الأحد ٢٥ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
بقلم مصطفى أدمين

أصوات الحيّ

الحيّ جديد ومنظّم وشديد الهدوء. ليلا، عندما تُطفئُ نور غرفة النوم وتضع رأسَك على الوسادة، تشعر وأنّك في قبر، فيغمرك صمتٌ رهيب. وأنتَ لا تسمعُ أيّ صوتٍ في الخارج، تتمنّى سماعَ أيّ صوت: قرقرة جُدجُد، مُواءَ قطة، نُباح كلب، صفيرَ طائر ليلي، ضجيجَ درّاجة نارية، أو حتّى مُنبِّهَ سيارة حمقاء.

تكتكة الساعة لا تحبُّ سماعَها لأنّها تُذكِّرُكَ بتصرُّم الوقت، أيّ بالموت؛ وأنتَ لا تريدُ الموتَ لأنّك مُذنبٌ، ولأنَّ طفلتَكَ لم تتزوج بعد، ولأنّ زوجتَك ساذجة، ولأنّك لم تُنْهِ بعدُ مُهمّتَك، ولأنّك مدينٌ للبنك... لهذه الأسباب ولأسباب أخرى خنقتَ الساعة المنبِّهة تحت كَوْمٍ من الوسائد.

فَلا تنامُ بسبب الضجيج الداخلي الذي يُحدثُه نشاط دِماغك. دماغُك الشاقّ الذي يأبى إلاّ أن يصوِّرَ لك السيناريو المُرعب للأعمال السيِّئة التي قُمتَ بها خلال النهار والأعمال الحسنة التي أبيْتَ القيام بِها؛ فتتمنّى سماعَ أيَّ ضجيج خارجي لكيْ يُنسيكَ الضجيجَ الداخلي، ولِكَيْ تتمكّنَ من النوم، ولأجل أن تستفيق بِطاقةٍ تُمكِّنُك من ممارسة النفاق الاجتماعي، والعمل المتعثر، وتأدية ما عليك من فواتير، وتربية طفلتِك...

لكلِّ هذه الأسباب لا تنام كما ينبغي، وتنتظر أن يحُلَّ النهار لكيْ تسمع أصواتَ حيّك، ولكي تبرهن لنفسِك أنّك لم تكنْ ميْتاً، ولن تكون ميْتا، بلْ ولا ينبغي عليك أن تموت إلا بعد إنهائك لمهامِّك الدنيوية...

فيأتي النهارُ، وتسعدُ بسماع زقزقة أول طائر دُوري، أوّل سيّارة تستعِدُّ للانطلاق، أوّل بكاء طفل يرفضُ الذهاب إلى المدرسة.
وأنتَ في الفراش لا تأبَهُ إلى اقتراب موعد العمل؛ وتقول لنفسِك:«لم أنم جيِّداً البارحة... أنا محتاجٌ لقليل من الراحة... أنا محتاج إلى سماع أصوات حيّي».
 وماذا ستقول لرئيسك إن تأخّرتَ عن عملِك؟ يقول لك الضمير.
 وماذا إنْ تمارضتُ وقدّمتُ له شهادة طبِّية؟ تقول له بخبث.
 إن فعلتَ هذا الأمر المُشين لن تنام الليلة لأنني سأوبِّخُك بشدّة.
 افعل ما تشاء، فأنا أرغب في سماع أصوات حيّي.

أزفت الثامنة صباحا. تأخّرتَ عن العمل. أنتَ موظّفٌ مدلّلٌ كسول. وحيث أنّ اليوم خميس، توقّعتَ أن تسمعَ صوتَ المتسوّل المحافظ على توقيته. أنتَ لا تعرف اسمَه، ولكنّك تعرفُ إخلاصَه لمهنتِه. أنتَ لم تعْطِه فلساً في حياتك، ولكنّه مُواظبٌ على جدول عمله. أنتَ كسول، وهو مجتهد.

وأنتَ في دِفْءِ الكسل، سمعته، وتخيّلتَه مُتَّكِئاً على عُكّازه:«صدقة عالله... الله يرحم بها الولدين». فكان أن دعيت عليه في نفسِك:« الله يقطعكُم من هذه الأرض».

لماذا تغضب وتدعو على غيرك بالانقطاع عن العمل وقد كنتَ تتمنّى سماعَ أيَّ صوتٍ من أصواتَ حيِّك؟

زوجتُك استفاقت باكرا وأعدّت الفطور لابنتِك وأوصلتْها المدرسة، وأنتَ ما زلتَ في فراش الكسل تتوقّع سماع الأصواتَ التي تعجِبُك. لكن، قُلْ لي:«من جعل منك رجلا كسولا؟» أم تريدني أن أقول:«ما الذي جعل منك رجلا كسولا»؟ قبل سنة فقط، كنتَ نشيطاً مرحاً عاشقاً للعمل. كيف تحوّلتَ إلى شخصٍ بحّاثٍ عن المبررات لكي لا يقوم بواجباته؟

تدخلُ الزوجةُ غرفة النوم وتقول:
ـ ألنْ تذهبَ إلى العمل؟ فتجيبها من تحت البطانية:
ـ أنا مريض... لم أنمْ جيِّداً البارحة.
ـ بل أنا التي لم أنمْ بسبب شخيرك.

تنصرف الزوجة، فتسمع أزيز دراجة السمّاك النارية وصراخه:«حُوووتْ... سرْدييين... ها لانشوبا.... حوووت...»؛ فيسيل لعابُك لوجبة سمك شهيِّ.
 لاطيفا... (تناديها)... لاطيفا...
 ماذا تريد؟
ـ ماذا ستصنعين لنا للغداء؟
 ماذا تريد؟
ـ أريدك أن تصنعي لنا «طاجين» سمك السردين، وليكن مُفلفلا وحارّا...
ـ والعمل؟ ألستَ ذاهباً إلى عملك؟
ـ لا. فأنا مريض لأنّني لم أنم جيِّدا البارحة.
ـ أنا أعرفك، أنتَ تتمارض فقط...

تسكت أنتَ وتنصرف هي، وتبدأ في التفكير في الليلة القادمة، وتقول لنفسك:«آهـ لو كان بإمكاني سماع صوت السمّاك عندما أتهيّأ للنوم! فتسمعُ حُكْمَ ضميرك الصباحي:«أنتَ كسول وأناني... تغيّرتَ إلى سوء ويا للأسف! كنتَ من خيرة المُدرسين فصرتَ تُهمِلُ فروضَ التلاميذ ولا تصحِّحُها، واشتغلتَ بالدروس الإضافية في المدارس الخاصّة لأجل المال وخُنتَ الوظيفة».

آنذاك تفكِّرُ في ذلك الصوت الجديد الغريب الذي لو سمعتَه ليلا لَنِمْتَ ملءَ جفنيك؛ لكن يأتيك صوتُ بائع ومُشتري الخردوات:« كلّ حاجة بالية للبيع... قناني للبيع... نحاس للبيع... أثاث للبيع...». نعم؛ أنا أعرفُك، لو سمعتَ هذا الصوتَ الغُرابي ليلا لأمكنك أن تنام على أذنيْك معاً؛ ففي حيّك ، الصمتُ الليليُّ مُميتٌ بالنسبة للذي لم يملأ نهاره بالعمل.

وتأتي الحادية عشرة صباحا، وأنتَ ما زلتَ في رطوبة الفراش، فتسمع الصوتَ الذي تريد:«ساعات إضافية للبيع... تصحيح الفروض للبيع... كلّ الدروس للبيع... الرياضيات للبيع... الفيزياء للبيع... الفرنسية للبيع...» فتقفز من فراشك وتستوقفُ الطالبَ الجامعي الذي تخصَّص فيما ينادي من أجله:
ـ ماذا عندك يا أستاذ؟ يسألُك.
 تصحيحُ فروض محروسة لتلامذة الباكالوريا...

فتتجادلا في نوعها، وفي عدد التلاميذ، وعدد الصفحات المحرّرة، وشدة التصحيح، ونوع القلم المصحح؛ أهوَ بالحبر الجاف أم بالحبر الجاري، والثمن، والزمن، ونوع العبارات الموضوعة على أوراق التحرير، وهل هناك من تلميذ ترغبُ في الانتقام منه لأنّه يعكِّر صفْوَ دماغك خلال حصّة الدرس... فتحصل الصفقة، وتشعر براحة مخلوطة بضيق لم تتبيّنْه.

آنذاك يأتي مصلحُ الأواني الآلومينية، فتراه يصرخ:«كوكوط... برّاد... أرَ لمْقالي... كوكوط... برّاد... أرَ لمْقالي...». فيسيل لعابُك لطبق سمك شهيّ.

ولكنّك تخلّفت عن عملك، وصار لزاماً عليك الذهابُ إلى أيِّ طبيب فاهم لكي تشتري منه شهادة مرضية تبرر بها تغيُّبَك عن واجبك المِهْني.

وبعد السمك، تستقلُّ سيارتَكَ الدّابليو لتلتحقَ بسرعة البرق بالمدرسة الخصوصية لتلقن أبناءَ الأثرياء العلم والأدب ولينفحَك مديرها بمبلغ مالي يساوي أو يزيد قليلا على ما تتقاضاهُ في المدرسة العمومية أصْلِك.

وبعد تعشِّيكَ على الدجاج المشوي والخضر المسلوقة، لا تنظِّفُ أسنانَك لأنّك مُتعب، فتقوم إلى غرفة نومِك وتطفئُ ما تبقّى فيها من نور الأمس، للمزيد من الظلام، وتسقطُ رأسَك على الوسادة، وتجرُّ عليك البطانية وأنتَ تردِّد قوْل الشاعر:«تعبٌ كلُّها الحياة...» وفي علمِك أنّك لم تتعب لكي تستحقَّ انتحالَ المعرّي... فيغمرُك صمتُ القبر من جديد، ومن جديد، تتمنّى سماعَ أصواتِ حيِّك.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى