الثلاثاء ٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
بقلم مليحة مسلماني

وقد احسن بي إذ أخرجني من السجن

وقد أحس بنا المولى جميعًا.. أبي

التحدي الأكبر للكاتب، هو الكتابة عن تلك التجارب التي حفرت عميقًا في وجدانه، ومشاركته الآخرين إياها.
لذا، قررت ان أكتب ببساطة. سأكتب الامر كما هو، على بساطته وتعقيده وعظمته.

كم مرة انتظرتَ صديقًا في مقهى، وتأخر، وتوترت؟ وظللت تؤنس وحدتك بالتفكير في جمال اللقاء الذي سيكون عما قريب، لتتحدثوا في آخر التطورات في حياتكما، أو تشكوان عدمها!

كم مرة انتظرت مبلغًا من المال، وكلما تأخر تواسي نفسك بالتفكير في الاشياء التي ستشتريها، او الالتزامات التي تثقل كاهلك وستتخلص منها حالما يصلك، وإن لم يصلك، تصبر، او تعقد العزم على عمل جديد، او تستدين، وما المشكلة؟

كم مرة انتظرت دورك في عيادة الطبيب؟ ومللت وشعرت بالضيق. ولكنك قررت اختيار لعبة في الموبايل تسليك، او قراءة منشوارت العيادة، او ذكر الله على سبحتك، وقلت: بقى القليل من المرضى امامي، وكلها ساعة ويصرف لي طبيبي الدواء. وقد لا يصرف، وماذا يضير!
الانتظار لدقائق، أو ساعات، أو أيام أو شهور، حالة يمر بها البشر جميعا. اما الانتظار لسنوات، لعشرات السنين، لما هو اعز من المال والصديق، فهي حالة خاصة، وخاصة جدا، قد يمر بها الكثيرون، ولكنهم يبقوا نادرين.

أمي العزيزة: حينما أيقظني هاتفك من نومي في منتصف اللليل، تصرخين بفرح: انهضي من النوم، صفقة التبادل تمت وسيخرج ابيك عما قريب جدا. لحظتها أمي لم اعرك اهتماما، وقلت في نفسي، امي ستجن او تنهار عما قريب، ويبدو ان الانتظار والتفكير ارهقاها، وكل خبر عن اي صفقة سيكبر داخلها الى امل مؤكد في الافراج عن أبي.

أعذريني أمي، فأنا لا انسى تعابير وجهك بعد كل خيبة امل في كل صفقة لم يخرج فيها ابي. آخرها تلك التي كانت منذ أعوام قليلة. وأذكر ان العائلة لم تستطع ان تقدم لك شيئا سوى ان تكون بجانبك لحظة اتمام الصفقة واستقبال الخبر المشؤوم: انها لن تشمل والدي. اشعرتينا بالعجز يومها، انا واخواتي واعمامي كنا صامتين ننظر اليك، ولم يستطع اي منا قول أو فعل اي شيء.

لكني أمي، ورغم كل هذا، شعرت في صوتك الطفولي الفرِح على الهاتف، يقينًا ما. خط اليقين هذا تسلل عبر خط الهاتف على ما يبدو الى مكان في قلبي، واستقر. ولأول مرة، اصدق اخبار التنظيمات والزعماء عن صفقة تبادل.

لم ادر من أين أتى اليقين: من بشرى ربانية بُشّرتُ بها العام الفائت، وكذّبتها وقلت انها وهم ولا ربانية ولا شيء؟ ام من يقينك انتِ؟ ليس مهما. المهم ان يقيني، ويقينك الاكبر والاثبت، قد صدقا، وصارا، عما قريب جدا كما قلت، عين يقين وحق يقين.
خط اليقين الرفيع هذا ايقظني من نومي فعلا. فتحت الجهاز ابحث في شبكة الانترنت عن اي خبر. قرأت على موقع الجزيرة اخبار مؤكدة عن تحرير اسرى فلسطينيين، من بيهم قدماء في السجون مثل ابي، قريبا. طلبت من الاصدقاء الدعاء، ومنهم كثيرون فوجئو بأن أبي معتقل منذ ثلاثين عاما، وأغضبهم أني لم اخبرهم يومًا بذلك، زكريا من المغرب، عاشق فلسطين التي لم يزرها، قال لي في رسالته: الوم عليك اني لا اعرف عن اختي المقدسية هذا الامر. اجبته: ربما لأن ما هو محفور عميق في القلب، من الصعب ان يخرج في الحديث، ويترقب الوقت المناسب لينفجر، وها قد خرج، قبل ايام من خروج ابي. وكان رد زكريا: الصمت.

الاصدقاء الآن يدعون أمي، من قلوبهم، منهم: زكريا وصوفيا وسهام في المغرب، احمد وسلافة وعمر في مصر، إسراء وفي مكة، ويحيى الفلسطيني الذي بكى، منهم لا اعرفهم ولم اقابلهم في حياتي، جمعتنا الشبكة الافتراضية، وهموم وقضايا مشتركة. ارسلو لك السلامات والتحيات. منهم من حملني امانات بتقبيل يديك الطاهرتين، وتقبيل جبين ابي نيابة عنه أو عنها حينما يتنفس هواء الحرية.
الخبر أمي، مجرد الخبر، فجر مشاعر من الحب من اخوة واخوات من كل البلدان. منهم أيضا من هم ليسوا عربا، راسلوني قلقين، يسألون عما اذا كان ابي من المحررين.

خطفتني مشاعرهم الصادقة من الخبر، لأتأمل في هذا الحب الموجود في الكون، ما الذي يجعل شخصا في المغرب لا يعرفك يفرح حتى البكاء من اجلك ومن اجل فرحتك؟ اخبريني، يا سر الحب يا أمي، عن سر هذا الحب؟
واستجاب الله لأدعيتهم، ومن قبل لدعاءك على مدار عشرات السنين. في سجودك في البيت دعوتِ، في سجودك في البيت المقدس، أقصانا، دعوتِ، في البيت الحرام دعوت، وهناك مرات دعوت، امام مقام الشفيع الاعظم، نبينا، دعوتِ، لم اكن معك، لكني اعرف انك دعوت. وعما قريب جدا سيستجييب لك الباري امي. وسيحضره لك زوجا ورفيقا وصديقا في البيت، يحمل عنك الهموم التي لا تحتملها رجال. فقرّي عينًا، وافرحي، واشكري.

ثم اتصلت بي في اليوم التالي، صوتك أعلى بكثير من الامس، لا لم تكوني تتحدثي، كنت تبكين، كنت تطيرين، قلتِ بصراخ طفلة: ورد اسم ابيك في قائمة المفرج عنهم، يلا تعالي، سافري الينا بسرعة.

وصرخت فيك انا مرعوبة, عليك ومنك، قلت لك: ضعي احتمالاً ولو ضعيفا بأنه ربما لن يخرج، لا تصدقي شيئا حتى ترينه امامك، قلتِ بثقة: لا سيخرج، وانك تأكدت من مصادر عليا! أمي مع خبرة السنين في البحث والسؤال والانتظار صارت تعرف كيف تصل الى المصادر العليا. لحظتها امي، وقد رأيت تصديقك راسخا، وكلت ربي في امرنا وامرك.

اعذريني كم مرة قالوا مؤكد ولم يكن مؤكدا أبدا؟ اعذريني امي: هل تثقي في إسرائيل؟ ربما يرد اسمه وربما يتراجعون في الللحظات الاخيرة، وقد فعلوها من قبل. وبالفعل بدأت معركة الاعصاب في الايام القليلة قبل موعد اتمام الصفقة.

حركة حماس اعلنت ان الاسماء التي اذيعت غير دقيقة وهي غير مسؤولة عنها. وبصفتي شخصية دقيقة، الى درجة الوسواس أحيانا، هذا الامر اقلقني جدا. مرة اخرى تقول اسرائيل انها ستعلن عن الاسماء قبل يومين من اتمام الصفقة حتى يتسنى للجمهور الاسرائيلي الاعتراض على اي اسم. قلت يا سلام، ماذا يعني هذا الكلام؟ هل يعني ان اعتراض أحدهم على اسم احدهم قد يمنع خروجه؟ ام هي معركة نفسية لا اكثر ولا اقل؟ لعنتُ الاخبار واسرائيل والقوائم، وقررت ان استسلم الي يقينك، وإلى إرادة الرب، وليفعل الله ما يريد.

لحظة قراءتي لاسمك ابي في قائمة المحررين التي اعلنتها المواقع الاخبارية، في تلك اللحظة الصادمة المبشّرة الثقيلة الخفيفة السريعة الخاطفة المحزنة المبكية، اتصل بي اخي، لم يسمع مني غير البكاء، لا بل الصراخ الباكي، لم يحتمل على ما يبدو حالتي فأعطى سماعة الهاتف لأمي، كانت تحاول فهم الكلام الذي أقوله أثناء صراخي وبكائي، وتحاول تهدئتي، كلام اختلط بالبكاء والصراخ. كنت اقول امي: وجع كبير في القلب يخرج.. هذا فقط ما كنت اقوله واكرره مرارا. هذا ما كنت أحسّه أمي.

في اليوم الثالث ارسلت لك اني سأحجز على اقرب طائرة، فيقيني ازداد رغم المعركة الاعلامية والنفسية، التي كنت انت لا تعيرها ادنى اهتمام وتستعدين مع العائلة للاستقبال، وكل ما يهمك من الاعلام ان اسمه ورد، وان حدسك سيصدق هذه المرة.

في اليوم السابق لسفري هكذا قررت، ان علينا ان نزفكما من جديد، واشتريت لكما الثياب المناسبة للزفاف، وهو ما أبكى صديقتي سلافة وصديقتها! أخبرتهما بشكل عادي أني سأشرب قهوتي وبعدها سأتجول في السوق لشراء فستان لك وبدلة له، دموعهما نبّهتني أني لا أقول شيئا عاديا، اني لن أذهب لشراء زي عادي لمناسبة عادية، ودعتهما بسرعة وبتوتر.

صليت ركعتي شكر في مسجد الامام الحسين، برفقة صديقتي شهيرة، التي أرسلها الله في هذا اليوم لمرافقتي واحتضاني وفرحتي التي لا أحتملها. ثم انصرفت الي البيت، حاولت ترتيب حقيبتي كما يجب، ولم أستطع، ثم استسلمت للتفكير فيه: هل عرف؟ بالتأكيد عرف. فالاسرى يتابعون هذه الاخبار دائما. هل هو مضرب عن الطعام مثل بقية الاسرى؟ بالتأكيد مضرب، كيف لا وهو بمثابة زعيم للاسرى. وان عرف ما هي مشاعره؟ هل صدق الاخبار مثلك؟ ورحلت بروحي اليه، علّ الروح تستشف شيئا من أخباره، أو علها تؤنس ساعاته الأخيره في ظلمات الحبس. فبالتأكيد، هي أكثر الساعات ثقلا عليه.

وفكرت في صديقاتك، زوجات الاسرى، وابنائهم، في انتظارهم، وفي فرحتهم، وبكائهم الان مثل بكائي وبكائك. فكرت في كم اصبحنا واياهم متشابهين، وكأننا نسخ تكرر ذاتها في تلك الليالي. ولا فارق بين أحد وأحد، كلنا، نحمل نفس تلك المشاعر التي لا نفهمها.
حينما استقبلتني في البيت بالزغاريد الممزوجة بالبكاء الصارخ، لم اجد الا ان احتضنك واهون عليك، كأني اصبحت الام وأصبحت أنت الطفلة، شعرت بحاجتك لمن يهدأ من روعك. اعرف امي، مشاعر راكمتها على مدى السنين الآن تتفجر في داخلك، أنهارا مختلط ماؤها ما بين الحزن والفرح والحسرة والامل والانوثة والطفولة والرجولة التي اضطررت ان تكونيها في كثير من الأحيان: شبابك، لحظات وحدتك القاسية، همي وهم اخوتي الذي حملته، فرحتك التي دعوت الله ان يجعلك تحتمليها، فهي ليست فرح، بل فرج، فرج وانفراج بعد معاناة عشرات السنين امي، فكيف ستستقبليه؟ كيف ستحتملين هذا الفرح؟ حولك الله الى طفلة، فالاطفال يستقبلون التحولات بالفطرة والوجدان، ولا يحيلونها الى العقل!

صدمتني مجرد استعدادات العائلة امي: العلم الفلسطيني الكبير الذي يغطي بيتنا، الاعلام الصغيرة، اليافطات، الأنوار الملونة، صور أبي في كل مكان. استعدادتكم عززت من يقيني. التوتر والترقب على وجوه افراد العائلة. كل هذا امي كان لا يُحتمل، وقتها فقط عرفت ماذا يعني فرح لا يُحتمل!
استيقظت في صباح الاستقبال، لأجد البيت فارغ منكم، قُبض قلبي، فأنا امي ما زلت انقبض حينما اصحو وأجد البيت فارغا من سكانه، الاغطية مبعثرة على الاسرة، الاشياء تركت على حالها، كأنكم الآن غادرتم.

صليتم الفجر وخرجتم لاستقباله، لم تعيروا تعليمات المخابرات الإسرائيلية ان يستلمه اثنان فقط، اي اهتمام. خرجتم جميعا، بقيت في البيت اتصل كل خمس دقائق، تقولون قالوا لنا سنتسلمه بعد عشر دقائق، العشر دقائق امتدت لساعتين، تخللتها عشرات الاتصالات بيني وبينكم وبين كل أفراد العائلة. كنت بين نارين، نار عدم احتمالي الانتظار في البيت ونار عدم احتمالي الذهاب اليكم واستقباله، غير اني حسمت امري بتشجيع من عمتي التي حضرت بكل طاقة وأصرّت أن تصطحبني للحاق بكم.

الاعلام الفلسطينية المرفوعة على حاجز الزيتون شرقي القدس، النساء باثوابهن المطرزة، الحطات المرفوعة، علامات النصر، الفرحة والترقب والانتظار على الوجوه، هذا اخ لأسير قضى اكثر من عشرين عاما، هذه اخت لأسير توفي ابواه في السجن، هذا ابن لأسير تركه طفل وهو اليوم أب لاطفال، هل يحتمل هؤلاء ما يعتريهم من مشاعر في تللك اللحظات؟ انهم يدركون أنهم يمرون بلحظات انتقالية، ما بين مرحلتين، مرحلة اعوام، واحيانا عشرات الاعوام، من ظلمات السجون، والزيارات، وقسوتها، والحرمان، والتحولات في كل شيء، الى مرحلة قادمة، مشرقة، تكللها نعمة الحرية، والدفء والسكينة.

ساعات الانتظار الانتقالية تلك.. مرت أشبه بحلم، بعلامة فارقة في تاريخ الفرد الفلسطيني، والشعب الفلسطيني، الذي يزداد ايمانه بقضيته وبفرج الخالق القريب بعد الحرمان وقسوة السنين. نوبات بكاء تصيب كل منا، نساءا ورجالا واطفالا، بين الحين والاخر. لا احد يعرف لم يبكي، أنبكي على ما فات؟ ام فرحة بما اهو آت؟ ام هو خليط من المشاعر المتناقضة؟

في اللحظات الانتقالية تلك، انتَ ومن معك على الجانب الآخر، تترقبون شمس الحرية، بيننا وبينكم مسافة قصيرة، هي المسافة بين السجن والحرية، ترى بم كنت تفكر؟ كيف كنت تشعر؟ افكر فيك .. هل يصدق؟ ثلاثون عاما داخل القضبان تطويها الآن بلحظة، لحظة فقط، وهي لحظة تسليمك لنا، وهنا، ثلاثون عاما يُسدل عليها الستار، السجون التي تنقلت فيها، رفاقك في حياة السجن، الزنازين التي نزلت بها ولا رفيق لك الا كتاب الله، قلقك الدائم علينا وعلى مصائرنا في الحياة، انتظارك لساعة الزيارة، قراءتك الفاتحة على ارواح من ماتوا من الاقارب ولم ترهم ولم تودعهم، لحظة فقط ستكون إعلانا لنهاية كل هذا، وبداية لما هو قادم، لولادة جديد؟ لحياة اخرى؟ وحدك ابي من يستطيع ان يعبر عما كان يشعر في الساعات الاخيرة من السجن، وفي تلك اللحظة الفارقة، وربما لن تسطيع.
بعد ساعات قليلة من الانتظار، اخبرونا انه حان وقت تسليمك، لا أدري كيف صرتُ في السيارة التي دخلت المنطقة العسكرية لاستلامك. الترتيب الرباني وحده فقط في هذا اليوم هو من وضعني مع امي وعمي ومعتي لاستلامك. دقائق ليست كالدقائق مرّت: طويلة، قصيرة، موجودة، لا موجودة، انا في حلم لا ينتهي، حتى حينما رأيتك، الحلم لا ينتهي !

وضعك رجل المخابرات الاسرائيلي (المستفَز الى أقصى الحدود) في السيارة بعدما طلب مني الحطة الفلسطينية التي ارتديها. تشاجر مع عمتي التي رفضت ان تعطيه الحطة، وأثناء شدهما للحطة، هو يريد ان ينتزعها، وعمتي لا تريد ان تعطيه اياها، حسمت انا الامر بأن طلبت من عمتي ان تعطيه الحطة، هنا المخابراتي المستفَز والمستفِز، قال لي: وحطتك ايضا، وانت تنتظر خارج السيارة، يمسك بك، تنتظر ان ينهي عراكه معنا, اعطيته الحطة أبي وقلتُ له: احتفظ بها للذكرى، ولا تنسَ هذا اليوم من حياتك.

هل هو غبي هذا المخابراتي ابي؟ فعلا امر يدعو الى الضحك. هل اصراره على اخذ الحطات قبل دخولك السيارة يعني انه لن يسلمك الا بتسليم الحطة! هل الحطة تستفزهم إلى هذه الدرجة ابي؟ يا شعب فلسطين: اياك ان تنسى حطتك إذا، فهي على ما يبدو ما زالت هوية حاضرة تؤرق وجودهم!

انت الآن في السيارة جالس بجانب عمي، انا وامي وعمتي في الخلف. نوبات بكاء، تصيب عمتي وعمي. امي تشد على كتفيك، كأنها لا تصدق انك معها وأنك حر، أنت معها في سيارة تذهب الى البيت، وليس في زيارة من وراء شباك تنتهي بصفارة السجان. كأنها لا تصدق، كأنها تستعين بيديها على كتفيك لتصدق. وأنا ينتابني الصمت، لا بكاء، لا ابتسام، لا شيء، تحولت الى اللاشيء في تلك اللحظات، حتى ايقظني سؤالك: كيفك يا مليحة، واشعرني بحضوري أكثر يدك التي شدت على يدي بقوة لدقائق. وبعدها بدقائق, أصابتني نوبة بكاء!
انا لي أب الآن.. انا كان لي أب.. ولكن أبي الان غير الاب الذي كان في الثلاثين عاما التي مرت.. لا تسألوني كيف.. ابي هو هو ابي.. عليّ الذي اعرفه .. الذي تغير في السجن الى ابعد الحدود.. ولكنه ابي.. وانا أنا مليحة.. ولكني التي تغيرت على مدار الثلاثين عاما الى ابعد الحدود.. كل شيء الآن يتحول .. كل شيء في تحول.. وأمامنا على ما يبدو مرحلة اخرى من الحياة وعلاقة الابوة والبنوة.. التي تواطئنا انا وانت واخوتي على تركها للفطرة .. دون اي تدخل عقلاني في الطريقة التي ستكون عليها علاقتنا.

وتيقظني الحشود والأقارب والصحافيون الذي يركضون على جانبي السيارة. من أين اتى هؤلاء؟ ما كل هذا الحب في شعبي؟ في اثناء سير السيارة من المعبر الى البيت، على كل مفترق طرق مجموعة ترفع الاعلام وتغني وتتجمع حول السيارة، لا اعرف معظمهم، واعرفهم كلهم. اعرف انهم من شعب فلسطين، التي لم يخل بيت منها من شهيد او أسير او معتقل أو جريح، يفرحون لك ام لأنفسهم؟ ام ان فرحتك تواسيهم بما لم ولن يفرحوا به على هذه الأرض؟ بعضهم من أهالي الشهداء مثلا. هل يرون فيك أرواح أحبابهم الذين فارقوهم الى الأبد؟ ام اسماعيل.. مثلا ابي.. كانت معنا تنتظرك وباقي الاسرى، بثوبها المطرز تلوح بالعلم، ام اسماعيل التي استشهد زوجها في المعتقلات اتت لانتظارك! لماذا تنتظر هذا السيدة لحظة تحررك؟ قالت أبي : انا فرحانة كأنو يوم خروجه، كأنه هو من سيخرج (تقصد زوجها الذي رحل الى الابد).. واضافت بحزن: الحمد لله.

كاد يغمى علي أبي على باب دارنا حين رأيتك في مشهدا لن أنساه في حياتي، كان اخوتي وبعض الاقارب يصنعون حولك سوارا بشريا يحميك من هجوم المهنئين الذي تدافعو حولك بأعداد كبيرة. لحظة لم افهمها، الهذه الدرجة الحب؟ الهذه الدرجة الفرح، لدرجة ان يخاف عليك اخوتي فيدفعون بالقوة الناس الذين يتدافعون عليك؟

أنت، أبي، كنت دائما بطل أكثر المشاهد رسوخا في ذاكرتي، والتي تحضر كلها معا وبقوة اليوم. مشهد اعتقالك الاول، ومشهد اعتقالك الثاني، ثم حضورك مع الجنود مرة أخرى ليفشتوا البيت، وكنت مكبل اليدين والقدمين، تبتسم لي، ولكن ذاكرتي سجلتك طويلا جدا، في هذا المشهد، كنت عاليا حتى السماء. ومن حولك جنود قصيرين جدا. مشهد تحررك الاول، أيضا على باب دارنا، في نفس المكان الذي كاد يغمى عليّ فيه خوفا وفرحا اليوم، هنا هنا في هذا المكان، كاد يغمي على جدتي، منذ ستة وعشرين عاما، حين رأتك على باب البيت قادما محررا من السجن. وهي الآن غير موجودة الا بروحها التي حضرت بقوة واستقبلتك واستقبلت المهنئين الذين لم يروها.

اسأل نفسي خلال كتابة تلك السطور عن سبب الكتابة، قلت: هذه المشاعر من المفيد ان تخرج على ورق، قلت: فلتكن رسالة ترحيب مني بك وبأسرة تبدأ عهدا جديدا، فأنا لم أتقن الترحيب بك. ثم قلت ما هذه التفاهة التي أكتبها، فما نشعر به أعلى بكثير من مستوى هذه السطور، الكتابة أبي حرفة مخادعة، إلى أبعد الحدود، فهي تصور لك أن المفردات ستصور المشاعر والاحداث في أبهى حلّة، ثم تصطدم بأنها، أي الكتابة، تحاول طوال الوقت اخفاء عجزها أمام المشاعر والحدث. وهنا، هنا فقط، المشاعر بدورها تنصر على الكتابة بالكتابة، قائلة بنصر مكابِر: تبا للكتابة وجمالياتها، على المشاعر ان تخرج وتعبّر وتصرّح وتصرخ.

احداث كثيرة مرت.. الحشود.. الاعلام .. المشاعر.. الوجوه... البكاء .. الزغاريد.. الرقص.. احداث اختزلها يوم واحد.. وانتهى ولم ينته من الوجدان والذاكرة.. هدأت نوبات البكاء مع الايام.. سكتت الزغاريد.. اختفت الحشود.. غادر الاقارب .. وكل شيء هادئ وجميل .. وفي بيتنا: أب .

وقد أحس بنا المولى جميعًا.. أبي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى