الأحد ١٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١

ثورات عربية وليست «ربيعاً»

منير شفيق

ليس مهماً إن كان الرئيس الأميركي باراك أوباما هو أول من أطلق على الثورات العربية مصطلح «الربيع العربي»، وإنّما اللافت شيوعه بما يشبه الإطلاق في الإعلام الغربي ومن قِبَل الساسة الغربيين.

ومن ثم أصبح المصطلح أو الوصف المتداول عربياً لدى الكثيرين، ولا سيما الإعلام العربي عند الإشارة إلى الثورات العربية.

لا شك أنّ مصطلح الربيع العربي استهدف استبعاد كلمة الثورة أو الثورات من التداول لتحلّ مكانها كلمة الربيع، ولكنه من جهة أخرى حمل إيجابية غير مقصودة قطعاً في استخدامه لكلمة العربي، لأنّها تعبّر عن وجود أمّة عربية، وذلك في وقت أُريدَ تعميم القطرية ومن بعد القطرية تعميم مكوّناتها البعيدة أكثر فأكثر عن أيّ إشارة إلى وجود أمّة عربية.

من هنا يكون مصطلح «الربيع العربي» قد خدم، من حيث لم يقصد، بعداً هاماً جداً عند قراءة الواقع العربي تخطياً للإصرار على تجزئته ومن ثم تجزيء المجزّأ اللاحق بالضرورة. ولكن، مع ذلك، لا بدّ من نقد وصف الثورات بالربيع، ليس كما ينقدها البعض بوصفها «خريفاً» أو «شتاء»، وإنما باستبقاء الإسم الأصلي، أيّ الثورات العربية، لأنّ إبقاء اسم الثورة هو الأكثر مطابقة للواقع.

الواقع الذي جرى باعتباره ثورة شعبية، بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وإلاّ ما معنى الذي حدث في تونس ومصر، ومرّة أخرى على سبيل المثال لا الحصر، إن لم يكن ثورة شبابية شعبية طولاً وعرضاً، وقد تُوّجتا بإسقاط رأسيْ نظاميْن راسخيْن لعشرات السنين ومدعوميْن من أميركا وأوروبا والصهيونية! يخطئ البعض حين يشترط لمطابقة اسم ثورة على حراك شعبي بأن يتغيّر النظام جذرياً، فكيف حين يبقى جوهر ما قام عليه النظام بعد سقوط رأسه وحاشيته وبطانته (أو غالبيتهما)؟

لقد أصرّ المنظّرون والمؤرخون على وصف هبّات شعبية سلمية أو مسلحة بالثورة حتى بعد أن تكون قد فشلت وغرقت في الدماء ولم تُسقِط رأس النظام. ومن أمثلة ذلك تسمية «كومونة باريس» 1870 بالثورة، أو تسمية ثورة 1905 في روسيا بالثورة، وكذلك عشرات الثورات في عشرات الدول التي فشلت في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية وأوروبا في القرنيْن التاسع عشر والعشرين. فلماذا كل هذا التشدّد في تعريف الثورة عندما جاء الأمر للثورات الشبابية العربية؟ فنـزع اسم الثورة عنها حين لم تكتمل فيها شروط التعريف المتشدّد، والخاص جداً بالعادة، للثورة. وذلك مثل شرط وجود حزب قائد أو قائد فرد نافذ الكلمة، أو إسقاط آلة الدولة من أساسها، وهكذا. إنّ من يتابع ما جرى في التاريخ الإنساني قديماً وحديثاً من ثورات يجد أمامه تنوعاً غير متناهٍ، ولا يسمح بتعريف متشدّد لا ينطبق إلاّ على حالة واحدة بعينها. وبالمناسبة غالبية الثورات إما فشلت أو تعثرّت طويلاً قبل انتصارها الناجز.

وعوْدٌ إلى عدم المطابقة الذي تحمله صفة «الربيع» لواقع الثورات العربية، فهو وصفٌ مضلل لأنّه يطابق ما يجري في الطبيعة حين ينتقل فصل الشتاء إلى فصل الربيع على ما يجري في المجتمع، حيث صراع الإرادات والطبقات والمجتمعات والدول، وحيث موازين القوى والمنازعات حتى الحروب لتغييرها بعد انتصار الثورة أكان جزئياً بإسقاط الرأس أم كان جذرياً أو شاملاً، بل لقد اشتهر القول إنّ الصراع سيحتدم بعد الإنتصار أكثر ويصبح أشدّ صعوبة وتعقيداً، وربما دموية. فأين من كل ذلك وصف الربيع بمناخه البديع ونسيمه الوديع (إنّ كان في المناطق معتدلة المناخ).

فأين الذي نشهده من صراعات جادّة وعميقة في تونس ومصر وليبيا في هذه الأيام من الحالة الربيعية؟ وأين التحديّات السياسية والإقتصادية والأيديولوجية التي أخذت تذر بقرونها في مواجهة الهيمنة الخارجية والتدخلات الخارجية، والقضية الفلسطينية أو في مواجهة تحديّات البطالة والفقر واسترجاع أموال الفساد من بنوك الغرب أو معالجة الديون ونمط النظام الإقتصادي الليبرالي للرأسمالية العولمية؟

بكلمة، إنّه لغباء وصف ما يجري الآن بالربيع، لأنّه استمرار لما واجهته الثورات ما قبل انتصارها الأول، ولكن على مستويات أعلى وأشدّ ضراوة، فالثورة المضادّة مستعرّة، ومحاولات إعادة توليد التبعية لأميركا والغرب والتواطؤ على القضية الفلسطينية ماضية على قدم وساق بوجوه قديمة، ووجوه جديدة، وبصيغ جديدة.

صحيح أنّ ثمة إنجازات أخذت تتحقق في إجراء انتخابات غير مزورّة ومحاولة الإحتكام لنتائج صناديق الإقتراع، ولكن القوى المضادّة الداخلية والخارجية لهذه الإنجازات تسعى إلى إفسادها، وبداية عن طريق حرفها سياسياً واقتصادياً باتجاه غير الإتجاه الذي يعبّر عن وعي الشعب ومصالحه العليا. فعلى سبيل المثال، ما معنى الإيغال في القطرية إلى حدّ التجرؤ على إسقاط كلمة «العربية» عن اسم القطر، وإبعاد شعار الحريّة والكرامة عن شعار السيادة والإستقلال، وعدم ربط التنمية القطرية بالسوق العربية المشتركة. أفلا يستدعي كل ذلك خوض الصراع السياسي والفكري والبرنامجي؟ إنّ الصراع الذي اندلع ويندلع حول صوْغ الدستور، وقد بدا مهدّداً بالإنقسام الداخلي وهو من أبسط ما يواجه الثورات بعد انتصارها، ليدّل على أنّ الحديث عن «ربيع» حديث خرافة، لأنّ الآتي من صراع عندما تطرح السياسات الخارجية والإقتصادية الداخلية والعلاقات العربية - العربية والموقف من القضية الفلسطينية سيكون أشدّ وأصعب وأعقد، ومن ثم فإنّ انتصار الثورة سيفتح باباً للصراعات متعدّدة الأوجه، فنهضات الأمم لا تتحقق بأجواء النسيم العليل، وإنّما بأجواء العواصف والأعاصير. واسألوا الغرب كم خاض من حروب داخلية وخارجية وهو ينهض أو وهو يحاول وقف التدهور والسقوط، كما نشهد الآن. بل واسألوه هل نهض قبل أن تحقق دوله وحدتها القومية؟ وهل نـهض وحقق وحدته قبل أن يكون مستقلاً سيداً لا سلطان خارجياً عليه؟! فالديمقراطية، أو الكرامة أو الحريّة لا تأتي بأكلها في ظل التبعية السياسية والإقتصادية، والتنمية في الظرف القطري العربي لا تنجح إلاّ ضمن إطار تنموي تعاوني وحدوي عربي، وبداية، سوق مشتركة وتنقل بلا تأشيرة.

والسؤال الموجع، كيف ينفتح القطر العربي غرباً ولا ينفتح عربياً وإسلامياً، وكيف ترفع التأشيرة عن الجواز الغربي فيما نيلها دونه خرط القتاد بالنسبة لجواز القطر العربي (قل باستثناء الجواز الخليجي من طرف واحد)؟

منير شفيق

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى