الجمعة ٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
بقلم نعمان إسماعيل عبد القادر

صراع بعد منتصف الليل

توقفت مسيرة نومه توقفًا فجائيًّا ثمّ جلس في فراشي يستعيذ بالله من الشياطين وراح يرقب الأحداث عن كثب، حين ارتفعت صرخات غريبة من خلف الباب واشتدّت معها حدةّ النزاع، وتلاطمت الشتائم الفاحشة التي تنم عن غضب شديد داهَمَ الطرفين.. إذ كان ساعتها غائبًا يغط في نومٍ عميقٍ بعد معاناة سفرٍ طويل نال منه استغرق سبع ساعات تخللها تفتيش واستجواب.. ثمّ حصل مخاض فولد الخلاف وترعرع قبل أن يحضر. وكان قبل أن يلجأ إلى فراشه قد ألفى الشوارع خاليةً من المارّة؛ لأن الجوُّ ببرودته قد فرّق الناس وألجأهم، إما إلى بيوتهم أو إلى المقاهي المجاورة الْمُدَفّأةِ بالمدفآت الغازيّة.. وانتهت إلى مسامعه كلمات لم يفهم كنهها، فتعوّذ من المشهد الذي رسمته مخيّلته بعد سماعه صوت تكسير أطباق وتطاير أشواك وسكاكين وتحطيم زجاج.. وحاول أن يسترقّ السمع بحنقٍ ويلملم بعض أطراف المعاني ليفهم شيئًا ويستشف من خلالها بفراسته وتجربته الذاتية التي اكتسبها، المكانَ الذي وفد منه المتخاصمان، فحملته مخيّلته إلى طرابلس الغرب وراح يلتقط الصورة بعد الصورة من مشاهد وقوف الزعيم وسط الساحة الخضراء ينادي وهو يلوح بجمع يده حاملاً قبضته اليمنى قائلاً بنبرات التهديد:

زنكة زنكة، بيت بيت، شدّوا الجرذان...

رفع سماعة الهاتف في عجالةٍ، كمن يرقبه يتقدّم في الممرّ المؤدّي إلى غرفته، وضغط على الصفر، ثمّ هتف صائحاً بغضبٍ في وجه موظف الاستقبال من غير مقدمات ولا ترحيب:

يا أخي أهذا فندق أم زريبة؟ من أين جاء هؤلاء البشر؟

نأسف لما يحصل يا سيّدي، ونحن على اطلاع لما يجري ونتفهم الموقف الذي أنتم فيه. اطمئن نحن سنعالج القضية في الحال..

ألا يعرف هذان أنهما في فندق فيه نزلاء من مختلف الجنسيات، وأن الساعة قد تجاوزت الثانية، وأن صراخهما في هذا الوقت مزعج حقًّا...

كل ما تقوله في غاية الصدق ونحن نعالج المشكلة وسنحلها في أسرع وقت ممكن.

مضى على المكالمة الداخلية نصف ساعة ولكنّ الصراع يتصل ويشتدّ، وظلّت تخلله أصواتُ تحطيمٍ وارتطاماتٍ بالحائط وصفقٍ متعمّدٍ للأبواب، هذا عدا عن "البصق" في الوجه والإهانات المتهافتة والشتائم التي لا ينطقها إلا الرعاع. كلماتٌ وجدها تخرج من أفواههم، مثقلةً ومتباطئةً فمبهمةً، حين أرهف السمع وأدرك أن الخمر قد أخذت مجراها في عروقهم وعملت أعمالها التي يمكن أن تعملها في عقول المخمورين..

صوتٌ جديدٌ تناهى إلى مسامعه.. لم يكن متناغمًا مع أصواتهما الشرسة.. وفيه من الرقّة والنعومة والعذوبة. كلّما حاولت جاهدةً إخماد الثورة بأساليبها العاطفية وأسر قلبيهما، إلا أنها كانت تنتهي بالفشل. ولأنها خُيّرت بين القلبين فقد أطلقت صيحة مدوّيةً هددت فيها بالانصراف إن لم يتوقفا عن الاقتتال خلال دقائق معدودة، ولن يثنيها عن تنفيذ تهديدها أحدٌ.. صمتٌ رهيبٌ ساد المكان وكأن الأشباح قد سكنته.. تعاظم الصمت بضع دقائق وتفاقم حتى ارتطم بجداره صوتٌ باكٍ أشبه بالعواء منغمس بالألم تبعته أصوات جديدةً. تصدّع الجدار سريعًا لكنّ الانهيار كان أسرع. هذه أصوات شرطة.. نبراتهم.. كلماتهم.. تهديداتهم.. كلها تدلّ على أنهم رجال شرطة. ظلت الأصوات تخفت شيئًا فشيئًا حتى تلاشت نهائيًا وساد الصمت من جديد.. ما هي إلا بضعة دقائق حتى رنّ الهاتف يبشره بإلقاء القبض على الثائرين الليبيين ممن جيء بهم للعلاج في عمّان، واللذين كانت الشرطة تبحث عنهما منذ يومين، بتهمة ارتكاب جريمة اغتصاب وهما مخمورين..

ولما لم يجد النعاس مكانًا في عينه استوقفته فكرة قتل الأرق بتصفح مواقع الأخبار والانتقال إلى صفحة الحائط لتعليق ملاحظةٍ جديدةٍ معنونةٍ بالكلمات التالية: "التغيير الحقيقي لا يمكن أن يطرأ إلا إذا تغيّر منهج التفكير"..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى