الأحد ٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
بقلم هيثم نافل والي

معاناة عائلة

تنويه:
(لا تصدقوا كل ما هو جاداً، على أنه حقيقة لا خيال... ولا كل الهزل خداعٌ واحتيال... ولا كل من صفقَ مسروراً، ولا كل من ذرفَ الدموع مهموماً... المؤلف)

هتفَ كريم البالغ من العمر الثالثة عشر، ذو القوام النحيف، كعمود النور! في سره بغضب جامح وبحماس يداري به ارتباكه، بعدَ أن على الوجوم محياة، فتلون وجهه بلون داكن يقطرُ يأساً كالموت... عضَ شفتيه بقوة، فأدماها وهو يردد بتحدٍ: سألقنه درساً لا يمكن له أن ينساه! ماذا يظن نفسه؟ سأجعله عرضه للسخرية والضحك، سيكون عبرة تذكر في كل مناسبة...

سمعته أمه وهو يخاطب نفسه، وكأنه يهذي! فذهلت وهي تتقدم نحوه ببطء وبدقة، كالسائر في منامه! فسألته بخوف وبرهبة:
 ماذا دهاك يا بني؟

كريم يحادث نفسه وكأنه يداعبها! دونَ أن يعير إذنً صاغية... وهو يصك على قبضة يده الصغيرة بقوة، وكأنه يريد ملاكمة أحدهم! وهتفَ بجسارة: تقدم نحوي يا جبان... هيا... ماذا أراكَ متردداً وخائفاً، كالفأر المطارد! ثمَ على صوته بشكل مريب وهو يصرخ كمن قطعت يده للتو، ها... هل خانتك شجاعتك؟ فأنا لا أسمع صوتك ولا حتى ضربات قلبك، الذي كانَ يرن في أذني كصوت الناقوس... ثمَ أستطردَ وهو يكافح من أجل أن يبقى متماسكاً: أنكَ لم تعد ترهبني منذُ الساعة! فأنا أتجاهلك كما أتجاهل قوة ذبابة! بل أكثر من ذلك، أبصق عليك... وظلَ يدمدم، كالمحموم ويقطب حاجبيه كالطفل الجائع! بينما بقيت نظراته الزائغة، وكأنها تبحث عن شيء ضائع، كنظرات لص وهو يسرق! تروم في الغرفة العارية الجدران، كأنها بئر فارغ! يدور حولَ نفسه، وكأنه يلعب... ويتنهد بصوت خافت كالصفير...
 ارتعبت الأم قلقاً وهي تنظر إلى أبنها بعيون واسعة، كالصقر! وهو يحاور نفسه بشكل صارخ، كالمجنون... عذبها منظرهُ وقطعَ أوصال قلبها، وكأنها ماتت بحياتها، فتراجعت إلى الوراء، كالمصعوقة، وهي تهمس بصوت غير مسموع، وكأنها مخنوقة: اللعنة على الشيطان... ماذا أصابَ أبني؟! لقد جن بكل تأكيد، وإلا ما كانَ يبدر منه كل ذلك! ثمَ دقت صدرها بيدها، كالمطرقة! صرخت بتذمر واستياء، كالمعترضة وقالت وهي تتنهد: اللهم أن يكون لنا الجنة بغير حساب! فقد شل منظر أبنها كل تفكيرها ولم تعد ترى أمامها سوى سحابة سوداء من الضعف والهوان والخوف والقصر... فتراجعت نحو الجدار، وكأنه يحميها، عندها خرجت صرخة مدوية شقت الآفاق، مجلجلة، كالرعد وصاحت بحزن لا يوصف... أبني قد مسه الشيطان!

وفي هذه اللحظة الحاسمة، وسط الدوامة، بينَ الجنون وهو يصارع القدر... تقدم كريم من أمه وهو راكعاً على ركبتيه، وكأنه ينوي الصلاة، وكادَ صدره يمس الأرض والدموع كانت قد فاضت على خده، همسَ بكل وجل، وكأنه أمام الله في يوم الحساب:

نحنُ يا أماه نصلح أن نكون ممثلين عالميين وبكل جدارة... أليسَ كذلك؟!

فنهضَ الأب من مكانه وكأنه مخرج المسرحية بثبات وعزيمة... بعدَ أن رنت من بينَ كفوفه صفقة فرح واعتزاز وهو يثني على قابلية زوجته وأبنه في التمثيل... فقالَ مهنئاً، وكأنه يبارك في زواج:

لقد اقتنعت اليوم بعمق لا يعرفه سوى البحر... وهو يشير بيده نحو الأفق، وكأنه شاعر على منبر! ثمَ أستطرد بحزم: أنكم وكما قالَ كريم... تستحقون أن تكونوا ممثلين عالميين!

بينما ظلت الأم باهتة، غارقة في دموعها دونَ صوت وهي تلهث بكدر، وكأنها تقمصت الشخصية التي تمثلها بجد! فعلت من وجهها نظرة عابسة، مليئة بالعناء كمن يستحضر خيالاً لا يرام أو روحاً لشيطان لا ينام.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى