الثلاثاء ٢٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
سرد لذكريات
بقلم صلاح الدين الغزال

7 سنوات في سجون القذافي

الجزء الأول

السجن الأول
سجن الكويفية
سجين سياسي سابق

بعد القبض علينا تم إيداعنا في حبس خاص بالاستخبارات بمدينة الحدائق في بنغازي.. كان المكان مظلما ومخيفا وقد أودعونا في زنازين انفرادية.. كنا شبابا يافعين وبعضنا لا يزالون أطفالا وأعمارنا بين الخامسة عشر والتاسعة عشر عاما.. وكنت وقتها أدرس في الصف الثالث الثانوي وقد بلغت الثامنة عشر من العمر.. وكان يحلو لهم التحقيق معنا في الساعة الثالثة ليلا.. حيث يقومون بتكبيل أيدينا بالكليبشات وتغطية عيوننا بخرق قاتمة ويتم وضعنا في الكرسي الخلفي ويأمروننا بالتمدد عليه بحيث لا يشاهدنا أحد من المارة.. أدخلوني إلى الكتيبة المسماة كتيبة الفضيل بو عمر وفكوا الأغلال عن يدي وأزالوا الخرقة التي عصبوا بها عيني فوجدت نفسي داخل مكتب ضخم تتوسطه طاولة طويلة سوداء اللون يجلس حولها قرابة الأربعين محققا.. فوجئت بالمنظر يبدو أنني شخص مهم دونما أدري.. وتساءلت داخل نفسي هل الدولة فاضية حتى تهتم بي كل هذا الاهتمام.. وفي هذه الأثناء دخل عبد الله السنوسي وكنت أول مرة ألتقي به.. هذا الرجل الذي أباد أجيالا وراء أجيال دونما تنتهي صلاحيته.. عدت بعد التحقيق إلى الزنزانة.. كانت ليلة سوداء مملة كئيبة مخيفة.. فقدت الشهية في الطعام ولم أعد أرغب بالاستمرار في الحياة.. حان موعد الغداء وقد وصل السجان وأخذ يفتح الزنازين من أجل تناول وجبة الغداء..

كنت أرغب في الاعتذار لانعدام الشهية لدي ولكن سبقني جاري في الزنزانة واعتذر عن تناول الطعام فاغتاظ السجان وقام بتوبيخه فخاف السجين وخرج مسرعا وهو يرتجف وأخذ طعامه ودخل زنزانته.. بعدها فتحوا زنزانتي فخرجت مسرعا وأخذت طعامي دونما أتجرأ على الاعتذار عن ضيافتهم.. وضعته أمامي ولم أتناول منه شيئا.. كان الحبس عبارة عن فيلا تتوسط مدينة الحدائق وهو من أرقى أحياء بنغازي.. منظرها الخارجي لا يوحي لك بما يحدث فيها.. تم تقسيمها من الداخل إلى زنازين صغيرة معدومة الهواء يشرف عليها سجانون عتاة لا رحمة في قلوبهم.. كان ليل الزنازين مرعبا وبخاصة عندما يجنح الظلام وتسود الأمكنة وتسود قلوب السجانين الذين لا يستطيعون النوم إلا على آهات وصرخات المساجين.. كانوا يتلذذون بإلحاق الأذى بالبشر.. بقينا داخل الفيلا عدة أيام ثم نقلونا إلى مكان آخر وهو ما تمت تسميته فيما بعد بأمانة العدل بالدور الثاني وأخرجوا الناس في مظاهرات تطالب بإعدامنا.. بقينا هناك عدة أيام قاموا خلالها بإطعامنا أحسن الأطعمة من أجل أن ترد العافية إلى وجوهنا الكالحة ثم سمحوا لنا بالزيارة.. وبعد أيام تم نقلنا إلى الإذاعة بمعية ثلاثة من سفاحي بنغازي، لنتحدث عبر الدائرة المغلقة مع القذافي ونخبره بما جرى فغضب أشد الغضب وعلى أكتافنا صعد أولئك السفاحون وهم الطيب الصافي والسنوسي الوزري وسالم المقروس ليصبحوا من أعيان مدينة بنغازي وبعد ذلك قاموا بعرضنا على نيابة أمن الدولة ومن ثم نقلونا إلى سجن الكويفية.

وصلت إلى سجن الكويفية بمفردي بعد عرضي على النيابة العامة.. تم وضعي في حجرة الاستقبال مع بعض المتهمين في قضايا جنائية.. نظرت إلى وجوههم التي لم يسبق لي مشاهدتها.. كنت في الثامنة عشر آنذاك.. حدقت في الندوب المرسومة على وجوههم وعلى الوشم الذي يلوح على أيديهم.. سألوني عن تهمتي فأردت أن أنشر الفزع في قلوبهم فأجبتهم "محاولة اغتيال" فسألوني ومن الذي حاولتم أن تغتالوه فأجبتهم بصوت مرتفع "معمر القذافي".. ما أن انتهيت من إجابتي حتى شاهدت الفزع يحلق على وجوه جميع الحضور.. لقد ابتعدوا عني وهذا ما كنت أريده.. فقد أصبحت أشبه بالموبوء.

أنهى قسم الاستقبال إجراءاته وسلمنا إلى سجان طاعن في السن يدعى "ساسي".. توجه بنا ساسي داخل ممرات وفتح عدة أبواب وعبر مجموعة من العنابر وهو يقوم بتوزيع السجناء.. وفي تلك الأثناء همس لي أحدهم لقد شاهدت الورقة ومكانك في الشيلات الانفرادية.. لقد فرحت بهذا الخبر فأنا غريب في هذا المكان ولا أدري خطاي إلى أين تقوداني.. دخلت إلى عنبر الشيلات واستلمني السجان بازدراء شديد وقام بتفتيشي تفتيشا شخصيا خشية أن تكون معي أي أداة حادة ثم أدخلني إلى الشيلة.. كان المكان ضيقا ولم أكن أظن أن القدر يذخر لي أمكنة أكثر ضيقا.. لا يوجد أي شيء داخل الشيلة للجلوس عليه.. ما أن خرج السجان حتى ناداني أحد الرفاق وسألني "عارف روحك كم قاعد هنا" فأجبته لا، فقال لي خمسة وأربعين يوما.. لقد صدمني الخبر ولم أكن أظن بأنني سأبقى لسبع سنوات.. كان جهاز الأمن قد قام بتقسيمنا إلى مدنيين ومكانهم سجن الكويفية وعسكريين تم نقلهم إلى طرابلس وانقطعت السبل بيننا وبينهم.. وكذلك تم تقسيمنا نحن المدنيين إلى بالغين ومكانهم الشيلات وأحداث ومكانهم العنابر.. لم يتم إدراج احتياجاتنا في السجن فكنا ننام على الأرض مباشرة بلا فراش وكل ما جادوا به علينا هو بطانية واحدة من بطاطين المرج الخضراء وهي بطاطين لا صوف فيها ولا دفء.. كنت أفترش نصفها وأتغطى بالنصف الآخر وجعلت من حذائي وسادة وثيرة أريح عليها رأسي.. وصل طعام العشاء وهو عبارة عن حساء الكرنب ويسميه السجناء طبيخة شجر لخلوه من أي مادة نباتية وكوب شاي.. وهبوا لكل منا كروانة وهي عبارة عن صحن من الحديد.. شربت من الشاي فوجدت كثلة من الشعر.. يبدو أنها شنب أحد الطباخين فأحسست بالقرف وتركت شرب الشاي لعدة أيام ثم عدت إليه وتعودت على ذلك.. السجانون في سجن الكويفية عاملونا بكل لطف واحترام وتكونت بيننا وبينهم صداقات وعلاقات طيبة.. وهم أصحاب فضل كبير علينا فرغم أن التعليمات التي لديهم تأمرهم بحبسنا انفراديا إلا أنهم كانوا يخالفون الأوامر تاركين أبواب الزنازين مفتوحة وسامحين لنا بحرية التحرك.. ولكنهم طلبوا منا في حالة سماع أي طرق على الباب الخارجي أن ندخل إلى زنازيننا ونقفل الأبواب على أنفسنا.. كانت الواجهة الأمامية للزنازين تغطيها القضبان الحديدية مما يتيح لنا الفرصة في التحدث مع بعض.. ومن المضحك أننا رغم الهم والبلاء قام الأمن الداخلي بحبس بعض من أفراده معنا وكنا قد سبق لنا الالتقاء بهم أثناء التحقيق وكل منهم لفق لنفسه تهمة مستغلا سذاجتنا التي لم تصل إلى هذا الحد.. قمت بإعداد جدول على جدار الزنزانة وقسمته إلى خمسة وأربعين يوما وكنت أشطب كل يوم على مربع لمعرفة الأيام.. كانت الأيام تسير ببطء شديد.. والآلام تسير بسرعة قصوى حتى تم تشطيب الجدول بالكامل.. لقد مرت الخمسة والأربعون يوما مرورا كئيبا.. كنا على أمل أن يتم إطلاق سراحنا كما كانوا يمنوننا.. ذات يوم نقلوني إلى نيابة أمن الدولة ثم خرجوا بي بصحبة وكيل نيابة قادم من طرابلس وتوجهوا بي نحو البيت للتفتيش.. في ذلك الوقت كان لا يزال هناك شيء من احترام حقوق الإنسان.. كانوا يريدون أداة الجريمة حسب قولهم.. دخلوا بي إلى غرفة نومي وقلبوا الكتب التي بها فلم يجدوا شيئا.. ناولني وكيل النيابة مصحفا بعدما سمع طلبي له من أهلي ثم عادوا بي إلى السجن.. خلال تلك الفترة كانت علاقتنا بالدين ضعيفة جدا.. تعلمنا الصلاة داخل السجن.. بدأت أقرأ القرآن بطريقة خاطئة وانزعج بعض السجناء من تكسيري للقرآن ومع الزمن تعلمنا الأحكام واجتزنا تلك المرحلة.. عندما علمنا أن القرآن ينقسم إلى ستين حزبا صاح أحدنا "فكونا من السياسة".. وصل إلينا مصحف على قراءة ورش عن نافع فاعتقدنا أنه محرف ومن النوادر أن قام أحد السجناء بتصويبه.. كانت الثقافة الدينية لدى المجتمع الليبي في الثمانينات سطحية جدا.. لقد أحسسنا بفضل السجن علينا فبواسطته تعلمنا أحكام ديننا.

بعدما أنهينا مدة الـ 45 يوما أرسلت النيابة إلينا حافلة مدججة بأفراد من الأمن الداخلي يرتدون الزي المدني لنقلنا إلى النيابة.. خرجنا والأمل يحذونا على أمل الخلاص من هذا الأسر المهين.. دخلنا على وكيل النيابة وهو من أحد أبناء بنغازي الذين للأسف الشديد وضعوا أيديهم في يد الشيطان لزمن ليس باليسير واختار دربا مليئا بالأشواك.. كان يكيل لنا التهم بخبث وكنا نبذل قصارى جهدنا لنحمي أعناقنا من حبل المشنقة.. نظر وكيل النيابة إلينا مليا ثم حدق بالكاتب وأمر بتمديد حبسنا لمدة خمسة وأربعين يوما آخر.. كان الخبر كالصاعقة.. رجعوا بنا إلى سجن الكويفية ونحن نجر أذيال الخيبة.. وزعونا على زنازيننا وأغلقوا علينا أبواب الأمل المتآكلة.. حدقت بالجدول القديم وتذكرت كيف كنت أشطب الأيام حتى انتهى بسلام ثم قمت برسم جدول ثان بجانبه وبدأت أشطب كل يوم مربعا على أمل الخلاص.. سمحوا لنا بالزيارة من وراء شباك من الحديد.. تصافحت خلالها مع أبي وأمي بالأصابع.. وقدم جهاز الأمن الداخلي تقريرا للقذافي مفاده أنه عندما تم الانتهاء من بناء السوق العام بالرويسات وأردت أيها القائد الهمام افتتاحه شخصيا عام 1981م بدأت فكرة اغتيالك في ذلك المكان.

كانت المحاولة بسيطة ولكنها جهد المقل.. فهذا الرجل كان أشبه بالكارثة ولو ظل في ليبيا فسيدمرها على بكرة أبيها.. كنا وقتها صغارا وإمكاناتنا ضعيفة ولكنها كانت رسالة لمن بعدنا وتغيرت الفكرة لدى أحرار ليبيا من محاولة الانقلاب إلى الاغتيال.

حدثت تلك القصة من 9 أشهر.. كنت في ذلك الوقت طالبا في الصف الثاني ثانوي وفي السابعة عشر من عمري وكان معظمنا لا يزالون أحداثا تتفاوت أعمارنا بين الرابعة عشر والثامنة عشر.. وكان يضمنا تنظيم محظور يحمل اسم (الحركة الوطنية).. وكان التنظيم بقيادة ملازم أول طيار يدعى "فتحي الشاعري" وهو مجهول المصير منذ عدة عقود.. فقد تم إخفاؤه قسرا منذ زمن بعيد.. وهي أول محاولة شروع في اغتيال القذافي.. كانت الفكرة أن نكون حلقتين حول فتحي الشاعري بحيث تتكون الأولى من عشرة أشخاص والثانية من خمسة عشر شخصا وأن نتقدم مع الجماهير أثناء خطابه حتى نصل إلى مسافة قريبة منه وبإشارة من فتحي نقوم بتوسيع مسافة متر له يمكنه من خلالها أن يصوب مسدسه نحو القذافي ويريحنا من شره.. ثم نقوم نحن بحماية فتحي بالأسلحة البيضاء.. انتظرنا أمام السوق لمدة أربعة أيام ونحن نترقب مجيء ذلك الضيف ثقيل الظل ليفتح السوق وكنا نحاول السيطرة على كوبري السوق وعلى الباب الرئسي.. في اليوم الأول كان هناك نوع من الارتباك ولكننا تخلصنا منه وأصبحنا نقف وسط الشرطة العسكرية بلا أدنى ارتياب.. حتى كدنا أن نساعدهم في تنظيم الناس إلى أن جاءت اللحظات الحاسمة ففوجئنا بالقذافي داخل السوق ولا ندري من أين دخل وأغلب الاحتمالات أنه استخدم باب البدروم.. فهذا الرجل يحب دائما استعمال الممرات الداخلية للأرض.. لم يدخل معه سوى الحراس.. كان بيننا وبينه زجاج شفاف ومسافة ليست بالقريبة.. بذل فتحي قصارى جهده لحسم الموقف ولكنه أخفق.. بعد ذلك عدنا أدراجنا ونحن نتأهب للحصول على فرصة أخرى لتحقيق مأربنا.. وقد تمكن النظام من القبض علينا بعد تسعة أشهر بلغت خلالها سن الثامنة عشر ووصلت خلالها إلى الصف الثالث الثانوي علمي.. وقد أغضب التقرير القذافي فاعتزل لعدة أيام في مسقط رأسه سرت، لأننا كنا صغارا، نشأنا في عهده ولا علاقة لنا بالعهد الملكي.. تربينا على مناهجه السمجة وحفظنا عن ظهر قلب ترهاته الفجة.

الزيارة داخل سجن الكويفية مشروطة لشخصين فقط من العائلة أما بقية العائلة فغير مسموح لهم بالزيارة ولكن السجانين داخل سجن الكويفية كانوا يملكون قلوبا رحيمة ولم يرضوا على هذا الإجراء التعسفي فكانوا يدخلون علينا أفراد العائلة على دفعات ثنائية ويطلبون منا عدم البوح بذلك خوفا على مصيرهم.. كانت لديهم رقة وإنسانية غير عادية.. كانت مشاعرهم تتأثر بدموع الأمهات التي تنساب سخية حزنا وألما على فراق أبنائهن.. وكانت إحداهن جدتي التي أطفأ النظام عينيها بسبب بكائها على فراق أحد أعمامي الذي قضى داخل سجون القذافي ثمانية عشر عاما.. ثم قضت كمدا وغما دونما يحس بها أحد ومازال أنينها يمزق أذني حتى بعد وفاتها.. إحدى الجدات تشبثت بالسجان وأخذت تتوسل إليه أن يطلق سراح حفيدها.. أخبرها المسكين أنه لا علاقة له بذلك.. لم تقتنع وأخذت تتوسل إليه دونما جدوى.

أحضر الحراس لنا استمارات تنسيب الشهادة الثانوية.. فرحنا كثيرا وأخذ كل منا يملأ استمارته ويحدد رغبته كيفما يشاء وأعلمونا أنهم سيسمحون لنا بالانتساب في الشهادة الثانوية وسندخل امتحانات آخر العام.. اختار بعضنا مجال الطب وبعضنا الهندسة والبعض الآخر المحاسبة.. كان لدينا طموح أن نصبح أطباء ومهندسين ومحاسبين وغير ذلك.. ولكنهم خذلونا ولم يسمحوا لنا بحضور الامتحانات محاولة منهم لتدمير مستقبلنا.. كان لدينا طموح كبير ولكن في عهد القذافي تتحطم جميع الطموحات والأماني.. أحضروا لنا فراشات بعد أيام قاسية نمنا فيها على الأرض وقد أكل البرد من أجسادنا وأصيب كل من بداء أزلي ظل يعانيه حتى هذا الوقت.. مرت الأيام وها هي الخمسة والأربعون يوما كأنها دهر.. وها نحن من جديد داخل مبنى نيابة أمن الدولة وها هو وكيل النيابة يصدمنا للمرة الثالثة بتمديد فترة حبسنا إلى خمسة وأربعين يوما أخرى.. عدنا أدراجنا متثاقلي الخطى على أمل أن يكون ذلك آخر تمديد ففي حدود علمنا أن صلاحية النيابة هي التمديد ثلاث مرات فقط.

ذات يوم أخبرنا السجانون أنه قد صدر أمر بنقلنا إلى العنابر الجماعية.. نقلنا حاجياتنا وتوجهنا إلى مكاننا الجديد وكان يتكون من خمس حجرات.. كان العنبر الجديد مريحا إلى حد ما فقد منحوا لنا ثلاث حجرات كبيرة وظلت حجرتان للمساجين في قضايا جنائية.. كان سجن الكويفية بؤرة فساد تباع فيه جميع الممنوعات.. الحبوب والحشيش والخمور والمخدرات كل ذلك كان بإمكان السجناء الحصول عليه بسهولة.. كانت في السجن مكتبة عظيمة تحتوي على كتب لا يمكنك الحصول عليها خارج السجن وكان مسموحا لسجناء القضايا الجنائية باستعارة الكتب باستثنائنا.. فقد صدر أمر بمنعنا من استعارة الكتب من مكتبة السجن.. لقد أعلن أعوان النظام الحرب علينا فقد كان هناك كلاب أشد لعنة من القذافي يتفننون في إيذاء الشعب.. كانت شهيتي مفتوحة للكتب فاستطعنا من خلال أصحاب القضايا الجنائية أن نستعير ما نشاء.. ولكن حدثت بعض المستجدات فكان من آثار السجن السلبية أن انتشر التطرف الديني بيننا وتوجه السجناء الشباب نحو التشدد الديني بشكل مقيت حتى أنهم تدخلوا في الكتب المهربة من المكتبة وقرروا تأسيس لجنة للإطلاع على الكتب قبل قراءتها.. وخوفا من الحصار الثاني داخل السجن فقد قمت بالدخول في تلك اللجنة وكنت أغتنم الكتب وأشبع شهوتي منها.. كنت أنام النهار وأقضي الليل في القراءة وعلينا أن نعترف أن السجن في عهد القذافي كان منارة عظيمة للثقافة.

كانت الحوارات داخل السجن لا تنتهي حتى وأنت نائم في سريرك تجد أن الثقافة تتسلل عبر أذنيك وتلج إلى عقلك وتنام داخله دونما تشعر.. ولكن في السجن لابد من منغصات فقد داهمونا ذات يوم ووجدوا لدينا مجموعة كبيرة من الكتب فانتزعوها منا ووبخوا أمين المكتبة أمامنا.. هم يريدوننا أن نتحطم ولم يعلموا أننا رغم بؤسنا فلدينا قوة خامدة لا تستطيع أن تزلزلها وسائل قمعهم.. بدأنا في حفظ القرآن الكريم وكنا نختمه في أيام قلائل.. لم يعد الوقت يتسع لمشاريعنا.. فبعضنا يحفظ القرآن والبعض الآخر يتعلم اللغات وغير ذلك.. تعلمنا طهي الطعام وأبدع بعضنا في هذا المجال بالاستفادة مما يحضرونه لنا من أطعمة.

مرت الخمسة والأربعون يوما الثالثة والأخيرة بسلام وها هم يتوجهون بنا نحو محكمة الشمال.. أدخلونا على قاضي الغرفة وكان شيخا فاضلا فأمر بالإفراج عن بعض منا ومدد فترة توقينا إلى شهر واحد.. انتظرنا مرور الشهر الذي كان من أبطأ الشهور وقبل انتهائه خابت آمالنا فقد فوجئنا بإعادة المفرج عنهم إلى السجن ثانية.. حدث هذا من قبل جهة أخرى لا نعلمها بينما كان إطلاق سراح بعضنا مازال مستمرا.. ومن المفارقات أنه كان يلتقي عند باب العنبر أحد السجناء المفرج عنهم مع أحد السجناء المقبوض عليهم بعد الإفراج وكان المفرج عنه يدرك أنه سيلحقه نفس المصير وكانا يحضنان بعضهما والألم يمزقهما معا بينما نحن نشاهد المنظر المحزن ونتساءل حتى متى يصبح البشر ألعوبة في يد هذا الطاغية.. مر الشهر الذي مددوه لنا وتم نقلنا إلى نيابة أمن الدولة ونحن على أمل أن يطلقوا سراحنا فقد انتهت مراحل التمديد وهم مجبرون على إطلاق سراحنا.

لم يصمد الأمل طويلا فقد أجهز عليه وكيل النيابة عندما أمر بتمديد مدة توقيفنا إلى أجل غير مسمى.. عدنا أدراجنا نجر أقدامنا جرا فقد أدركنا أننا سنضيع داخل سجون القذافي وأن أعمارنا ستفنى بين مخالبه.

كم هي بغيضة لفظة الأجل غير المسمى.. لم يعد لرسم المربعات على الجدار وشطبها معنى.. هنا ستتآكل أجسادنا من أجل مجد القذافي.

منعوا عنا الزيارة إمعانا في إيذائنا ولكننا استطعنا أن نتأقلم على الحياة داخل السجن وبدأت شدة وطأة الأيام تخف.. دخل شهر رمضان الكريم.. بدأنا نؤمن بقدرنا.. ورغم منع الاتصالات إلا أننا كنا على دراية بما يحدث في الخارج.. انقطعت أخباري عن الأسرة فقام أحد أبناء عمومتي بافتعال مشاجرة من أجل أن يدخل السجن للاطمئنان على صحتي.. التقى بي داخل السجن.. احتضنا بعضنا بشوق مرهف.. أخبرني أنه لم يجد وسيلة سوى أن يرتكب جنحة تدخله إلى السجن لزيارتي.. قبل الإفراج عنه طلب مني أن أكتب رسالة لأطمئن أهلي.. وصلت الرسالة إلى أهلي ففرحوا بها واطمأنوا علي.. دخل شهر رمضان المبارك فسمحوا لأهلنا أن يحضروا لنا الأطعمة التي كانت تنهال علينا بشكل مبالغ فيه.. فكل أسرة تحضر لابنها ورفاقه ما يشتهون وكان عددنا خمسة وأربعين مدنيا وهو عدد ليس بالقليل أما العسكريون التابعون لقضيتنا فقد تم نقلهم إلى طرابلس وانقطعت أخبارهم.

انتهى شهر رمضان المبارك بسلام وقد قضاه السجناء بين صلاة التراويح والتهجد.. وكان يوم العيد من أسوأ الأيام التي مرت علينا فهو أول عيد ولم نكن نعلم أننا سنقضي أربعة عشر عيدا في سجون القذافي، كلها بؤس وعناء.. جاء موعد عيد الأضحى وكان كل الأسر تتحلق حول الأضحية ورائحة الشواء تملأ الأرجاء.. وحدنا نحن كان الطير يقف على رؤوسنا.. ويحدق في وجوهنا البائسة وهو يتساءل عن أي مصير أسود سيخطه على أقدارنا الزمن.

كانت الآرية وهي الساحة مفتوحة طوال فترة النهار.. وكنا نتجول بين الحجرات لتمضية الوقت.. ذات يوم أكمل أحد السجناء الجنائيين مدة حكمه.. كان طاعنا في السن وليس له أبناء أو أقارب يرجع إليهم.. رفض المسجون أن يخرج من السجن فحاولنا إقناعه فأجابنا وهو يصف بيديه "ليبيا حبس كبير".. لقد وضع الشيخ النقاط على الحروف إن ليبيا حبس كبير.. وبالفعل فهي كذلك.. كم هو قاس أن يحس الإنسان بوطنه أنه حبس كبير ومن الذي جعله كذلك.

تمكن أحد السجناء من الحصول على لعبة شطرنج وهي عملة صعبة داخل السجن فالنظام لا يريد للوقت أن يمر.. لو استطاع القذافي لامسك زمام الزمن.. وهذه اللعبة كفيلة أن تزرع شيئا من البهجة داخل نفوسنا.. كان بعضنا يجيد اللعب وبدأت في تعليمها لمن لا يعرفها وفكرنا في إنشاء مسابقة لبطل اللعبة.. طلبت من أحد السجناء المتشددين قلم حبر فساءلني هل الموضوع الذي تريد الكتابة فيه دينيا أم دنيويا فأجبته دنيويا فرفض أن يعيرني قلمه.. ولم ينتهِ الأمر إلى هذا الحد فقد انقلبت الدنيا رأسا على عقب بسبب لعبة الشطرنج وقام المتشددون بمحاربة المسابقة ولقبوني "رأس أفعى لعبة الشطرنج".. عاندتهم وتحديتهم ولكن سلطانهم كان أقوى من سلطاني فقد تمكنوا من إقناع صاحب اللعبة فسلمها لهم فقاموا بتحطيمها ورميها في الزبالة.. أحسست عندها أننا محاصرون داخل سجنين وهما سجن القذافي وسجن التطرف.. وكان سجن التطرف أشد فتكا ومن الصعب التعايش معه.

في السجن تعلمنا الحفاظ على صلاة الجماعة.. وكان المسجد ينتقل من حجرة إلى حجرة وقد حدثت بعض المشاكل بسبب ذلك واتفق السجناء أن يتم بناء مسجد داخل الآرية.. تم بناء المسجد بالبطاطين وبدأنا نصلي داخله ولكن حدثت بعض المستجدات فقد رفض السجانون ذلك بحجة أنه قد يستعمل في الهروب وذلك بالاختباء به أثناء الليل.. رضخ آمر السجن لرغبة السجانين وأمر بإزالة المسجد ولكن السجناء رفضوا الانصياع للأمر.. فقام الآمر بزيارتنا وكان رجلا متواضعا.. خلع حذاءه ومشى حافيا على البطاطين التي كنا نفترشها لإدراكه بطهارتها.. حاول إقناعنا بإزالة المسجد فتم الرفض من قبل السجناء فغادرنا بعدما صرح لنا أن منكم من يهمني شخصيا.. في المساء جاء السجانون وقاموا بنقل الإمام إلى الزنازين الانفرادية فاحتج بعض السجناء على ذلك فقاموا بنقلهم هم أيضا إلى الزنازين الانفرادية.. لم يستمر الوضع طويلا ففي اليوم الثاني صدر قرار بنقلنا إلى طرابلس.

عندما وصل إلى مشارف سجن الكويفية خبر نقلنا إلى طرابلس اهتزت أركان السجن وكنا نرى علامات الأسى على وجوه السجانين والسجناء معا.. هم يدركون أن الذهاب إلى طرابلس يعني الموت.. طرابلس هذه المدينة الجميلة جعل منها النظام مكانا للسجون.. هناك بنى القذافي جماهيريته على جماجم الليبيين.. لم تكن طرابلس يوما أداة من أدوات النظام.. لقد كبلها بأبناء الضواحي واستبعد الطرابلسيين الحقيقيين.

قمنا بتجهيز ملابسنا البالية وحشدونا في حافلة متهالكة بعدما قاموا بتكبيل أيدينا كل اثنين مع بعضهما واتجهوا بنا نحو طرابلس.. كانت الحافلة محاطة بحراسة محكمة.. شاهدنا الطريق الساحلي التي لم نرها مذ زمن.. لم يسمحوا لنا بالوقوف لقضاء الحاجة إلى أن قطعنا مسافة ثمانمائة كيلو متر عن بنغازي وهي مدينة مصراتة حيث سمحوا لنا بالنزول لقضاء الحاجة تحت الحراسة المشددة.. لم يفكوا الكليبشات عن أيدينا حيث تم تكبيلنا كل اثنين مع بعضهما.. قضينا حاجتنا مكبلين وكانت الرياح تنقل ما جدنا به فيبلل أحدنا الآخر.. أي إنسانية هذه التي نحياها وأي معاملة سيئة التي نعيشها.. ثم انطلقت بنا الحافلة بلا توقف نحو مدينة طرابلس.
وصلنا طرابلس وتوجهوا بنا نحو سجن الحصان الأسود ولكنهم لم يجدوا لنا مكانا هناك فقاموا بنقلنا إلى سجن الجديدة حيث قضينا به فترة لا بأس بها في انتظار أن يجدوا لنا مكانا شاغرا داخل سجن الحصان الأسود المكتظ بالنزلاء إلى أجل لا يخطر على قلب بشر.

يتبع

الجزء الأول

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى