الأربعاء ٢١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
غرباء ابداً...
بقلم عبد الرضا علي

سيرة أوجاع سردار محمّد سعيد

ليس للسيرةِ الذاتيّةِ لونٌ معيّن، إنّما هناكَ ألوانٌ متعدّدة، لعلّ أبرزها (على وفق زعمنا) ثلاثة تتمثّل في الآتي:

الأوّل: هي التي تُعنى حصراً بتجربة ٍ محدّدةِ الأبعادِ، قد تصغر إلى حدِّ اقتصارِها على يومٍ واحدٍ فاجع ٍ من حياةِ كاتِبِها( لا يستطع فكاكاً منه إلّا بتدوينِ وجعهِ فيه)؛ أو قد تطولُ لتشمِلَ سيرةِ سنوات سمانٍ، أو عجافٍ من حياتِه، على وفقِ ارتباطِها بأحداثٍ معيّنةٍ صنعتها وشاركت في تشكيل عالمِها المملوء بالرّخاء، أو بالعذابِ والقهرِ وترقّبِ الموت، كما في: "ليلة الهرير في قصر النهاية" للمحامي أحمد الحبّوبي، و " الهروب إلى الحريّة" للدكتور حسين الشهرستاني، و"غصن مطعّم بشجرة ٍ غريبة" للدكتور صلاح نيازي، وغيرها⁽¹⁾.

الثاني: هي التي تُعنى حصراً بترجمةِ المبدعين وتجاربِهم على نحوٍ من التأريخيّة المتداخلة بالخطابِ السردي التحليلي كما في" شارع الأميرات" و" البئر الأولى" لجبرا ابراهيم جبرا، و"غربة الراعي" للدكتور إحسان عبّاس، و "الاعتراف الأخير لمالك بن الريب" ليوسف الصائغ، وغيرها.

الثالث: هي السيرة التي كُتِبتْ على نحوٍ إبداعيٍّ صرف كما في " الأيّام " للدكتور طه حسين، و "الوشم " لعبد الرحمن مجيد الربيعي، و " أصداء السيرة الشعبيّة" لنجيب محفوظ، و" كتاب صنعاء" و" كتاب القرية " للدكتور عبد العزيز المقالح، و " أيّام عبد الحق البغدادي" للفنّان التشكيلي محمّد سعيد الصكَار، وغيرها ⁽²⁾.

ورواية سردار محمّد سعيد الموسومة بـ" غرباء أبداً" تقع ضمن اللون الثالث، ولها خُصّصت هذه القراءة التقديميّة.

تدور أحداثُ هذه الرواية في العراق، والجزائر، وفرنسا، و تنتهي في إحدى مدن المغرب بعدَ أن تكون قد مرّت بتلمسان،وسيدي بلعباس، وبعدها بطنجة، و وجدة، وفاس،وغيرها. وموضوعها المحوري مكابدات شخصيّتها الرئيسة "كاظم" منذُ ولادته، وانتهاءً بانكفائه على ذاتهِ وحيداً في منفاه الاختياري المغربي، مروراً بسيلٍ جارفٍ من أحداث ومغامرات وفجائع تجعل المتلقي مضطرّاً لأن يعود مراراً إلى ما قرأ من فصول كي يقف على أبعاد تلك الفجائع، وتدرّج توتّرها في الحبكة.

وإذا كانت هذه الرواية قد أنشئت من أجلِ إلقاء الضوء على سيرة بطلها "كاظم" العجيبة من جانب، فإنّها من جانبٍ آخر قد اهتمّت ببقيّة الشخصيّات وحاولت أن ترسمَ لهم صوراً لا تُعاني ألوانُها من نقصٍ توضيحيّ، مع أنَّ الشخصيّة المحوريّة الثانية التي شكّلت قسيماً معادلاً لشخصيّة لكاظم كانت شخصيّة "رشيدة" بامتياز.

وإذا كانت شخصيتا "كاظم" و " رشيدة " أقرب إلى الشخصيّات النامية منها إلى الشخصيّات العاديّة الواقعيّة، أو المسطّحة، فإنّ الكاتب حرص أيضاً على الاهتمام بالشخصيّات المحوريّة الأخرى، فلم يتركها عرضة ً للقلق، وأعني بها: حوريّة، ومطشّر، والكهل عبد الجبار، وفرحان، وهاشم، ومفيد، وحسيبة، و خديجة، وأمّها العاهر وبقيّة الشخصيّات المحوريّة، فضلاً عن أنّه جعلَ الحبكة لا تستغني عن بعضِ الشخصيّات الثانويّة، كـ(العمّة، والسيّد، وفتنة، وكارمن، ورشيدة الصغيرة، والمغربي وزوجه وابنته الذين التقاهم في فاس، وغيرهم من العراقيين أو المغاربة الريفيين.)

أمّا حبكة الأحداث في "غرباء أبداً" فقد خُطّطَ لها بإمعان، ودلّت سياقاتها على دراية كاتبها بأهميّة ارتباط تلك الأحداث بأزمنتِها ارتباطاً تواشجيّاً وصولاً إلى النتيجة التي ابتغاها، ووضعها في اعتباره تماسكاً لوحدة الأحداث " وعلى وفق هذا فإنّ وحدة الحبكة في نظر أرسطو نتيجة لعلاقة الضرورة والسببيّة بين الأحداث"⁽³⁾.

بدأت الرواية في فصلها الأوّل بتقنية الراوي العليم،وانتهت في فصلها العاشر به، لكنَّ هذه التقنية اختلفت أصواتاً، ففي الفصل الأول كان الصوت لـ"رشيدة" وهي ترسم لنا قبل رحيلها الصادم حركة زمنها مقرونة ً بزمن " كاظم " الذي تماهت به، كما في المثال الآتي من الفصل الأوّل:

" وددت لو همس لي بها ، معي يبدو مختلفا ً ، وكنت أراه كما أرى لوحة لـ (سيلفادور دالي ) ، التأمل فيه غير كاف للفهم ، التأمل فقط محض متعة ، وربما ضياع للوقت.

شـُرب العرق العراقي لايكون إلآ بتوقيت محدد كأوقات الطقوس الدينية.

ولكي لا يسرف حددتُ له يوميا ًربع قنينة فقط، قراري يشبه قرار تحديد الحصة التموينية بإشراف الأمم المتحدة قبل أن يسرقها وزير التجارة.

سمعت به من زملائه القادمين للجزائر ، يكتب الشعر ، يرسم ، يجيد ترتيل القرآن ، يغني ويمثل ولا يتوانى عن البكاء برؤيته تمر ( الدكلة ).

لا التمر ولا حتى العسل يزيل مرارة ، وأحيانا ًالمرارة تردع المرارة . تمر ( دكلة نور ) منظر للإختلاج يكرّ بصورالفوضى التي نأى بسببها .

خـُلق ليكون فنانا ً لكن عبثيته وتوجهاته المختلفة وزّعته ."

ويبدو أنَّ هذا التماهي هو الذي أعادَ لها الحياة حين تحرّكت شفاهها من وراءِ حروف رسالتها القديمة التي أخرجها كاظم من تحت وسادته ليقولَ له صوتها:

" لا تحزن ، أنا سعيدة بحبّك ثانياً وحبِّ العراق أوّلاً، وما زلتُ على عهدي أحبّكَ ثانياً، وأحبّ الجزائر أوّلا ."

وهذه الفقرة هي النتيجة التي أرادت الحبكة إيصالها إلى المتلقّي الجاد، من خلل الأحداث التي رُبطت بأزمنتِها المعيّنة، وانتهت إلى هذا اليقين الوجداني الذي لا يخلو من رومانسيّة الحالمين .

وإذا كان الكاتب قد جعل الراوي العليم تقنيتَهُ الفنيّة الغالبة في بعض فصول الرواية، فإنّه لم يغفل استخدام تقنيات فنيّة أخرى حيثما رأى ضرورة يتطلّبها خطابه السردي في بعض اللوحات، أو المواقف، ولسنا في معرض المغالاة إن قلنا: إنَّ سردار محمّد سعيد كان قديراً في جعلِ الأعماقِ تبوحُ بمكنوناتِها على نحوٍ من الشاعريّة المدهشة في الصياغة، وتراتب التداعي، وإحداثِ المتعة في توجيه تقنية المناجاة النفسيّة (المونولوج الدرامي) على نحوٍ يُثير متعة المتلقّي، ويدهشه، كما في المناجاة الآتية من الفصل التاسع:

" فتخيلت خيالات مزعجة ،مزعجة جدا ً ، فتصورت نفسي في العصر الجاهلي ، وخضت معركة مع قبيلتي للإستحواذ على بركة ماء ، فمت ّ بطعنة سيف اخترق صدري وخرج من ظهري ،كانت طعنة نجلاء ، ولكني عدت للحياة ، لا أدري كيف؟ ووجدت نفسي أدافع عن بغداد ضد الغزو المغولي ،ولكنني أيضا ً متّ وهذه المرة بضربة فأس فلقت جمجمتي ، وعدت للحياة من جديد ، فوجدت نفسي أسحل في الشوارع والأراذل ورائي يصيحون ( هذا مصير الخونة ) فمتّ ميتة قذرة إذ واجهت الملائكة عاريا ً ، ثم عدت للحياة من جديد فوجدت نفسي معلقا ً بمروحة وهي تدور وتدور لحين نزفت وتناثرت قطرات دمي فكانت تصطدم بالجدران فتشكل بقعا محززة الجوانب ،ومت ّ ،ثم رأيتني عدت للحياة ،وهذه المرة وجدت نفسي في معركة مع رجل ( كاو بوي ) بيده مسدس بماسورة طويلة ويتلاعب به تلاعبا ً ، فيدوّره حول سبّابته بخفة ورشاقة وكان أسرع مني كثيرا ً فثقب قلبي برصاصة سريعة لم يكن أسرع منها سوى وجود ملاك الموت ليخمد أنفاسي ، ولكني عدت للحياة من جديد فرأيت نفسي محاطا ً بمجموعة تلبس الملابس السوداء وأمطروني بستين رصاصة مرة واحدة ، فلاح لي طيف رشيدة بأجنحتها الملائكية وهي تصيح: يا أنذال إطلاقة واحدة تكفي."

أمّا "الارتجاع " ⁽⁴⁾ أو ما اصطُلحَ عليهِ بـ" الفلاش باك" فكثيراً ما كان يعمد إليه الكاتب في حالات ربط الحاضر بالماضي، كما في المثال الآتي من الفصل الأوّل:

"كانت الهجمة على كوخ مطشرشرسة وبمبرر أخلاقي زائف ، وبعجالة دفع حورية للهروب خلال النخيل بإتجاه الطريق الترابي ، وسارعت محبطة ، ومرت بالنخلة التي رص ّ مطشر يوما ًجسدها عليها ، وداست على براعم الزرع المنبثقه للتو .

وهبطت رحمة السماء ، ها هو معيشي يتناول الرضيع من يدها ويسرع بها إلى الطريق الترابي ، يوقف شاحنة قديمة من مخلفات نقل الجنود الإنكليز ( الإنكريز ) كما تدعوهم العامة ، معيشي يتسلح بخنجر ليس إلآ ، أركبها الشاحنة التي كانت تقل جنازة ، ومد يده في جيبه وأعطاها سبعة دراهم كانت بحوزته ، وعاد كالصقر لمسرح المعركة ، أنشب خنجره برقبة أول من صادفة فانهمر عليه رصاص كثيف .

وضعت جثتا مطشر ومعيشي بتواز في العراء ، ولوحظ أن الكلاب السائبة هجرت ضفة النهر وبدأت تنبح الغربان الحائمة حول الجثتين ."

في حين كثّف الكاتب من تقنيتِه للوصف، لأنه لو أطلق العنان لذائقته اللغويّة فيه (كما نزعم) لاتّسع حجم الرواية، ولما استطاع لجم فرسه وجعل خطاها خبباً في مساحةٍ ممتدّة أزمنة ً وأمكنة ً، كما في المثال الآتي من الفصل العاشر:

"عندما يختلج نبض الفجر تحت عباءة الظلمة ، يرفعها بهدوء ويتسلل من فتحة بين الأفق والسماء ،فتقطر نطف الندى ، وتصغي الجوانح لشدو الحمائم على السدرة المشتبكة الغصون."

أو كما جاء في الفصل الأوّل:

" ليلتها تخضلت الأوراق التي أوشكت على الجفاف بندى المطر الذي هطل من غيمة سحنته ورأيت ذراعيه فجرا ًوكأنها أغصان غضة تفرعت لتطوقني برفق .

أحسست بأنوثتي تغرد ، وما عدت أتمنى صيرورتي كالعرق ليشربني فقد شاركني كأس الشهيق المقدس."

ثمّة أمورٌ أخرى في هذه الرواية ينبغي التوقّف عندها بوصفها ابتداعاتٍ جديدة ألصقت بالشكل، منها:

أولاً- ما يمكنُ تسميته بـ" التوازي" ونعني به إيراد لوحتين اثنتينِ تتوازيانِ في الأداءِ، وتختلفانِ في المقصد، وهذا الاختلاف قد يكونُ من المفارقاتِ التي تُذكّرُ القارئ بسخرية الأقدار، كما في الأمثلة الآتية:

1ـــ " رجال كثر لم يفوا حتى بنيلهم مضاجعات . برلمانيون لم يفوا لشعوبهم وقد نقضوا عهد الله بعد قسم"

2ـــ " خالط دمعه السخين ترائبي حين دس جبهته اللاهبة على هون في كتفي . مرتين فعلها عند قصف إسرائيل المفاعل النووي وعند قصف (حلبجة) بالأسلحة الكيمياوية.

3- "ولو أننا كدنا ننسى معنى الإحساس بالدفء في أوطان البترول والغاز .

وجعجعته أقل بكثير من جعجعة وتصريحات الأحزاب في أوطاننا"، علماً أن
هذا الابتداع قد ورد في كلّ الفصول، وكان أشبه بالظاهرة الفنيّة الشكليّة.

ثانياً- ما يمكن تسميته بـ"الإبهام المقصود" ونعني به ما يؤتى من نكت للخاصّة من المعنيين، ولا يفهمها القراء العاديّون، كما في الأمثلة الآتية:

" أ َمة ٌأخطأت في شيء فتهكم بها رجل حاضر المجلس فقالت له كيف أنت والتقطيع؟ قال على أحسن مايرام .

قطع البيت الآتي:

أكلتُ الخردلَ الشاميَّ في صفحة بلّور.

فقال: التفعيلة الأولى: أكلتُ الخر

قالت له: هنيئا ً مريئاً .

فقال لها: كيف علمك بالتقطيع ، فقالت: حسن فقال: قطعي :

حولوا عنا كنيستكم يابني حمالةَ الحطبِ

فلما ذهبت تقطعه سخروا منها .

2- " عندما رأيتها في باب القاعة قالت بثقة:

كيف أنتَ في عواطفك؟

قلتُ: زفت والحمد لله .

وأنتِ كيف الحال؟

قالت : الحال فضلة ٌ منصوبة."

ولا يعدم غيرُنا غيرَها.

فالإبهام المقصود بالمثال الأول هو في تقطيع صدر بيت " حوّلوا..."،فمن لا يعرفُ تقطيع الشعر فسيشكل الأمر عليه،وإنْ سهّل الكاتب الأمر في تقطيع بيت " أكلتُ الخردلّ الشاميَّ..."
أمّا المثال الثاني، فهو في جملة " الحال فضلة ٌمنصوبة" وهي تعريفٌ لمصطلح "الحال" في النحو العربيّ كونها منصوبة دائماً،وقد جيء بها لمجرّد الانزياح اللفظي رغبة ً في التهكّم، ومن لايفهم مصطلح الفضلة سيشكل عليه التركيب، ولن يعدم القارئ (كذلك) غيرها.

إنّ رواية " غرباء أبداً " تكشف لمتلقيّها أنّها كانت سيرةً لشخصيّة ٍتنوّع استعدادها الفطري، واتسع اكتسابها المعرفيّ، وظلّت رابطة الجأشِ في أحلكِ المواقفِ الإنسانيّة وأصعبها، وقاومت الميل إلى الانكفاء أو الضعف، إلّا في في بعضِ الحالات الخاصّة التي لم تدع أحداً يحسّ بها، أو يرى ضعفها، وقد مكّننا السارد سردار محمّد سعيد من أن نكتشف أنّ "كاظم" كان شاعراً مقتدراً، وفنّاناً تشكيليّاً بارعاً، وفيزيائيّاً حصيفاً،ويمتلك صوتاً رقيقاً ، وغير ذلك الكثير، لكنّه (أيضاً) كان إيروسيّاً وإن لم يكن لهاثه الجنسي صارخاً، لهذا نظنّ ُ كلَّ الظنِّ أنّ في كاظم الكثير من ملامح منشئ النص وصانعه الأستاذ سردار محمّد سعيد الذي أثبت في متخيّله السردي هذا أنّه روائيّ ٌ متمكّنٌ من أدواته الفنيّة: لغة ً، وموضوعاً، وأخيلة ً، وعواطفَ، وحالاتٍ نفسيّة، وتقنية ً فنيّة، وليس هذا بالقليل.

الهوامش

و(2) تنظر مقالتنا: " في السيرة الذاتيّة... " جريدة المؤتمر اللندنيّة، ع 331، الجمعة 20 كانون الأوّل (ديسمبر) 2002م.

مجدي وهبة " معجم مصطلحات الأدب" 411.

(4) تقصّدتُ إيراد " الارتجاع" بمعنى العودة للخلف تمييزاً عن مصطلح " الاسترجاع" الذي يردُ في الدراسات النقديّة، لكونه نحتاً وتركيباً لـ" إنّا لله وإنّا إليهِ راجعون"، ولا أرى صواب استخدامه بمعنى العودة" الفلاش باك".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى