الاثنين ٢١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١١
بقلم أبو الخير الناصري

رسالة إلى صديقة

صديقتي العزيزة ..

لكم أدرك الآن أن خطواتي كانت تغوص في فراغ، وأني كنت أمشي مُجلَّلاً بالوهم نحو عزلتي الرهيبة. أذكر الآن كلماتك السابقة في تلك البقعة النائية من أرض الله: " اهتم كثيرا بنفسك، فليس لك سواك "، وأذكر غباوتي العظيمة حينما اتهمتك بالأنانية والتفكير في الذات لا غير.
أكان لا بد من هذا الزمن الممتد الغارق في الأحلام لأدرك صدق رؤياك؟

تسكرنا أحيانا كلمات المحبة والوداد.. تسكرنا أحلام الأخوة والوحدة، لنفيق بعد جراح على حقيقة عزلتنا العارية.

لم أفهم في البدء سر تفكيرك في مزيد من الغوص في ذاك الجنوب الذي يخيف أسطح تفكيرنا. لم أفهم أن ابتعادك ذاك اقتراب من أمن النفس وسكينتها، وأن من الخير لك ولي البقاء بعيدا عن هؤلاء الذين يشيرون علينا بالاقتراب.

لكم أدرك الآن صدق نيتشه إذ يقول: " عندما تكون لديك فضيلة ما، فضيلة حقة، لا مجرد نزوع سطحي إلى الفضيلة، تكون أنت ضحيتها ".

صديقتي ..

أحن الآن كثيرا إلى لحظاتنا معا في الصحراء..

ما أعجزني عن التعبير !! لكأن الصحراء هي انتفاء البناء والماء والخضرة!!!

تعلمين أنني الآن في مكان مبتلٍّ، مخضر، مزهر، مليء بالناس والوجوه الحسان .. لكنني، للحقيقة، في مكان آخر. ليست الصحراء فيما حولنا. الصحراء، أيضا، قد تنبع من دواخلنا وأعماقنا.

أرى الآن خرجاتنا معا إلى مقاهي تلك البلاد. أرى جلساتنا والفرح يطل من العيون. أتذكر حواراتنا.. كنا أحياء أحياء!!

الآن أجلس وحيدا، محاطا بأشباح تتسابق على الكسب، أجساد بلا أرواح، لا مشاعر ولا أحاسيس.. أقسم أنني في صحراء.

عزيزتي ..

عندما كانت الحافلة تتجاوز مكناس وآزرو كنت أشعر بفداحة الانتقال من الأخضر إلى الأصفر، من الرطب إلى اليابس، من العشب إلى الصخر. أدركت حينئذ تهافت حجاجي السابق في محاورة الأصدقاء عندما كنت أقول:

 المهم هو العمل. ماذا تفيدك مدينتك الجميلة الرائعة إن كنت بلا عمل؟ ماذا يعطيك البحر والنهر والطبيعة !؟

في حركة العبور تلك أدركت خطأ الاستدلال، وعمق ارتباط النفس بالجميل والممتع. وفي لقائك وحضرتك كنت أنت الجميل والممتع والنافع وسط الفراغ والسراب.

الآن أخرج من عشب إلى عشب، من الأخضر إلى الأخضر، من الرطب إلى الرطب .. لكنني أحنّ، مع ذلك، للعبور نحوك عبر الصخر والفراغ والسراب. لم يعد النهر، والماء، والغروب جميلا ولا ممتعا، ولم تعد للنفس إشراقتها وبهجتها التي تمدها بالرغبة في الحياة.

أحار في تفسير تقلبات النفس وعدم اطمئنانها إلى شيء .. كأنني في بحث عن شيء دفين أقترب منه ولا أجد سوى الحيرة والعذاب.

صديقتي العزيزة ..

مشتاق أنا إلى نظراتك .. إلى جلساتك .. إلى نزق الطفولة في عينيك كل مساء.

مشتاق أنا إلى حضورك الجميل الأنيق.

حضورك وحده يعيد البهجة إلى النفس، ويطرد الصحراء من الأعماق.

لك مودتي وأشواقي.

أصيلة – 2005م.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى