الأحد ١٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١١
بقلم علي القاسمي

التاريخ والرواية: رواية «جيرترود» وتاريخ الأدب

التاريخ والرواية:

كلٌّ من التاريخ والرواية سردٌ لأحداثٍ ماضيةٍ وقعت في بيئةٍ اجتماعيةٍ بفعل شخصياتٍ تروم تغيير محيطها، والتأثير فيه، وتوجيه الأحداث الوجهة الملائمة لمصالحها. وكلٌّ من التاريخ والرواية يتوخّى إمتاع القارئ وإمداده بثقافة نافعة.

بَيدَ أنَّ التاريخ علمٌ، أو أنَّه يسعى إلى أن يصبح علماً، فهو يُعنى باكتشاف معلوماتٍ عن أحداث الماضي، وجمعها، وتنظيمها، وعرضها بطريقة منهجية. فالتاريخ حقلٌ من حقول البحث العلمي يفحص الآثار، والمواد الأركيولوجية، والكتابات القديمة، والنقوش، والنقود؛ ويدرس المخطوطات، والمراسلات، والمذكّرات، وجميع الوثائق بمختلف أنواعها دراسةً موضوعية، أي دراسةً تنفصل فيها الذات عن الموضوع، ويحاول أحياناً استكناه أنماط السبب والنتيجة التي توجّه الأحداث، لينقلها إلينا كما جرت وليرسم الشخصيات على حقيقتها؛ غايته القصوى أن يكون ألصق ما يكون بالواقع، وأصدق ما يمكن في نقل الحقيقة. ولكي يكون المؤرّخ علمياً في سرده، فإنه يلتزم بأسلوب الكتابة العلمية وخصائصها مثل قصر العبارة ووضوحها، والابتعاد عن المجاز الذي قد يسبب الغموض والالتباس أو يفتح باب التأويل، ويلتزم بالدقة في التعبير بمعنى استعمال اللفظ للمفهوم الذي وجد للتعبير عنه. وعلى الرغم من أنَّ المؤرخين القدامى كانوا يعنون بالأساليب البلاغية في السرد، فإن المؤرخين المعاصرين ينأون بعلمِهم عنها.

قد يكتب المؤرِّخ سيرةَ شخصٍ من الشخصيات العامة التي أثّرت في الأحداث، سياسيةٍ أو علميةٍ أو اقتصاديةٍ أو غيرها، فتقع هذه السيرة في مجال التاريخ السياسي أو الاقتصادي أو غيره. أما إذا كان ذلك الشخص الذي يكتب المؤرِّخ سيرتَه أديباً أثَّر في الحركة الأدبية وتوجُّهاتها، فإنَّ تلك السيرة تقع في مجال (تاريخ الأدب). فللتاريخ أنواع كثيرة حسب المجال الذي يدرسه مثل: تاريخ الأدب، وتاريخ الفلسفة، وتاريخ العلوم، والتاريخ الاجتماعي، والتاريخ العسكري، إلخ.

أمّا الرواية فإنها ليست علماً، وإنَّما جنسٌ أدبيٌّ، يستمدُّ أدبيته من ابتعاده عن الواقع وإغراقه في الخيال، واستخدام أساليب بلاغية وتقنيات سردية مرصَّعة بالمجاز ومضمَّخة بالتشبيه والاستعارة والكناية والتلميح والإشارة والحذف، وكلِّ ما يفتح بابَ التأويل على مصراعيه. وكلَّما ابتعدت الرواية عن الواقع ونأت عن الحقيقة وتسامت في عالم الخيال، أصبحت أكثر أدبية وفنيّة. والروائي لا يدِّعي الموضوعية ولا يفصل روايته عن ذاته، فهو يمتح فيها من خبراته وتجاربه، ويطعّمها بآرائه السياسة والاجتماعية، ويروِّيها من خزّان ثقافته ومعرفته. فالرواية إعادة بناء العالم وفق رؤية الروائي.

وعندما يكتب الروائي سيرتَه الذاتية، فإنه لا يصوِّر الواقع تماماً، وإنَّما يستعير الواقع لينطلق منه إلى الخيال المنشود. ولهذا يُنعَت هذا النوع من الأدب بـ " التخييل الذاتي". إضافة إلى أن الرواية السيرذاتية تختلف عن الكتابة التاريخية في أسلوبها والتقنيات السردية التي تستخدمها. وينطبق الأمر كذلك على الرواية السيرية التي تتناول حياةَ شخصية غير شخصية الروائي. فهي كذلك خلطةٌ فنيَّةٌ من استعارة الواقع والخيال المجنح، فثمّة خيالٌ خلّاقٌ في تصوير مشاعر الشخصية أو الشخصيات، وأحاسيسها، وتأملاتها، وتطلعاتها، وآمالها، وآلامها؛ إنَّه تصويرٌ فنّيٌّ بالكلمات. وكما أنَّ للتاريخ أنواعاً، فإنَّ للرواية أنواعاً كذلك كالرواية السيرية، والرواية التاريخية، والرواية البوليسية، والرواية الجغرافية، والرواية العلمية، ورواية الخيال العلمي، إلخ.

وحينما يقرِّر الأديب أن يكتب روايةً سيريةً عن شخصيةٍ عامةٍ، فإنّه لا بُدَّ أن يكون قد أحبَّ هذه الشخصية، وتأثِّر بها في فكره وتوجهاته، أو على الأقل، أنَّ عمل تلك الشخصية يقع في مجال تخصص الأديب واهتماماته ما ييسّر له كتابة الرواية، مثل رواية " العلامة" التي تتناول جوانب من سيرة ابن خلدون للدكتور بنسالم حميش المختص أصلاً بالفلسفة؛ أو مثل رواية " أذكى العرب" التي تتناول طرفاً من سيرة الخليل ابن أحمد، والتي يكتبها حالياً علي القاسمي المختص أصلاً في اللسانيات.

ولكن أدبيّة الرواية وفنيّتها لا تعفيان الروائي من البحث العلمي والدراسات الموضوعية المعمَّقة خلال استعداده لكتابة روايته، لتزدان بالمعرفة وترقى بالثقافة القيمة. فإذا كانت الرواية، مثلاً، تضم مشهداً يتناول الصيد بالصقر والكلب السلوقي، فقد يحتاج الروائي إلى إجراء دراسات في طبيعة الخيول وشياتها وطرائق ركوبها وسرعاتها؛ وفي أنواع الكلاب وصفاتها واستخداماتها وسرعة كل نوع منها؛ وفي الطيور الكواسر عامة، والصقر والشاهين والباز خاصة، وقدراتها وعاداتها واستعمالاتها؛ وفي تاريخ هذا النوع من الصيد وجغرافيته وأهدافه، إلخ. وإذا كانت الرواية سيرية، أصبح على الروائي أن يبحث في سيرة الشخصية، وينقب في الأماكن التي عاش فيها، ويتفحص الأحداث التي انفعل بها، والشخصيات التي تفاعل معها، معتمداً على كتب التاريخ، بصورة رئيسة.

لماذا يكتب حسن نجمي رواية عن جيرترود؟

عندما أخبرني الصديق الأديب المغربي حسن نجمي (1960ـ )، في مكالمةٍ هاتفيةٍ قبل حوالي سنتين، أنه بصدد إعادة قراءة ترجمتي لرواية همنغواي " الوليمة المتنقلة" التي يتناول فيها همنغواي حياته في باريس من سنة 1922 إلى سنة 1926، سألته مازحاً: لماذا؟ ألا تكفي قراءة واحدة؟ أجاب بلطفه المعهود: لأنه يستعدّ لكتابة رواية عن " جيرترود ستاين". أثارت تلك المكالمة دهشتي واستغرابي وحيرتي, وأخذتُ أتساءل في ذات نفسي: لماذا يكتب حسن نجمي رواية عن جيرترود ستاين؟ لماذا؟؟ فهي ليست من الشخصيات المحبوبة، وليس من المحتمل أنه أحبّها؟ لماذا يريد حسن نجمي أن يكتب رواية عن كاتبة أمريكية؟ فهي ليست في مجال اهتمامه الأدبي، فهو معنيٌّ أولاً بالأدب العربي، ومتذوِّق للأدب الفرنسي ثانياً، ومطلع على الأدب الأمريكي ثالثاً. لماذا يكتب حسن نجمي رواية عن جيرترود ستاين؟؟؟ ألأنها امرأة تمارس الأدب، وعاشت في باريس، ولها ولمدينة باريس، في سنوات الجنون les années folles تلك، فضائحها المثيرة؟

قلت في نفسي، إذا كان الأمر كذلك، كان في وسعه أن يكتب، مثلاً، عن الأديبة الفرنسية كوليت (1873 ـ 1954) التي عاشت في باريس في سنوات الجنون نفسها، ولها فضائحها التي تتفوق فيها على ستاين، وتركت بصماتها الزاهية الألوان على الصحف والمسارح ودور النشر والفن عموماً، وقد رسمها كبار الرسامين الفرنسين، وهي أجمل بكثير من جيرترود, وتأثيرها في الأدب الفرنسي أبعد وأعمق من تأثير جيرترود في الأدب الأمريكي. وزيادة على ذلك، فإن كوليت هي الأخرى زارت المغرب، ولكن ليست كزيارة جيرترود البائسة، وإنما وصلت كوليت إلى المغرب بدعوة من الجنرال ليوطي، الحاكم الفرنسي العام للمغرب آنذاك، الذي أراد أن يبهرها بالقصر المغربي ذي الريازة المغربية الفاتنة، وأصناف طعام المطبخ المغربي الشهية، وفنون الحضارة المغربية العريقة. وكتبت كوليت عن تلك الزيارة بإضافة. من المؤكَّد، أن سيرة كوليت ستصنع رواية أجمل وأروع.

قلتُ في نفسي، لعلَّ حسن نجمي أراد أن يكتب عن غيرترود لأنها تشبهه؛ فهي مثله تكتب الشعر والرواية والمسرحية، في الوقت نفسه. ثم قلتُ في ذات نفسي، ولكن جبران خليل جبران (1883 ـ 1931) أكثر شبهاً بحسن نجمي، فهو شاعر وقاص وروائي، ورسام كذلك. فقد ولد جبران في لبنان، وهاجر فتى إلى أمريكا، ودرس الرسم في باريس في نفس تلك الحقبة الجميلة La belle époque التي أقامت فيها جيرترود في باريس، وله مغامراته الغرامية كذلك، المباشرة (مع أليزابث ماري هيسكل ومعلمات مدرستها) والبريدية (مع مي زيادة)، إضافة إلى أنه أغنى الأدب الأمريكي بما لم تغنه جيرترود ستاين، إذ يعدّ كتابه " النبي" بالإنكليزية هدية كلاسيكية، يقتنيه كثير من الأمريكيين كلَّ عام بمناسبة عيد الميلاد، عندما لا يجدون هدية مناسبة يقدِّمونها إلى المحبوب، ولا يضاهيه في ذلك أيُّ كتاب من كتب جيرترود ستاين.

ثمَّ استدركتُ قائلاً في نفسي، ولكن جبران خليل جبران خليل لم يحظَ بمتعة زيارة المغرب الرائع، ولعلَّ حسن نجمي المعتز بمغربيته، يريد أن يكتب عن أديب أمريكي كبير زار المغرب فعلاً. بيدَ أني قلتُ في نفسي: ولكن هناك كثيراً من الأدباء الأمريكيين الكبار ممن زاروا المغرب بل وأقاموا فيه، وهم أهمّ وأشهر من جيرترود ستاين بكثير؛ ومن أبرزهم تنسي وليمز (1911ـ 1982)، فهو شاعر وكاتب وروائي وقصاص ومسرحي، مثل حسن نجمي، وهو شاذ جنسياً، مثل جيرترود ستاين، ولكن أهمّ منها بكثير في تاريخ الأدب الأمريكي، فمسرحياته الجميلة ما تزال تمثَّل على مسارح أمريكا والعالم، خاصة مسرحيته " عربة اسمها الرغبة" التي أخرجها كازان أوَّل مرَّةٍ على أحد مسارح برودواي ومثَّل فيها الشاب آنذاك مارلون براندو، والتي لا يمرّ عام دون أن تمثَّل على مسرح من مسارح أمريكا. وقبل أن يتعدى تنسي وليمز الرابعة والعشرين من عمره أُخرِجت له على مسارح برودواي 19 مسرحية. وقد زار تنسي وليمز المغرب وأحبّه، وكتب عنه محمد شكري كتيباً بعنوان " تنسي وليمز في طنجة" ترجمه إلى الإنكليزية صديقهما بول بولز.

ورحتُ أواصل التساؤل في نفسي : لماذا يختار حسن نجمي جيرترود ستاين موضوعاً لروايته السيرية، من دون مئات الأدباء والفنانين المغاربة والعرب والفرنسيين والأمريكيين والعالميين؟ لماذا؟؟

وظلّت هذه التساؤلات تنتابني بين آونة وأخرى، حتى صدرت رواية حسن نجمي "جيرترود" هذا العام (2011)، فسارعتُ إلى اقتنائها وقراءتها. وعندها عرفت السبب. وأعدتُ قراءتها، لا لأكتب عنها فحسب، بل لأنها كذلك رواية تستحق أن تُقرَأَ أكثر من مرّة.

جيرترود شتاين في تاريخ الأدب:

قلنا إنَّ التاريخ، بما فيه تاريخ الأدب، يختلف عن الرواية، بما فيها الرواية السيرية. ولكي نتبين الفرق بينهما، والوشائج بينهما كذلك، نلقي نظرة سريعة على سيرة جيرترود ستاين كما رسمها لنا تاريخ الأدب الأمريكي، ثم َّكما صوّرتها رواية "جيرترود" لحسن نجمي.

يخبرنا تاريخ الأدب الأمريكي أنَّ جيرترود ستاين ولدت في مدينة أليغني في ولاية بنسلفانيا سنة 1874 (وليس سنة 1898 ، كما ورد في الغلاف الخلفي للرواية، وهو خطأ مطبعي). وكانت أصغر خمسة أولاد لعائلة ألمانية الأصل، يهودية الدين، مثقفة، موسرة؛ فقد نجح والدها دانييل في استثمارات في شركة لوسائط النقل، وحقَّق أرباحاً كبيرة في معاملات عقارية، فكوّن ثروة، وانتقل مع عائلته إلى فيينا في النمسا وباريس وعُمر جيرترود 3 سنوات. وبعد 5 سنوات عاد إلى أمريكا واستقرّ في بلدة أوكلاند في ولاية كاليفورنيا، حيث التحقت جيرترود بمدرسة السبت العبرية بالإضافة إلى دراستها العادية. وساعدتها إقامتها في فينا وباريس خلال طفولتها المبكرة على التحدّث بالألمانية والفرنسية، إضافة إلى الإنكليزية.

وبعد أن توفّيت والدتها سنة 1888 وتوفي والدها سنة 1891، تولّى أخوها الكبير ميخائيل إدارة استثمارات العائلة، فأحسن التدبير، وبعث بأختيْه جيرترود وبرثا للعيش مع عائلة أمهما في مدينة بالطمور. وفي سنة 1992، انتقلت لتعيش مع خالها داود باشراخ في نفس المدينة. وكانت تحضر أحد الصالونات الأدبية والفنية الأسبوعية.

انخرطت جيرترود في كلية رادكليف في ماسشوست في المدة من (1893 ـ 1897) حيث درست علم النفس على عالم النفس وليم جيمس الذي تُعزى إليه نظرية " تيار اللاشعور" التي يُعطَّل بموجبها العقل المستيقظ الواعي، ويتولى التسيير العقل النائم اللاواعي، أي تفضيل التفكير البدائي على التفكير المتطور المصقول، وهي النظرية التي أفاد منها في الأدب فيرجينيا وولف (1882 ـ1941) وجيمس جويس (1882 ـ 1941).

وفي سنة 1899 التحقت جيرترود بكلِّية الطبِّ في جامعة جون هوبكنز وأمضت فيها سنتيْن، وبعد أن رسبت في عدّة مسارات دراسية، غادرت الكلية دون أن تحصل على الشهادة. وأثناء دراستها هناك اهتمت بالهستيريا النسائية والكتابة المَرضية.

لحقت جيرترود بأخيها، ليو، وهو ناقد فني، سنة 1903 (أي وعمرها يناهز الثلاثين عاماً) للإقامة في باريس بقية حياتها. وهناك، وفي المدة من 1904 ـ 1913، حين كانت باريس مائجة بحركة نشطة للرسّامين، زاخرة بمدارس فنية جديدة كالانطباعية والتكعيبية والسيريالية، أخذا يشتريان اللوحات الفنية بأثمان بخسة من الفنانين الموهوبين الذين لم يشتهروا بعد مثل بيكاسو (1880 ـ 1973) وخوان غريس (1887 ـ 1927)، ومن جميع الرسامين الآخرين الذين يجرِّبون طرائق وتقنيات فنية جديدة مثل هنري ماتيس ( 1869 ـ 1954) وأوغست رنوار ( 1841ـ1919 )، وكان ليو وأخته جيرترود يكتبان عن اللوحات التي يقتنونها وعن أسلوب رسّاميها، فتزداد قيمتها.

كانت جيرترود ستاين مثليّة، والتقتْ بشريكة حياتها أليس طوكلاس ( 1877 ـ 1967 ) سنة 1907 في شقة أخيها الأكبر ميخائيل ستاين وزجته سارة، اللذين كانا يعيشان في باريس كذلك حيث يعمل ميخائيل في تجارة اللوحات الفنية كذلك، وكان لقاؤهما في أول يوم وصلت فيه أليس إلى باريس، فبدأت بينهما علاقة خاصة. وفي سنة 1910 انتقلت أليس طوكلاس لتعيش مع غيرترود وأخيها ليو في منزلهما الواقع في 27 شارع فلوريس بالدائرة السادسة في باريس، ودامت علاقتهما حتى وفاة غيرترود. وكانت أليس تقوم بأدوار الزوجة، والسكرتيرة، والكاتبة على الآلة الطابعة، ومدبّرة المنزل. واختلفت غيرترود مع أخيها ليو بسبب زواجه سنة 1912 فانتقل إلى منزل آخر وبقيت هي وأليس في المنزل الأول.

أثناء الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) ساهمت جيرترود مع أليس في المجهود الحربي الفرنسي، فاشترت ـ بمساعدة متبرِّعين أمريكيين في الولايات المتحدة ـ سيّارة فورد قديمة، وأخذتا تنقلان بها بعض التجهيزات والمواد الطبية إلى المستشفيات الفرنسية. وقد عوضتهما الحكومة الفرنسية عن مجهودهما بعد ذلك.

وفي العشرينيّات من القرن الماضي، صار صالونها الأدبي في منزلها، بجدارنه المغطاة بأروع اللوحات الفنية، نقطة جذب للعديد من الأدباء الأمريكيين والبريطانيين الذين كانوا يقيمون في باريس آنذاك، مثل عزرا باوند، وتوماس وايدلر، وفورد مادكس فورد، وأديث سيتويل، وشيروود أندرسون، وسكوت فيتزجيرالد، وأرنست همنغواي، وكذلك نقطة جذب لكبار الأدباء والفنانين الفرنسيين أو المقيمين في باريس.

أثناء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) التي تعرّض فيها اليهود في فرنسا للاضطهاد، انتقلت مع أليس طوكلاس للسكن في منزل ريفي كانتا من قبل تمضيان فيه بعض العطل. وفي سنة 1946 توفيت جيرترود ستاين في المستشفى الأمريكي في باريس بسبب سرطان القولون، وكانت قد أوصت بمجموعتها الفنية من اللوحات إلى متحف غوغنهايم للفن الحديث في نيويورك، وبصورتها التي رسمها بيكاسو لمتحف الميتروبوليتان في المدينة نفسها.
سياسياً، كانت جيرترود محافظة، ومؤيدة للحزب الجمهوري الأمريكي طوال حياتها. ومناوئة للرئيس الأمريكي الديمقراطي فرانكلين روزفلت، ومنحازة للجنرال فرانكو خلال الحرب الأهلية الإسبانية، ومؤيدة للمارشال بيتان رئيس حكومة فيشي الفرنسية تحت الاحتلال الألماني. وقد طالبت قبل الحرب العالمية الثانية بمنح أدولف هتلر جائزة نوبل للسلام، ففي مقال نشرته في مجلة نيويورك تايمز بتاريخ 6/5/1934، قالت:

" أقول ينبغي أن يُمنَح هتلر جائزة السلام، لأنه يقوم بإزالة جميع عناصر الصراع والخلاف في ألمانيا. فبطرده اليهود والعناصر اليسارية والديمقراطية، فإنه يتخلّص من جميع الأشياء التي تسبّب الخلاف؛ وهذا يعني تحقيق السلم. إنه عندما يتخلَّص من اليهود، فإنه ينهي الصراع في ألمانيا."

مؤلَّفات جيرترود ستاين:

يقول نقّاد الأدب الأمريكي إنَّ قيمة مؤلَّفات جيرترود ستاين مختلف عليها، وإن شهرتها لا تعتمد على نتاجها الأدبي بقدر ما تستند إلى اللوحات الفنية التي جمعتها خلال السنوات 1904 ـ 1913 بالتعاون مع أخيها ليو. وتضمُّ مجموعتها لوحتي غوغان " عباد الشمس" و " التاهيتيات الثلاث"، ولوحتي سيزان " المستحمّات" و " صورة السيدة سيزان"، ولوحتيْن لرنوار، ولوحة ماتيس " المرأة ذات القبعة"، ولوحة دي لا كروا " بيرسي واندوميل"، ولوحة بيكاسو " الصبية وسلة الورد". وطبعاً بورتريه بيكاسو " جيرترود ستاين". وقد أولت اهتماماً خاصاً لرونوار، وسيزان، وماتيس، وبيكاسو. وكان الأخيران يحضران صالونها الأدبي الفني مساء السبت في منزلها.

وعلى الرغم من أنها غزيرة الإنتاج الأدبي، فقد كتبت الشعر والمسرحية والقصة والرواية، فإن أياً من كتبها لم يحقّق نجاحاً يُذكر، ما عدا كتابها " ثلاث حيوات" Three Lives (1909) الذي يشتمل على 3 حكايات قصيرة تحلّل في كل منها الشخصية الرئيسية في الحكاية؛ وسيرتها الذاتية بعنوان " سيرة إليس ب. طوكلاس" The Autobiograhpy of Alice B. Toklas (1931) التي تنتحل فيه شخصية أليس للتحدث عن نفسها وحياتها، وقد كتبت هذه الرواية السيرذاتية بسرد عادي وطريقة تقليدية وليس طبقاً لنظريتها في الكتابة التلقائية.
أما كتابها " صنع الأمريكان The Making of American الذي يقع في 900 صفحة بلا حوارات ولا أحداث متسلسلة، واستغرقت كتابته المدة من سنة 1902 إلى 1911، وكانت تأمل أن يكون عملاً كلاسيكياً خالداً مثل كتاب " يوليسيس" للبريطاني جيمس جويس أو مثل كتاب " البحث عن الزمن الضائع" للفرنسي مارسل بروست (1871 ـ 1922)، فلم يلقَ أي نجاح. في الحقيقة، لا وجه للمقارنة بين الكتابيْن المذكوريْن وكتابها هذا، فهما من روائع الأدب العالمي الخالدة تقرأهما الأجيال المتعاقبة، أمّا كتابها فلا أحد يقرأه اليوم، فقد نُشرت منه فصول في مجلات وطبعة محدودة حوالي سنة 1925، ولم يُطبَع لاحقاً حتى سنة 1966، لأنه لم يحقّق هدفه الرامي إلى تتبع تاريخ عائلة أمريكية وبنيتها، والخلفيات التي تكوّنها، والعلاقات التي تقوم بين أفرادها؛ إذ سقط الكتاب في الاهتمام بالخدم والخادمات أكثر من أفراد العائلة أنفسهم.

نشرت جيرترود كتابيْن عن نظريتها في الكتابة التلقائية والأسس النظرية لطبيعة الكتابة الأدبية، أحدهما " كيف تكتب" (1931)، والآخر " تاريخ أمريكا الجغرافي: علاقة الطبيعة الإنسانية بالعقل البشري" (1936).

وكتبت مسرحية " أربعة ملائكة في ثلاثة فصول" (1929) التي مُثّلت على أحد مسارح نيويورك سنة 1934 وحضرت العرض الأول بنفسها.

وحرّرت بعض الكتب عن فنِّ الرسم والرسامين ، مثل كتابها " مقالات وصفية عن ماتيس وبيكاسو" (1912)، وكتابها " بيكاسو" (1939) الذي تناولت فيه تطور فن هذا الرسّام العبقري.

ونشرت عدداً من الأعمال التي تتناول علاقاتها المثلية، مثل مجموعتها القصصية “QED “ ، وهي أول عمل كتبته في أمريكا سنة 1903 قبل أن تغادر إلى باريس. ولكنه لم يُنشر إلا سنة 1950 بعد وفاتها بعنوان آخر هو " الأشياء كما هي" ، وفيه تتحدّث جيرترود ستاين عن أحداث وقعت لها في جامعة جون هوبكنز، عندما دخلت في علاقة جنسية مع زميلتيْها مابل هينز وغريس لونزبري، ثم انتهت العلاقة بعد أن بدأت مابل علاقة جنسية مع رابعة اسمها ماري بوكستيفز. وقد تزوجت هؤلاء الفتيات الثلاث بعد ذلك، وليس جيرترود. ومن أعمالها التي تتناول العلاقات المثلية " الآنسة فير والآنسة سكين" الذي تتحدّث فيه عن علاقة جنسية بين فتاتيْن. وكذلك كتابها " الأزرار الرقيقة" (1915). كما كتبت عن الأديبة الأمريكية الثرية مابل دوج Mabel Dodge (1879 ـ 1962) التي لها مراسلات طويلة معها، والتي ربطتها علاقة جنسية بها مدة قصيرة. وكانت مابل دوج قد سوّقت جيرترود ونتاجها الأدبي في أمريكا.
ولها كتب أخرى. وأُسلوبها يُعنى بالإيقاع، والتلاعب بالألفاظ، والنكتة ،وتكرار الكلمات. وأهم أبياتها التي يستشهد به أحياناً: " الوردة هي وردة، وهي وردة، وهي وردة". ولم تكتب طبقاً لنظريتها في تيار اللاوعي، إذ يقول النقاد إن كتابتها تبرهن على وعي زائد عند الكتابة.
نستنتج من كل ذلك، أنها كاتبة مجتهدة غزيرة الإنتاج. ولكن قيمة مؤلفاتها الأدبية وأثرها في الأدب الأمريكي مسألة فيها نظر.

رواية "جيرترود":

يمكن تلخيص رواية حسن نجمي في أن صديقاً للكاتب اسمه محمد رجاه بإلحاح ـ وهو يلفظ أنفاسه في المستشفى ـ أن يكتب قصته مع جيرترود. فقد زارت جيرترود طنجة وكان محمد دليلها السياحي المغربي. فأحبها وأحبته وشجعته على زيارتها في باريس. وظلَّ يحلم بذلك حتى عقد العزم ذات يوم على الالتحاق بها. وهناك أخذت جيرترود تستغله استغلالاً كاملاً فهو رجل البيت، والحارس، والخادم، والعشيق الذي يلبي رغباتها ساعة تشاء وكيف تشاء حتى ولو يتقاسم السرير مع أليس طوكلاس. وامتهنت كرامته ، وعاملته بفظاظة حتى ثارت فيه حميته، فعاد إلى المغرب كسير القلب، مهيض الجناح، خالي الوفاض ، والغصة تخنقه. وعندما أراد الكاتب أن يكتب قصة صديقه محمد، راح يجمع المعلومات عن جيرترود، فزار السفارة الأمريكية بالرباط للحصول على الوثائق المطلوبة. وهناك التقى بدملوماسية أمريكية، تسمى ليديا، يسّرت له ما يطلب، ورتّبت له دعوة لزيارة أمريكا ومتاحفها التي ضمت مجموعة جيرترود الفنية، وفي الوقت نفسه أقامت معه علاقة غرامية، وأرادت أن تستغله، وثارت ثائرته عندما شعر بأنها راحت تمتهن كرامته، فانهى علاقته بها.

بناء الرواية :

تنبني رواية " جيرترود" على حكايتيْن متوازيتين تسيران جنباً إلى جنب: الأولى، حكاية علاقة محمد بجيرترود في باريس؛ والثانية، حكاية علاقة الكاتب/السارد بليديا في الرباط. والحكايتان مطعّمتان بآراء الكاتب وأفكاره حول الفن عموماً والشعر والرسم خصوصاً. أفكار يستقيها الكاتب من مخزون ثقافته الواسعة، ومن جعبة مطالعاته الكثيرة، ومما تجمّع له من خبرة معمقة وتجربة مكثّفة في كتابة الشعر والرواية والمسرحية والنقد.

ولكن هاتين الحكايتين ليستا متباعدتين ولا منفصلتين وإنَّما متقاربتان ومتداخلتان تماماً، وشخوصهما كذلك، فهناك تشابه كبير بين محمد والسارد، وبين غيرترود وليديا، لا لأن الرجلين ينتميان إلى حضارة شرقية والمرأتين تنتميان إلى حضارة غربية فحسب، بل كذلك لوجود تشابه كبير بل تماهٍ بين الرجلين من ناحية، وبين المرأتين من ناحية أخرى في الأحاسيس والمشاعر، والأفكار والأقوال، والآمال والمصير.

فمحمد يسكن الكاتب/ السارد، يتقمَّصه، يتغلغل في أعماق وجدانه، كأنَّهما كائنٌ واحدٌ، فيرتعش الكاتب/ السارد بحركات محمد وأحاسيسه، وخلجات نفسه، ونبضات ضميره؛ يبتسم حين يراود الأمل نفس محمد، وتغرورق عيناه بالدمع حين يتألَّم محمدٌ ويعاني الذلَّ. يقول الكاتب/ السارد في الرواية:

" وقد عاد [محمد] ليرافقني هذه الأيام، فلا يكاد يبرحني مطلقاً. أتجوّل في الرباط، فيتجوّل معي. أكون في السوق فيتسوّق معي، وأكاد ألمَس سلّة الخضر التي يحملها وهو خلف أليس التي تسبقه خطوات...أكاد أسمع الجلبة في صباح باريس، عبورَ العربات فوق الأسفلت الحجري الصلد، وأصوات الحوذيين، وعمال التنظيف، والباعة المتجولين، والفتيان باعة الصحف. ولا بُدَّ أن يمُرَّ بباعة الورد في زاوية الشارع غير بعيد عن سان سولبيس..." (ص 115)
وهكذا تتداخل الشخصيات وأحاسيسها، والأماكن ومعالمها، فلا فرق بين محمد والكاتب/ السارد، ولا فرق بين شارع في الرباط وآخر في باريس، فالإنسان بمشاعره، هو الذي يعطي المكان، بل العالم، معناه. والانتقال من الحكاية الأولى إلى الثانية، ومن الثانية إلى الأولى، والانتقال من حدث في الحكاية الأولى إلى حدث في الحكاية الثانية وبالعكس، يتم بلا توطئة ولا تمهيد ولا تنبيه، وإنما بصورة تلقائية. نقرأ في الرواية:

" ظلَّ [محمد] يحكي عن ذلك التماس الأول، وكيف تشجَّع سريعاً ليلتصق بها [بجيرترود]، وكيف كانت تبدو كامرأة مذعورة من جسدها... وَمَددتُ يدي ألامس يديّ ليديا الممدودتين أمامي على طاولة الأكل. " عليَّ أن أقول لكِ.. (ترددتُ قليلاً في الكلام. كنتُ أريد أن أفاتحها في فكرة زواجها التي اقترحتْها، وبَدَت لي بعيدة وغير ممكنة). لقد أخطأ محمد طريق مغامرته. كان يمكن أن يتصرّف بطريقة أخرى، ولم يفعل. لعلّي قلتُ لكِ رأيي هذا من قبل". وعدتُ أحكي لها ذلك المسار القديم لمحمد في طنجة."

وهكذا نرى التماهي بين الشخصيات في الحكايتين، والتماثل بين الأحداث فيهما، بل والتطابق بين أحاسيس الشخصيات في الحكايتيْن، حتى نكاد نجزم أن الحكايتيْن حكاية واحدة. وأن الكاتب السارد هو محمد، وأن ليديا هي جيرترود، على الرغم من اختلاف المكان وتباين الزمان. فالترادف هنا، كما يقول اللسانيون، ترادفٌ تامٌّ، أي أن محمد هو مرادف الكاتب، وأن اسم ليديا هو مرادف تام لجيرترود.

الواقعي والخيالي في رواية جيرترود:

قلنا إن المؤرّخ والروائي يقومان بالبحث والدرس والتنقيب استعداداً للكتابة. ولكنَّ المؤرخ يحاول تصوير الواقع فقط، في حين أنَّ الروائي قد يستعير الواقع بيد أن اعتماده الأكبر على الخيال أشدّ وأكبر.

ومن يقرأ رواية " جيرترود"، يلمس مدى الجهد الذي بذله حسن نجمي في الاستعداد لكتابة الرواية، فقد درس سيرة جيرترود ستاين، وقرأ عدداً من كتبها خاصة المترجمة منها إلى الفرنسية، واطلع على ما كُتب عنها من قريب أو بعيد. وأكثر من ذلك، درس الكاتبُ الحياةَ الاجتماعية والثقافية (خاصة الفنية) لمدينة باريس في المدة التي عاشت فيها جيرترود هناك، وزار الأماكن ذات الصلة في باريس والولايات المتحدة الأمريكية، فشاهد البناية التي سكنتها جيرترود في الدائرة السادسة من باريس، وتمشّى في حديقة لوكسمبورغ حيث كانت جيرترود تمشّي كلبها، وأكل وجبات عديدة من الأومليت الذي كانت تدمن على تناوله، وفعل كل ما يمكن أن يقرّبه من جيرترود وأجوائها.

وهكذا أفادت الرواية من الواقع التاريخي لسيرة جيرترود، ولكن بناء الرواية قام على أساس خيالي. فاستعانة جيرترود وشريكة حياتها أليس بدليل سياحي مغربي أثناء زيارتهما لطنجة واقع حقيقي ذكرته جيرترود في سيرتها الذاتية، ولكن العلاقة الغرامية التي نشأت بين هذا الدليل المغربي وجيرترود هو محض خيال من الروائي، فعشيق جيرترود المغربي، محمد، لا وجود له في الواقع. فقد نقّبتُ في كثير مما كُتِب عن جيرترود ستاين وفتشتُ بتمحيص بحثاً عن آثار أقدام رجل في غرفة نومها، فلم أجد أي أثر. تناهى إلى أنفي، وأنا في غرفة نومها، عطور نساء مختلفات عالقة في مخدعها، ولكن لم أشم أيَّ رائحةٍ لأيِّ رجُل. السبب في ذلك بسيط ، فجيرترود ستاين هي " الرجل"، لا في خشونتها وعدم رقتها فحسب، بل في حياتها الجنسية كذلك. وحتى في الصورة التي رسمها العبقري بيكاسو لجيرترود، لا أثر لأية أنوثة أو رقة. فمن يتأمَّل ملامح الوجه في الصورة، يجد الخشونة والقسوة واللاأنوثة مرسومة بخطوط مستقيمة حادة في الجبهة, والحاجبين، والأنف، والفم.

ولكي يبرر الكاتب هيام محمد بجيرترود، ويجعل الخيال يلبس جلباب الإيهام بالواقع، أضفى على سمنتها وترهلها جاذبية خاصة، فراح يكيل الثناء لأكوام اللحم والشحم في جسمها، في عدة مواضع من الرواية حتى حسبت أن الرواية يمكن أن تحمل عنواناً فرعياً هو " في مديح السمنة"، فهو يقول في معرض هذا المديح والإطراء:

" كان جسد جيرترود قد أصبح فائضاً حين تعرَّت وتخفَّفت من ملابسها الداخلية المشدودة، في الليلة الثانية له في باريس. لم تبقَ في الفراش مساحة فارغة، وقد كانت راغبة مستسلمة... أجمل ما في جسد كهذا الجسد هو المرونة الكبيرة، إذ يتدفق ويتماوج فيغمرك كبحيرة يغطيها البخار وتزينها الزرقة، وتجعِّد الريح الخفيفةُ ماءها" ! " ( ص 112)
وجاءت علامة التعجب في محلها، كأنَّني أنا الذي وضعتُها. وتردَّد مثل هذا الإطراء للترهل في أكثر من موضع.

قلنا إن التاريخ يستخدم أسلوباً علمياً مباشراً واضحاً خالياً من المجاز في وصف شخصياته، أما الرواية فتستعمل أسلوباً أدبياً مطعماً بالمجاز من تشبيه واستعارة وكناية وتلميح وحذف وغير ذلك. فقد يقول المؤرّخ عن شخصية ما بصورة مباشرة : " عُرِف عنه سوء الطبع والفظاظة، والأنانية والبخل، والغرور، وعدم الوفاء." أما الروائي فيقول ذلك بطريقة غير مباشرة كما فعل كاتب رواية " جيرترود". فالقارئ يستشف أن جيرترود سيئة الطبع فظّة مع الخادمات من عبارة " إن البيت تحوّل، عبر السنين إلى شبه مفترق طرق لخادمات كثيرات" (ص 85)، ويستخلص أنها أنانية وبخيلة من جملة " إنها لا تسأل أية خادمة جديدة عن أي شيء إلا عن صحنها اليومي. هل تجيدين تحضير الأومليت؟" ( ص 85)، ويدرك أنها مغرورة حينما تُردد " سأنهض فتشرق الشمس على العالم" أو " سياتي يوم يضع الأمريكيون وجهي على الأوراق النقدية" (ص 293)، ويستدل على أنها غير وفيه من عبارة حول وصيتها: " لم توصِ بشيء لأليس ب. طوكلاس" (ص 325)، وهكذا. وقد نجح كاتب الرواية في استعمال التلميح بدل التصريح، واستخدام الإشارة بدل العبارة في المواضع المناسبة.

لماذا كتب حسن نجمي رواية عن جيرترود ستاين؟

مَن يقرأ رواية "جيرترود" لحسن نجمي، ويتمعّن في تفاصيلها، ويدقّق في بنية فصولها، ويعمل على تأويل أحداثها، يكتشف أن الرواية، من حيث الأساس، ليست عن الكاتبة الأمريكية جيرترود ستاين على الرغم من أنها تحمل اسمها عنواناً، وتستخدم البورتريه الذي رسمه لها بيكاسو صورةَ غلاف؛ وإنما تدور الرواية على الدليل السياحي المغربي محمد، فهو البطل الرئيس في الرواية، فبه تبدأ في فصلها الأول، وبه تنتهي في فصلها الأخير. (لاحظ أن تاريخ الأدب، عندما يتناول سيرة جيرترود ستاين، فإنه يبدأ بتاريخ مولدها في بلدة ألغني الأمريكية، وينتهي بوفاتها في مدينة باريس، ولا يبدأ وينتهي بعشيقها المغربي الذي لاوجود له). إن جيرترود ستاين في رواية حسن نجمي ما هي إلا شخصية ثانية وليست البطلة؛ وقد اختارها الكاتب بعناية لاستعراض ثقافته وآرائه عن الشعر والرسم، والأدب والفن عموماً، ولأجل الكتابة عن الشعراء والرسامين والأدباء الذين يحبّهم والذين كانوا يتردّدون على صالون جيرترود أيام السبت في تلك " الحقبة الجميلة " La belle époque من تاريخ باريس التي يعشقها الكاتب. فالرواية في ظاهرها عن جيرترود وفي باطنها عن محمد. وهذا يذكّرنا بأعمال خالدة لها ظاهر وباطن، مثل مسرحية شكسبير " يوليوس قيصر" التي كان شكسبير في ظاهرها صديقاً لبروتس ومناوئاً ليوليوس قيصر، في حين أنه في حقيقته عدوُّ بروتس المتظاهر بصداقته، ومحبُّ يوليوس قيصر المتظاهر بعداوته. أو كما قال الشاعر أبو نواس عن الدنيا:

إذا اختبرَ الدنيا لبيبٌ تكشّفت له عن عدوٍّ في ثيابِ صديقِ.

ولكن، مَن هو محمد بطل رواية جيرترود، في حقيقة الأمر؟؟

إذا نزعنا قناع الدليل السياحي عن بطل الرواية محمد، تكشّف لنا عن سيدي محمد الذي يمثلّ كلَّ عامل أو خريج جامعي مغربي (أو عربي) يعاني البطالة وشظف العيش، وتفتك به الديون، ويفقد ماء وجهه أمام أهله كلّ يوم، وليس في وسعه أن يحقّق ذاته في وطنه، لأن الإدارة تحرمه من حقوقه الإنسانية: السياسية والاقتصادية والاجتماعية، المتمثلة في الخدمات ومستوى المعيشة اللائق بالكرامة البشرية وتعويض البطالة والضمان الصحي والاجتماعي؛ فيحلم بالهجرة إلى " الجنة " الأوربية، آملا أن يحصل على العمل، وينعم بحياة الرفاهية، ويحظى بالحبّ والعناية. وهناك في بلدان الغرب، يصطدم ببؤس الواقع، فيقاسي الغربة والاغتراب، ويُستَغَل أبشع استغلال، وتوكل إليه أحطَّ الأعمال، ويمارَس ضدّه التمييز، وتمتهَن كرامته، وينهشه الذلّ؛ فيمسي حائراً؛ وقد يعود إلى وطنه كسير القلب، خالي الوفاض مثل محمد بطل الرواية. إن جيرترود ستاين، بطبعها وتصرفاتها التي صوَّرتها الرواية، تمثل المشغّل في البلدان المصنَّعة الذي يهمّه الاستحواذ على أكبر مردود بأقل مجهود، والحصول على أعظم الأرباح بأيسر النفقات. الغاية هي نجاحه الشخصي، وكلُّ مَن حوله وما حوله مجرَّد وسائل لتحقيق هذا الربح وذلك النجاح، فالغاية تبرِّر الواسطة، كما يقولون.

وإذا لم يكن هذا هو الذي توخّاه كاتب الرواية عن وعي وقصد، فإنه قد يكون ما رمى إليه عقله اللاواعي، طبقاً لنظرية جيرترود ستاين في الكتابة الأدبية، أو هو تأويلنا القائم على مؤشِّرات وردت في الرواية. ألم نقُل إن الرواية، على خلاف التاريخ، تطمح في أن تحظى بتأويلٍ أو أكثر يجدِّد حياتها، ويكتب لها التناسل والتكاثر والخلود؟؟؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى