة اللوز الواطئة، ورأى عشًا من القش معلقًا على العرف.

قال:
 رأيته.

طلبت الصغيرة، وهي تقرص ظاهر يده:
 اصعد، واحضر لي بيضة.
 ولكن يجب ألا نزعج الطيور، حرام أن نسرق بيضها، ونضايق الأفراخ في عشها.
 أعرف، قالت لي زينب ذلك. سألعب معها قليلاً، ثم تصعد ثانية، وترجعها، أنا أعدك.

بقي سعدان في مكانه حائرًا.
 هيا، يابا! احضر لي بيضة!
 حسنًا. سأحضر لك بيضة، ترينها، وأرجعها في الحال إلى عشها، هذا إذا كان هناك بيض.
 هناك بيض، أنا أعرف.
 زينب أيضًا هي التي قالت لك ذلك؟
 لا.

 إذن كيف تعرفين؟
 لقد حلمت بذلك.

قرصها من ذقنها، وأخذ يتسلق شجرة اللوز حتى العش، فرأى فيه ست بيضات صغيرة جدًا، دون أبويها، ولا أحد. قال سعدان لنفسه: جعلت الحرب الطيور تهرب، ولم تحضن بيضها! أخذ بيضة بأصابع حذرة، ونزل بعجلة، وهو يقصف بعض الأغصان. قفز أمامها، وهو يلهث:
 خذي!

وشاهد اللؤلؤ بين شفتيها.

رددت الطفلة مستثارة كلها:
 يا يابا! يا يابا!
طوت أصابعها على البيضة، وهي تغني: يا يابا! يا يابا! كانت سعادتها! كانت تدور، وتدور، وهي تداعب البيضة الصغيرة، وهي تقبلها، وهي تضعها على صدرها. يا يابا! يا يابا! كان سعدان جذلان لجذلها، لسماعه لها. كانت الوحيدة التي لا تفكر في الحرب. انقبض قلبه، وهتف:
 هذا يكفي، يجب عليّ إرجاعها.

رجته الصغيرة:
 لا، انتظر قليلاً.
 هاتي البيضة!

أخذها من يديها، وعاد يتسلق شجرة اللوز.

سألت نعيمة بينما كان أبوها يصعد:
 هل تظن أن هناك عصفورًا صغيرًا فيها؟
 وما يدريني؟

أكدت البنت:
 هناك واحد، وهو صغير صغير كحبة القمح.

لم يجب، وهو يواصل الصعود، لكنها أوقفته:
 يابا...
 ماذا؟
 عندما تصبح البيضة فرخًا، هل ستحضره لي كي ألعب معه؟
ابتسم.

تابعت الطفلة:
 أعرف أن على الأطفال ألا يحرموا الأفراخ الصغيرة من أمها وإلا ماتت.

لم يعد سعدان يبتسم.

عندما وصل قرب العش، سمع ابنته تناديه من جديد، وفورًا بعد ذلك وصله صخب كان يشبه رشقة طلقات متواترة، فصاح من أعلى شجرة اللوز:
 هل أنت بخير، يا نعيمة؟

كان الصمت الجواب الوحيد، وكانت الأغصان المتأرجحة تحت قدميه تحجبها عنه.
 يا نعيمة، هل أنت بخير؟

لم تجب الصغيرة.
 أجيبيني، يا نعيمة!

الصمت دومًا.

رشقة طلقات متواترة أخرى، تلاها انفجار. تشنجت يده، فتكسرت البيضة الصغيرة بين أصابعه. من فوق، رأى النار والدخان في قصر البيك، وفي كل أكواخ القرية، المهدمة تمامًا. وكأن أحدهم سدد نصلاً في قلبه، وطعنه. وهو يعجل النزول من شجرة اللوز، لم يعرف كيف هدم العش، وكيف حطم البيض الذي فيه، لم يعرف كيف صرخ باسم ابنته الغالية على قلبه عدة مرات كالهالك في أرض الجحيم: كان يزلق، وكانت الأغصان تتكسر تحت ثقله، وكان يسلخ يديه، وكان يمزق صدره، ساعده، عقله، لأن نعيمة لم تكن تجيب، لم تكن تجيب. كان يواصل الانزلاق، الانهيار، السقوط، إلى أن وجد نفسه وحيدًا، مجردًا، دون قوة ولا أصدقاء، وجهًا لوجه مع رشاشات العوزي..

أفنان القاسم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى