الاثنين ١٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
الأديب رياض عبد الله حلاق
بقلم محمود محمد أسد

وتعدّد الكتابات

إنَّ ذكرَ أعلام حلب من مفكّرين وعلماء وأدباء وباحثين يستدعي ذكر الشاعر المرحوم عبد الله يوركي حلاق صاحب مجلّة الضاد ومؤَسِّسها، وحاضن الأدباء في شتى الأصقاع، وواسطة العفد بين أدباء المهجر وأوطانهم، وهو والد الأديب الذِي أستعرض بعضا من محطات حياته، وأدبه، وبما يتناسب مع منهج العرض.

النشْأة والمكوّنات:

في هذا البيت العابق بأريج الأدب والإبداع نشأ وترعرع، وبين مجالس الأدباء كان مجلسه، ومنهله من عذب معارفهم المتنوّعة، فأتقن العزف على الحرف واللغة، فاستعذب حلاوة اللّقاءات معهم، وهي لقاءاتٌ أمدّتْه بالخبرة، وصقلت موهبته، فأزكت فيه روح الأدب والعمل به، فاستمرَّ بإدارة مجلة بعد رحيل والده. احتفظت ذاكرته بالصور المضيئة التي رسّخت مسار حياته الأدبية، لم يشأ الأديب رياض حلاق أن يخرج من ثوب والده، ومن مملكته الخاصّة والعامرة، فأتقن لغة العلاقات الا جتماعية، وصار له ذكر في المجالس والملتقيات واستمرّ على نهج الوالد، فأينعت الثمار حبّاً لوالده وأصدقائه ومجلّته التي أخذت الكثير من جهده واهتمامه، وسهره لتبقى الشّعلة المشعّة في مدينة حلب إلى الآن. ماذكرْت هذا إلا لأقدِّم أهميّة النشأة والمتابعة والحبِّ للعمل والتضحية من أجل الأعمال النبيلة.

هو من مواليد حلب 1940 ودرس في مدارسها الحكوميّة والخاصّة، ودرس الحقوق. وقد نظّم الشّعر مبكّراً، ويحرص عليه كلَّ الحرص، وممّا جاء في بطاقة تعريفه التي وردت ْ في آخر كتابه الذي أعدّه عن والده المرحوم «عبد الله يوركي حلاق ومعابر الذكرىوالوفاء» بدأحياته بكتابة القصّة والمقالة والقصيدة العموديّة وهو عضوٌ في أكثر من جمعية «العاديات اتحاد الصحفيّين، جمعيّة الجغرافيّين، ورئيس تحرير مجلة الكلمة، وانتخب عضوا في مجلس مدينة حلب لدورتين».

المسار الأدبي والتوجُّهات

رياض حلاق حفر اسمه بالمتابعة والمواظبة، فنشر آراءه ومقالاتِه في المجلات والصّحف، وأغلبها في مجلّته الضّاد، وغيرها " المجلة العربيّة والعربي والنهضة والبيان الكويتيّة والتمدّن الإسلامي السّعوديّة والملحق الثّقافي لصحيفة الجزيرة السعوديّة وغيرها" وأغنى الصّحافة العربية في الوطن والمهجر بلقاءاته التي عبّر فيها عن حبّه للعربيّة ولوطنه ومدينته، فكان مثالاً للمحبَّ الودود، أُجرِيتْ معه لقاءاتٌ في صحيفة الوطن الكويتيّة والنهار اللبنانية والبيرق والنهضة. وشارك في الكثير من المؤتمرات الدوليّة في بلجيكا و مؤتمر لامارتين وشوقي في فرنسا "باريس" والمغرب ومهرجان الشّعر العالمي في نواكشوط "موريتانيا " وكندا. وقد شارك في مؤتمر البابطين في الرّياض، ومؤتمر ابن زيدون في قرطبة "اسبانيا ألقى فيها العديد من المحاضرات الأدبية والفكرية والقصائد، وهو من الذين يعملون بدأب لا يعرف المللَ، اصدر مجموعة من الكتب :

اسم الكتاب النوع
حصاد السّنين ديوان شعر (مختارات من شعره)
قطاف الأربعين مقالات اجتماعيّة وفكرية .
وجوه عرفتها مجموعة مقالات عن مفكرين وأدباء عرفهم
رحلة العمر أدب الرّحلات ....
ادباء عرفتهم مقالات منشورة ....

هذا السّرد لمساراته ومشاركاته يوضِّح الصّورة، ويُقدّم بجلاء تجربته التي سأستعرضها بشيءٍ من العرض المبسّط الذي يخدم الغاية من الدّراسة، والذي يُذكر للأستاذ رياض وفاؤه لوالده وأصدقائه ومعارفه، وحرص على ودّهم ووجودهم في مجلّة الضاد، تكاد لا تخلو مقالة من ذكر والده يقول فيه:"نمْ يا أبي العزيز ؛ قريرَ العين مطمئِنَّ البال، وتيقَّنْ أنَّ ذكراك مقيمة ٌ في الخواطر والأفئدة وبين الحنايا. فقد زرعْتَ في كلِّ فؤادٍ من أفئدة أهلكَ وصحبِكَ وخلاَنك وعشّاق أدبكَ جميلا لا تَعْصفُ به رياحُ النسيان، ولا تجْتاحُهُ عواصفُ هذا الفراق الأليم " كتب هذا على غلاف كتابه (عبد الله يوركي حلاق في معابر الذّكرى والوفاء)

قراءة في كتبه:لستُ بصدد استعراض كلِّ الكتب، لكنّني سأقدّم بعض الإشارات والنقاط الموضّحة التي تضي ء معالم تجربته (أدباء عرفتهم) طُبعَ /2006/ وهو مجموعة مقالات نشرتْ في مجلّتي الضّاد والكلمة وبعض الدوريّات العربيّة وللكتاب مقدِّمةٌ بليغة وغنيّة للأديب الباحث محمود فاخوري ممّا جاء فيها موضِّحاً:"والأستاذ الأديب رياض عبد الله حلاق لم يدلف إلى هذا الميدان، ميدان الكتابة والاستبطار، إلا بعد أن هيّأَ نفسه له، وأتقن أدبيّات اللّغة العربيّة، ومسالكها، وأحبّها حبّاً جمّاً أخذَ عليه تفكيرَه، واسْتأثرَ باهتمامه ولا غرْوَ، فقد تربّى على عينيْ والده الأديب الشاعر عبد اللّه يوركي حلاق مُؤسّس مجلّة الضّاد. وهو أشهر من أن يُعرّف َهنا، والذي عُرِف بحبّه العميق للعربية والعروبة والأصالة. ومنه سرى ذلك إلى مجلة رياض الذي يقول في بعض ما كتبه: "لعلّه من الإنصاف أن أعْتّزّّ بأنّي مدين ٌلوالدي بحبِّ الفصحى والأدب والعروبة ز فقد زرع في قلبي منذ صغري بذور المعرفة، وجعلني أعشق الكتاب. واُكبُّ على المطالعة ليلَ نهار. ووضع بين يديّ كتباً تمتاز بالأسلوب السّهل المشوّق والمعنى الجميل الجذّاب "
هذه شهادة علاّمةٍ مشفوعة بكلمة وفاء، في هذا الكتاب كتابات ولقاءات وأحاديث عن شخصيّات أدبيّة وفكريّة لها دورها ومكانتها منهم "لأمين الريحاني والأخطل الصّغير وبدوي الجبل والشّاعر القروي الذّي خصّ رياض حلاق بقصيدة مهداة له، يقول فيها:" عندما زاره رياض حلاق في قريته " البربارة" وأجرى معه حديثاً. بعده أرسل له رباعيّة مهداة إلى ابن الأخ الحبيب رياض عبد الله الحلاق:

أتتْني الضاد حاليةً برسمٍ
يتيه به السّوادُ على البياضِ ِ
فجد ّد لي خيالكَ أنس َيوم
يساوي كلَّ أيّامي المواضي
وعاد شتاءُ لبنانَ ربيعاً
يرشُّ القطْرَ عطراً في الرياضِ
سألْتُ أما لهذا الطّيبِ مثْلٌ
فأرَّخَ: طيب ذكر ِ أبي رياضِ

ومنهم "عمر أبو ريشة وشفيق معلوف والدكتورة سعاد الصّباح، والثائر سلطان باشا الأطرش وعبد العزيز سعود البابطين، وهذه اللّقاءاتُ والمقابلات تُعْتبرُ زاداً ثقافيّا لأنّ فيها الكثيرَ من الذكريات والبوح بالخصوصيّات الأدبية، وتشهد على مرحلة جميلة عاشها الأدباء رغم صعوبة الحياة وظروفها القاسية. وهي مقالاتٌ غنيّة بالطرائف الأدبية والقصائد الخاصة التي تحمل نكهة مناسبتها، ولذلك أراها تشكِّل رافدا من روافد الأدب المعاصر، ولها خصوصيّة التبسيط والوضوح. وبذلك تثبتُ الصّافة من جديد أهميّة التوثيق والعلاقات وفتحِ الجسور والمعابر مع المبدعين بإخراجهم من صوامعهم. وقد وفّق الأستاذ رياض بتقديم هذه الموائد، وقد ارفق الألقاب لبعضهم، وربط بين الاسم واللّقب المحبّب لبعضهم "شاعر عبقر لشفيق معلوف، وشاعر اللّيالي الأندلسية للشاعر شكر الله الجر، وفارس السيف لسلطان باشا الأطرش، والرائد الأثري للأستاذ صبحي الصّوّاف، " ويبقى الكتاب أحد المصادر في أدبنا المعاصر. لأنّه حوى الكثير من ثمرات اللقاءات التي أخصبتْها علاقة آل الحلاق مع أدباء لبنان والمهجر بشكل خاص. .

الاهتمام بالأرشفة: الأستاذ رياض حريص على التصنيف والأرشفة وتتبّع المجلات وتجليدها في مجلّدات رغم مشاغله، وكثيرا ما يسألني عن أعداد بعض المجلات التي لم يحظ بها، ولم يعثر عليها. يجلِّها بمجلّدات سنويّة. وهو عارف بتاريخ المواد التي تهمّه، سرعان مايتناول المجلّدَ، وكذلك يحرص على تصنيف مقالاته وأبحاثه، وفي هذا المجال كتابه "وجوه في ذَاكرتي" وقد حوى المقالات التي كتبها عن هؤلاء الذين طبعوا في ذاكرته. منهم الرئيس حافظ الأسد، وجابر أحمد الصباح، وسلطان باشا الأطرش وفتح الله صقال، والمطران ايلاريون كبوجي والشاعر العراقي أحمد صافي النّجفي والشاعر رياض معلوف وجبرائيل غزال وانطوان شعراوي وعلي محمود طه وصباح فخري وعصام الزّعيم وعبد السّلام العجيلي. . كلُّها شخصيّات لها اعتبارُها ومردودها ووزنها ومكانتها. وهذا يدلّ على أهميّة العلاقات وتمتينها، وأهميّة قراءة الآخر، فهناك علاقات تبنيها اللّقاءات وعلاقات تُوطِّدُها الكتب والمطالعة، وهذا واضح من العناوين التي أشرت إلى بعضها وليس كلّها للتوضيح فحسب.

في حياته محطّاتٌ عبّرَ عنها من خلال لقاءاته، وكشفها بمودّةٍ الصّحفيّون والأدباء الذين قابلوه او تحدّثوا عن أدبه وكتبه وسيرته. فهناك أخبارٌ ومقالات كثيرة، تغني الحديث عن تجربته. فالصّحافة اللبنانية أشادت بمحاضراته التي قدّمها في منتدياتهم فقدّم في صالون "ناجي نعمان" الأدبي الثقافي "لقاء الأربعاء" محاضرته (لبنانيّون نشطوا أدبيّاً وصحفيّاً في شهباء سوريا ) قبل أن يشتهروا في لبنان وطبعت في القطاف الأوّل للمنتدى . وتحدّثت صحيفة الأسبوع الأدبي والأ نوار والمستقبل والبيرق عنه. ومن المقالات اللافتة للحلّاق "الشاعر المبدع فيكتور هيجو"استعرض فيها حياته ومؤلَّفاته ورسالته الأدبية وعبقريّته ورؤيته للحياة والأدب. وممّا جاء فيها "نستطيع إذاً أن نقولَ:إنَّ فيكتور هيجو عبقريّ بغزارة مؤلّفاته وتنوُّعها وبقوّة خياله النادر المثال ورهافة شعوره ونعومته. عبقريٌّ في قدرته الخلاّقة وديناميكيّته المبدعة، وفي فرض نفسه رئيساً للإبداعيّين وإدخالهم المعركة وإيصالهم إلى النصر. عبقريٌّ في مهاجمته وجلْدِهِ كبار المغتصبين والمستبدّين، وفي منع الظّلم عن البائسين ونداءاته لعمل الخير وتشييد جمهوريّة الحقّ والعدل على أنقاض الإمبرطوريّات الزّائلة والممالك العامرة "
وتوقّفتُ عند مقالته " علماء غربيّون منصفون" والمقالة غنيّة بالشواهد وهامّة لأنها تزيح الكثير من الغبار والتّساؤلات، لها دلالتها وموضوعيّتها . فقد ميّز بين منصف وحاقد وأخذ الجانب الأوّل للمنصفين، منهم الفيلسوف" ديكارت " الذي قال: تعلّمت فلسفتي من العرب. وكذلك "أناتول فرانس " الذي قال (حبّذا لو سار العرب قدما نحو باريس إذاً لَعجّلوا بالحضارة قبل قرون) وهناك المستشرق "لويس ماسينيوس" في كتابه (وجهة الإسلام) وهو كتاب مشترك مع بعض زملائه، جاء فيه:"يجب على المدنيّة الغربيّة أن تستعين بما في الثّقافة الشرقيّة من القوى الروحيّة والمُثل العليا حتّى نتجنّب ا لاصطدام والسّقوط " وقد قال في نادي الاتحاد الفرنسي بحلب "لم أرَ غير العربيّة لغةً تساعد على التعبير عن الفكر بوضوح وإيجاز "وهناك شهادات وأقوال للدكتور ألبير شاندروا الذي قال "سأواصل الدفاع عن الحضارة العربية التي نقلت إلينا أنوار الإغريق والرومان يوم كانت أوروبا تتخبّط في الدّياجير " وهناك أقوال ل(كوستاف لوبون)" ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب " ولم عند بقية الأسماء ومقولاتهم وهي مقالة جديرة بالتوقّف والقراءة المتأنيّة، وإن كان الموضوع قد ذكر، وقيل فيه الكثير. .
يجد القارئ نفسه في حيرة أمام الكمِّ الكثير، وأمام النشاط الجمِّ، وقد استعرضْتُ جانبا من المقالات والدراسات والنشاطات بما يتاح لي من مساحة ولكنّني أرى هذا الكمّ فيه قسم يميل إلى الإخوانيّات والمناسبات التي لا تخدم سوى المناسبة بوقتها. وقد مال إلى الجانب الاحتفالي فيصلح للتوثيق أكثر منه للدراسات.

رياض حلاّق الشاعر

رياض عبد الله يوركي حلاّق قال الشّعر مبكّرا، وتتلْمذ على يد وقريحة والده الذي لم يفارق ْمجالسه وأمسيّاته، واغتنت تجربته بالمطالعة والحفظ ومعايشة الأدباء الكبار والشعاء الذّين كانوا يزورون حلب أو يزورهم بصحبة والدهم، هذا ما دفعه، وأجّجَ فيه موهبته، فتمرّدت عليه وانطلقت معبّرة بشتى الأغراض الشّعريّة، فله قصائدُ كثيرة قد نشرها في مجلّة الضّاد ومجلّة الكلمة وغيرهما من الدوريات والصّحف، وقد ألقاها بالمهرجانات والمناسبات الاجتماعية والوطنيّة والإنسانيّة وهي قصائد ذات دلالاتٍ تتناسب مع الموضوع والمناسبة. وهذا لايعني أنّه لا يكتب غلاّ قصائد المناسبات، وهذا لايقلّل من شأن الشعر إن كان جيّدا. فالشاعر الحقُّ بشعريّته وتقنيّته يرتقي بالمناسبة، ويقدّمها بما يتناسب عع مقدرته. وتاريخ الأدب يشهد على ذلك، وقبل الأستاذ رياض كان والده لايترك مناسبة تختلج لها نفسه وقريحته إلاّ وعبّر عنها. إنّ القارئ لشعره يرى حرصه على الشكل العمودي /قصيدة الشطرين/ ويرى فيها الشّعر الحقَّ والمتين، وصرّح غير مرّة بذلك وسمعت منه الرأي، وأردف أنّه يُعْجَبُ ببعض قصائد التفعيلة، ولكنّه لا يُقرُّ بتسمية ما يسمّى قصيدة النّثر، وإن أعجب ببعض نصوصها وتفوُّقها، ولكنّه يدعو على تسمية أخرى.

لشعره سمة خاصّة به، فهو شعر يميل إلى الجزالة والوضوح وسرعة التوصيل، ودفقُ الشّعور دون العبور في متاهات الحداثة. فالصّورة موروثة ومطروقة، واللّغة أصيلة، والمضامين مألوفة و سامية، وهذا ما جعل الآخرون يشيد بتجربته، وقد صدر له عام ألفين وتسعة ديوان 0(حصاد السّنين)، عن دار النعمان للثقافة، وبإخراج أنيق لافت. وهو ديوان متنوّع الأغراض، فيه الوجداني والقومي والاجتماعي والمناسبات. إنّه ديوان يكشف لك روح الشاعر ونبضَه. يدعوك لتلمُّس جذور اللغة من مناهلها. لاتهاون فيه على مستوى المضمون وعلى مستوىاللغة والصّورة وهذا شأن الشاعر وقناعته بوظيفة الشعر ورسالته. في المقدّمة التي قدَّمها الدكتور الأديب فوزي عطوي مستشار وزير الثقافة في لبنان إشارات نقديّة شفّافة عن علاقته بالشّاعر رياض حلاق، وهذا ما عبّر عنه "ومن هنا فإنّه ليس في الأرض منهج واحد من مناهج الموضوعيّة يستطيع أن يعطِّل عليَّ منهجي الذّاتي في التعبير عمّا أكنُّه لهذا الرجل الأصيل الوفيّمن صفيِّ المشاعر وسريّ المودّات " ثمّ يتابع الحديث في صلب الموضوع والفنّ الشعريّ فيقول: " لكنّني أسمع منذ الآن بعضّ همس قد يتناهى ممّنْ لا يرَوْن من الكأس سوى نصفها الفارغ. في ما على أسلوب الكتابة الشّعريّة التي تشيع في هذا الديوان. لطالما وقعنا أحيانا في المباشرة. وأحيانا أخرى في النّثريّة ولطالما غلب جفاف النّظم في بعض الأحوال نداوة الشّعر وحلاوته. وهي أمورٌنعرفها نحن. ويعرفها صاحب الدّيوان، ولكن قاتل الله السّرعة في تدبيج القصائد، فإنّ لها منطقا لا يُدْركه المنطقُ في كثير من الأحيان. على أنّي أحسبني أظلم الشاعر إن توقّفْتُ صامتا إزاء هذا الهمس المتناهي. كما قدّمْت، ممّنْ يُقصِّرون رؤيتهم على النّصف الفارغ من الكأس. فالشعر شعرٌ، لا يجوز أن يكون حبيس هيكل شكليّ. إذْ له من انطلاقات مضمونة ما يغطِّي على هِناتِ الشّكل الهيّنات. وحسب رياض عبد الله حلاق أنّه يقف من خلال الدّيوان وقفة الشّاعر الأصيل الجسور الذي لا يُقلْقِلُ وزناً ولا يضعْضِع قاقية، ولا يزري بإيقاع موسيقي في هذا الزمان الذي أصبحت فيه روح التجارة والتسويق تحاول أن تجعل من كلّ تفاهة فنّاً فريدا لا يجارى "

هذا بعض ما قيل في المقدّمة، وفيها أكثر من رأي يستحقُّ التوقّف عنده اتّفاقا أو اختلافا، ولكنّها نظرة الحاذقِ ِ الماسك ملامحَ القصائد. وهذه طبيعة الشّعر منذ قيل، لاقىالديوان حفاوة إعلاميّة في عدّة صحف ومجلّات منها الدّبّور اللبنانية ومجلّة الحوادث والأسبوع الأدبي والأنوار والدّيار والمستقبل. والتجوّل في قصائد الديوان تغني عن الأحكام، وتقف في وجه المصادرة للآراء، قراءتُه توضِّح رؤية الشّاعر للحياة والأدب، وموقفه من العلاقات البشريّة، يرى الحياة بحاجة لمن يفهمها، ويتجاوز منغِّصاتِها فيقول في قصيدة(سهرنا حبيبتي) وفيها صورٌ رومانسيّة بديعة تبرز غنى تجربة الشاعر الوجدانيّة التي تقسو عليها قصائد المناسبات، فتغفلها، وترميها جانبا:

سهرنا حبيبي وطاب السّهر
وطاب التّناجي بضوء القمرْ
ومدّ الربيعُ بساط الزّهورِ
ومالت علينا غصون الشّجر ْ
فما من عذولٍ يسوق الملامَ
و ما من رقيب يُذيع الخبر
ألا تسمعين خرير السّواقي؟
وهمس َ الزّهور قبيلَ السّحرْ
ألا تبصرين نجوم السّماء
تغازل بدْراً يَسرُّ النّظرْ؟
تعالي، تعاليْْ إلى عالمي
لِنطْرحَ فيه بقايا الضّجرْ
فإنّ الطّيورَ على أُنسها
تحبُّ الفضاء، وتخشى البشرْ

في قصائده الوجدانيّة تبرز لغة الشّاعر، وتنداح المعاني، لترسم الصّور الحانية الواشية بما يختلج الشاعر :

علام حبيبتي صدٌّ وهجْرٌ ؟
ووصْلكِ من مذاق الشّهْد أحلى
وليس تطيبُ لي أبدا حياةٌ
إذا للوصلِ قد قطّعْتِ حبلا
وعهدي فيك أنّك ذاتُ جودٍ
فكيف الجود ُ صار اليوم بُخْلا
إذا هبَّ النسّيم فقبِّليه ِ
وقولي عنده: أهلاً وسهلا
فقد أودعْتِ في النّسمات روحي
وأنتِ أجلُّ من روحي وأعلى
وتبلى كلُّ جانحة ٍ بصدري
وحبُّكِ في الجوانح ليس يبلى
وعمري دون أن ألقاك ِ موتٌ
ويومُ البعدِ عنكِ أراه حولا

في الأبيات تجربة شعريّة متكرّرة، ولكنّها تخصّ لغة صاحبها، وهذا ما يدلّ على أنّ الشاعر قادرٌ على تقديم لغةٍ مغايرة حسب مقاس الموضوع والشّكل. فالصّورةُ تلامسُكَ بلطْفٍ، واللّغة تُدغْدغ مشاعرك برقَّتها وعذوبة معانيها، أرى أنّ الشاعر يُوفَّقُ في اختيار القوافي والرّويّ في قصائده الوجدانيّة التي استحسنتها لأني وجدْتُ فيها الشّعر الصافي:

لا تقولي هواي َيكسوكِ ذلاّ
كبريائي أعزُّ منكِ وأغلى
ما الذي تطلبين منّي؟ وهذا
أثرُ الغدرِ من يديك تجلّى
أغرامي، وأين منه غرامي ؟
إنّ طيف الهوى الأثيمِ تولّى
لا تطيلي السّؤالَ لن تَجدي اليو
م َ بقلبي إلى هواكِ محلاّ

رياض حلاق الشاعر تناصره فطرتُه، وملهمتُه إن لامس الموضوع الوجداني الذي يفتح له منافذ الشّعربمقوِّماته وجماليّاته من خلال المعيار الذوقي الخاصّ بنظرته للشّعر الذي يراه حالة لا تقاوم:

وجْهٌ كما طلع الصّباح بديع ُ
هل لي إلى الوجه الوسيم رجوع ُ؟
هي صدفةٌ مرَّتْ عليَّ هُنيْهة
ومضتْ كحلمٍ في الصّباح يضيعُ
بهرتْ ملامحها ضياءَ نواظري
كالشّمس تاجُ بهائها مرفوعُ
عرضتْ مفاتنها عليَّ، وأعرضتْ
فأكاد من هذا النقيضِ أضيعُ
حدّثْتها، بطرافةٍ ودعابة
فتبسَّمت، وحلا لها الموضوعُ
ثمّ انثنيْتُ مُتمِّماً متسائلاً
ما الإسمُ؟ قالت: إنّه ممنوعُ

هذه قصّة شعريّة امتازت بحواريّتها، ومسارِ أحداثها وخاتمتها. فالشاعر له عالمه المُحبَّبُ، وله نوازعه التي يحرص عليها، ويبوح بها دون صدٍّ أو تردُّدٍ لأنّه يخلص للحالة الشعريّة، في قصيدته (هلمّي للحبّ) تتنامى لغة الشاعر، وتتسامى المعاني إلى درجة رفيعة من النّبل. وهي قصيدة مطوَّلة استهلَّها بالخمرة:

ناول َ الكأس من يريد العُقارا
حسبنا نشوةً قلوبٌ سكارى
وشفاهٌ إلى المراشف ظمأى
ما شربنا الكؤوس إلا ّاضطرارا

ثم يقول:

ياحبيبي حدّقْ إلى ناظريّا
وتحاشَ الدنوَّ من شفتيَّا
أنت سكرانُ رنَّحتْكَ لحاظي
كيف لو ذقْتَ من شفاهي حميّا؟
أتظنُّ الهوى وصالاً وهجراً؟
منْ يذقْهُ يجدْهُ حلواً ومرّا
الهوى لو علمتَ فيضُ حنان
وعفافٍ كرائقِ المزْنِ طهرا
الهوى أن يعانق الغصْنُ غصناً
ويناغي في أيكة الطيرِ طيرا
الهوى أن تذوقَ للحبِّ طعما
والهوى أن تشمَّ في الحبِّ عطرا

رياض حلاق شاعر له نكهتُه ومذاقه عندما يلتفت إلى ذاته ونفسه، هذه النفس التي تكتم عليها الأشغال والمناسبات، فتجرّه إلى عالم شعريّ، ته مكوّناته كما ذكرْت سابقا. وسابقا حكموا على الشّعريّة من قصيدة أو بيت، فكيف وبين يديّ مجموعة من القصائد، وبأغراض متنوّعة لهانهجها ولغتها وطبيعتها. وشاعرنا يؤمن برسالة الشعر ودور الشّعراء. ويراها رسالة حملها والده وغيره من قبله. فالشّعر رسالة يحملها الذين آمنوا بدور الكلمة فيقول في المعلّم:

قلْ للمعلِّم:إنّ ذكرَكَ باقٍ
في دولة ِالآداب والأخلاقِ
أنشأت جيلاًللثّقافة والنّهى
وبَدَلْتَ ليلَ الجهل بالإشراق
لولاك مااتّقدت مواهب أمّة
في نشْئها المتوثِّبِ السّبّاقِ
لو أنصفتْكَ مشاعرٌ، وضمائرٌ
لغدوْتَ محمولا على الأعناقِ

وفي قصيدة أخرى يُشيد بدور المعلّم أيضاً:

الحقُّ يشهد والحياة تقولُ:
إنّ المعلّمَ مصلِحٌ ورسولُ
إنّ المعلّم شمعة تُعطي الضّيا
ء ودمعُها تحت الضّياء سبيلُ
العلمُ غرْسُ يمينه، ولمثلِهِ
يُتْلى الثّناءُ، ويُضْفَرُ الإكليلُ

وتبقى رسالة رياض حلاق في توجيه الأجيال إلى مناهل العلم والثّقافة لِيقْطفوا من رياضها أزهار المعرفة، وثمار العلمِ ومواقفَ الرجولة.

افرأ فأعلام الهدى القرّاء
هل يستوي العلماء والجهلاء؟
ليس الكتاب بأحرف منقوشة
هو للعقول وللقلوب ضياء
وإذا الكتابُ طوته أيدي أمّةٍ
فلها انطوى في العالمين لواء
والقوم لن يُثْروا بتبرٍ، إنّما
للقوم من تبر الكتاب ثراء
ليست حضارتنا سيوفا، إنّما
هي أحرفٌ يُبنى بها العلماء

تتَّضح معالم ومعارج عقله ورؤاه الساطعة من خلال إيمانه بجدوى الثقافة والعلم. وهي دعوة جادّة وحارة، وتُنبي عن همٍّ وهاجس ينتابان الشاعر، وهي رسالة حملها الشّعراءبصدق وعفوية، ولامسها عن فرب فيقول في قصيدته (رسالة الشّعراء) والتي ألقاها في مهرجان الشّعر العالمي في نواكشوط في كانون الثاني 2006 وأبياتها ثلاثة وخمسون بيتا، وقد أحاد الشاعر بوضع يده ويراعه على جراح الأمّة:

ارفعْ صلاتكَ للقصيد قصيدا
إنْ كنتَ تُنْشدُ في الزّمان خلودا
واركبْ شراع الشّعر ربّان الرؤى
واصطدْ عليه لؤلؤاً منضودا
كلُّ البيارق للفناء مصيرها
إلاّ القصائد خّلِّدتْ تخليدا
ما أنت إنسانٌ إذا لم يستلبْ
منكَ القريضُ أضالعاً ووريدا
ماأنت إنسانٌ إذا لم تشْتعلْ
بندى القصيد جوانحا وزنودا

للقارئ أن يقرأ القصيدة أو الأبيات التي استشهدْتُ بها ليرى مفدرة الشاعر في القصيدة العموديّة، وليضعْ مقدرتَهُ على اصطيا د أماكن الجمال في اللغة والصّورة. والشّاعر كائنٌ بشريٌّ يعاني ويكابد، يفرح ويحزن، وتعلو مكانتُه بتأمُّلاتِه للكون والعالم والنّاس الذين يحيطون به، وهذا اللون من الشعر يفتح النوافذ المغلقة بين الشاعر والأخرين. في قصيدة (تأمّلات) لا يُخفي الشّاعر حزنه وقلقه، ولكنّه سرعان ما تقرأسفر الحياة معه، فيأخذك حيث الاستسلامُ إلى الواقع الذي قرأه ببصيرته:

هدّني الحزنُ والتّأوُّهُ هدّا
واعترتْني الآلام قلباً وكبدا
وتمشَّتْ بين الضّلوع فأمستْ
صِنْوَ نفسي، والبؤْسُ فيَّ استبدّا

نلمح نبرة الحزن واتِّساع رقعتها النّفسيّة، وقد راحت تنخر في نفسه، وهذا يذكّرنا بشعراء المهجر وتحدا الشّعراء الرومانسيّون. فلا عجبَ إن تأثّرَ بهم شاعرُنا، وفي القصيدة يتصاعد الحزن على مركب فنّيٍّ مناسب سمتُه الوضوح والصّفاء والإيحاء:

ووجدْتُ الإخلاصَ أمرا غريبا
عند منْ أضحى للنذالة عبدا
وغدا الدّرهمُ الوضيعُ إلهاً
عبدوه، وصغّروا فيه خدّا
ليت شعري، كيف الهروب بقلب
حوَّلتْه الأشجانُ كالصّخرِ صَلْدا
أين أنأى؟ وكلُّ من ألتقيه
يشتكي دنياه، ويكثر نقدا

الشاعر رياض حلاق يضع يده على جرح دامٍ مسَّ المدنيّة، وبسط أذاه على النفوس. والشعر الحقُّ يعبّر عن النفس، ويصل إلى أعماقها. وأرى هذا الشعر الوجدانيّ يحتاج لوقفة متأنيّة وهو الأقرب إلى الطبع الإنساني

إنّ براعة أيِّ شاعر تبدوبتنوّع أغراضه، والغرض الشعريُّ يلعب دوره في رسم مسار الشاعر، في الأسلوب والصورة والخطاب لأنّه سيتناسبُ مع الغرض، ولا اقصد أن يُسيطرَ عليه بشكل تام، فيجعل منه نظّاما فحسب، وليس شاعرا. ولكنّ شعرنا العربي وقع في مثل هذه المطبّات والمحطّات الأدبيّة و منهم شاعرنا المدروس الذي تنوّعت أغراضه، وبتنوّعها تباينت أساليبه دون أن ينسينا ملكته التي يخونها أحيانا ببعض المناسبات السريعة . فالشاعر مقتدر من أدواته إذا تأنّى، وإذا انتظر المولود بشكله الطبيعي. واستشهدت ببعض القصائد، فقال في والده يوم كرّمه السيد الئيس حافظ الأسد وسام الاستحقاق السوري. فيذكِّرنا بالدّيباجة العربية الرّصينة:

إن سألتم: أين دنيا ملعبي؟
فجناحي فوق هام الشّهبِ
كيف لا يزهو جناحي؟والذي
كرّمته أمّة العرب أبي
ولنقف من جديد مع أبيات منا لقصيدة:
حملتْ يمناهُ آيات الهدى
وأحبّ القدس َمعراج َالنبي
هذه ألفاظه الفصحى غدتْ
نايَ حبٍّ في شفاه الحقب

ولا غرابة إنّ اعتزّ الشاعر بعروبته ومدينته، وراح ينهل من قريحته، ويسكب من شاعريّته، فيقول في المهاجرين الذين وطّد علاقاته الأدبية والاجتماعية مع الكثيرين منهم وعنوان القصيدة (المهاجرون):

فجسورُ الوفاء ما هدّمتْها
رغمَ نأيٍ معاولُ السّنواتِ
منحوا الضّادَ صهوةً وجناحاً
وسقَوْا جذرها بماء الحياة
لم يُغَرِّدْ قيثارُهم غيرَ سفْرٍ
عربيِّ الإحساس والنفحات
لم يكونوا في عجمة الغرب إلا
وتر العرْب صافي النّغمات

ويقول في حلب، وكثيرا ماتغنّى بها مقيما ومسافرا فهو ابن أبيه في هذا الميدان وهذا يستحضر "إنّ الولد سرُّ أبيه" يذكر حلب وهو في فنزولا 1998

أتيْتُ من حلب الشّهباء يحملني
حبّي المصفّى، ويحدوني إلى السّفرِ
والأهل والصّحبُ في الشّهباء كلّهمُ
شوْقٌ إليكم، إلى القيثار والوتر
حماتُمُ الضّاد حبّاً في جوانحكم
أليس من وطرٍ سرتُمْ إلى وطر؟

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى