الخميس ٢٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١

العدد الثالث من مجلة «قضايا استراتيجية»

فريد أمعضشـو

جاء العدد الثالث من مجلة «قضايا استراتيجية» غنياً بموادّه الفكرية والسياسية والثقافية، وإنْ كان أغلبها مكرّس للربيع العربي الذي انطلقت شرارته من سيدي بوزيد.. من تونس الخضراء، لينتقل، على فترات، إلى عديدٍ من أرجاء الوطن العربي، وما زالت فصوله مستمرة إلى يومنا هذا. وللإشارة، فهذه المجلة ذات طبيعة فكرية مستقلة جامعة، تصدر بصفة دَورية مؤقتاً، وتُعْنى أساساً، كما ينص على ذلك اسمُها، بنشْر البحوث الاستراتيجية والمستقبلية ومقالات الرأي. ويُديرها عفيف البوني الذي هو – في الوقت نفسِه – رئيسُ هيأة تحريرها، تساعده في ذلك فاتن البوني. وقد أريد لهذه المجلة المتميزة حقاً "أنْ تكون منبراً للبحث عن الحق وكشْف الحقيقة، بحياد وموضوعية ... وأن تكون منبراً للحوار بين التيارات المختلفة، لعرْض كل الأفكار ودرْس كل التجارب ... وأن تلتزم فيما تنشُرُه بالإنارة، وتمتنع عن الإثارة..." (ص5).

تنقسم موادّ العدد إلى قسمين: موادّ بالعربية، ومواد بالفرنسية. كتب افتتاحية الأولى الباحث التونسي أعليّة العلاني؛ الأستاذ في جامعة منوبة، عن الإسلام السياسي والربيع العربي واختبار الخيار الديمقراطي في إدارة شؤون البلاد العربية في مرحلة ما بعد نجاح الحِراك العربي في عدد من هذه البلدان. وكتب افتتاحية المواد الفرنسية الأستاذ سعيد شفيق؛ عضوُ الهيأة العلمية للمجلة، عن استحقاق 23 أكتوبر 2011، الذي كان حدثاً مفْصلياً في تاريخ تونس المعاصر، تُعلق عليه آمالٌ عِراضٌ من قبل الشعب التونسي برمته. ولكن مواد القسم الأول هي التي استأثرت بأكثر صفحات العدد، وقد استُهِلّت بحوارين؛ أجْرِيَ الأول مع عبد الفتاح عُمر؛ الباحث التونسي المتخصص في القانون الدستوري، وانصبّت أسئلته على نقطتين أساسيتيْن؛ تتعلق الأولى بدستور الجمهورية التونسية قبل الإطاحة برئيسها زين العابدين بن علي وبعدَها، والثانية باللجنة الوطنية لتقصّي الحقائق عن الرشوة والفساد اللذين اسْتشْرَيا في تونس ما قبل الثورة، ويرأسُ هذه اللجنة المُحاوَر نفسُه، ومن أبرز المهامّ المُنوطة بها، حسب المرسوم المُحْدِث لها (عدد 7 لسنة 2011، المؤرَّخ في 18/02/2011)، "كشْف الحقائق عن حالات الفساد والرشوة التي قام بها، أو استفاد منها، أي شخص مادي أو معنوي، عمومي أو خاصّ، بفعل قرابته أو مُصاهَرته أو علاقته مع المسؤولين في الدولة زمنَ الرئيس السابق (من 07/11/1987 إلى غاية 14/01/2011)". وقد أجْرى هذا الحوارَ مع عبد الفتاح مديرُ المجلة نفسُه. على حين أجْرَى الثاني، مع الخبير اللبناني في الشؤون التركية محمد نور الدين، الباحثةُ التونسية رشيدة مراسي، حول واقع العلاقات التركية – العربية الآن، وآفاقها المستقبَلية.

واختارت المجلة أن تخصص ملفَّ عددها الثالث لِما يعيشه العالم العربي من حراك واحتجاجات وثورات منذ بداية 2011، في تونس وسوريا وغيرهما، وبلغت الموادّ ذات الصلة بهذا الموضوع فيه ستّاً، تطرقت إلى جوانب عدة من هذا "الربيع". فقد تحدثت دراسة الباحث اللبناني مسعود ظاهر، التي شارك بها في هذا الملف، عن البُعد الاستراتيجي للانتفاضات العربية الراهنة، وعن تحولاتها المرتقَبَة في المستقبل المنظور. وخلَصت، في نهاية المطاف، إلى أن الثورات العربية تمر بمرحلة مخاض عسير ومعقد جدا؛ بسبب تنوع القُوى في داخلها، وتعدد اتجاهاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولكنها – يضيف الباحث – ليست صَنيعة الغرب، ولا تعاديه بصورة عبثية في الآن نفسِه؛ لأن محرِّكِيها الواقفين وارءَها مُدركون تماماً أن الغرب ليس واحداً، بل إنه متعدد، وأنه ليس شَرّاً كلّه، بل ثمة إمكانات مهمة للإفادة من نُظمه ومُنجَزاته ومقوّمات حضارته الغالبة اليوم. وأكد ظاهر، كذلك، أن العالم العربي المنتفِض أخذ يسلك مساراً واضحاً "بين عولمة همجية بقيادة أمريكية ومسانَدَة أوربية، وعولمة أكثر إنسانية ما تزال في طور التكوين عِمادُها الدول التي ترفض استخدام القوة لحلّ النزاعات، أو سيطرة الدول القوية على الدول الضعيفة ونهْب مواردها". وآثر الباحثُ إنهاء دراسته هذه على وقع التساؤل عن مستقبل الحراك العربي الحالي، قائلاً: "لقد أسْقط الشعب العربي إلى غير رجْعةٍ حاجزَ الخوف من الأنظمة التي حَمَتْ نفسَها بقوانين الطوارئ، فهل تنجحُ القوى المنتفِضة في إطلاق دينامية جديدة لقيام نهضة عربية شاملة على أسس ديمقراطية سليمة؟". (ص62)
وتوقفت دراسة المُعارض السياسي السوري المُقيم بتونس: عبد الله تركماني، بإفاضة، عند مراحل الثورة السورية، التي انطلقت من دَرْعَا في مارس الماضي، ومُنعطَفاتها وتطوراتها ومُنجزاتها وفاتورتها الثقيلة من القتلى والجرحى والمعتقلين.

وقدم الباحث المغربي هشام المكّي رؤية سيبرانية للثورتين التونسية والمصرية، من خلال التركيز على الدور المهمّ الذي اضطلعت به وسائل الاتصال والتواصل الحديثة (الأنترنيت – التلفون – المدوَّنات – اليوتيوب – الفايسبوك – التويتر...) في اندلاع هاتين الثورتين، وتطورهما، ونجاحهما، في آخر المطاف، في إسقاط النظامين الحاكمين في تونس ومصر، بعد سقوط كثير من الضحايا كما هو معلوم.

وتناول الباحث التونسي محمد العيادي موضوعَ تحقيق العدالة، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، انطلاقاً من التجربة التونسية، مبرزاً الآليات القمينة بالوصول إلى ذلك المَرْمى، والتي حصرها في المساءلة والمُحاسَبة والتعويض وجبْر الضرر، منبِّهاً إلى ما قد يعترض سبيلها من عراقيل تؤثر سَلباً على سيْر عملها في اتجاه تحقيق عدالة انتقالية، وإلى التحدّيات التي تطرحها بإلحاح؛ مما يدعو إلى التصدي لها بكافة الوسائل الممكنة سعياً للوصول إلى الغاية المذكورة.
وعَنْوَن الباحث التونسي محمد الهادي الكلاعي مقاله المركّز، الذي أسْهم به في ملف العدد، بعبارة "(المسؤولية المُجتمعية) كمرجعية كونية للتأسيس". وقد دافع فيه عن جَدْوى الانطلاق من هذه الأرضية في التأسيس للدساتير الحديثة، سواء في تونس أو في غيرها من البلدان، ورجّح أن يكون الدستور التونسي الجديد المرتقب من أول الدساتير الحَداثية، عالمياً، التي اختارت المرجعية المُشار إليها مُرْتَكَزاً لها في صياغة القانون الأسمى لتونس ما بعد نظام بنعلي، وَفق نظرة موضوعية حداثية للإنسان وللكون. و"المسؤولية المجتمعية"، في تصور الكلاعي، "مصطلح ارتبط بـ"الحداثة البَعْدية"، بُني على مرجعية فلسفية وسياسية للوجود الإنساني المُعَوْلَم في إطار التأسيس لعقد اجتماعي كوني، ترتكز على البُعدين البِيئي والاجتماعي؛ مما أكْسَبَه العُلوية أمام الدساتير الوطنية، في شكل مواصفات ومعايير دَولية، تراوحت بين الاختياري والإجباري، قابلة للمُراجَعة والتطوير". (ص108)

واختُتِمت موادُّ الملف العربية بدراسة مطوّلة عن "المشهد الإعلامي في تونس بعد ثورة 14 جانفي 2011"، الذي عَرف، بالمَلموس، ثورةً بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، سواء على مستوى التنظيم الهيكلي أو الجانب التشريعي أو النشاط الجَمْعِيّاتي أو المجال المِهْني. وقد مسّت هذه الثورة، أو التغييرات الجوهرية، شتى القطاعات الإعلامية في تونس الجديدة (الصِّحافة المكتوبة – الصحافة الإلكترونية – الإعلام السمعي البصري).

وإلى جانب مواد هذا الملف الغني حقا، تخللت العدد دراستان أخْرَيان بعيدتان عن موضوع الملف؛ الأولى عن إحدى قضايا الأمة العربية المؤرقة التي دامت طويلاً دون أو يلوح في الأفق مخرجٌ لحلّها، كتبها الباحث الأردنّي علي مفلح محافظة، واختار عنوَنَتها بـ"الدولة الفِلسطينية: حقيقة أم وهْم؟". والثانية عن السيميوطيقا التأويلية لدى الفرنسي بول ريكور، ومدى إسهامها في خدمة الكتب المقدّسة والنصوص الأدبية والفكرية، كتبها الباحث المغربي المعروف جميل حمداوي. إن هذه السيميوطيقا، يقول الكاتب، قامت "كردّ فعل على لسانيات البنية والعلامة والتفكيك، من أجل الخروج من عالم داخلي مغلق مسيّج بالثوابت البنيوية والثنائيات الضدية إلى عالم أوسع وأرْحب يعتمد على التأويل والذات والمقصدية واستحضار الغير والقارئ والعالم الخارجي". ولكن ريكور جابهته جملة مشاكل، في سعْيه ذاك، تتجلى، أساساً، في صعوبة تحديد الوَحْدات الدلالية واللسانية بدقة، وفي تعدد الاختصاصات، وفي مشكل المرجع الذي شكل نقطة اختلاف بين الدارسين منذ أمَد بعيد. وتُوجَّه إلى سيميوطيقا ريكور في التأويل انتقاداتٌ، ذكر منها حمداوي – على سبيل التمثيل – أن صاحبَها لم يأتِ بجديد في المجال السرداني، بقدر ما كانت كتاباته مجرد إعادة، بتعابير مختلفة، لِما توصَّل إليه آخرون قبله، أمثال بارث وتودوروﭫ وريمون. وذكر، أيضاً، أن مقارَبة ريكور أوْلت عنايتها للسيميوطيقا الخطابية، في مقابل تغييب الذات والمقصدية. وانطلق من هذه المَلاحِظ المسجَّلة على السيميوطيقا الريكورية، ليؤكد أن السيميوطيقا يتعيَّن أن تكون منهجية نصية وخطابية معاً، جامعة بين الذاتية والموضوعية .. بين الداخل والخارج .. بين النص والذات والعالم الخارجي؛ على نحْو ما نلحظه، فعلاً، في سيميوطيقا الأهواء (Sémiotique des passions) التي أعادت الاعتبار للذات وكوامنها الباطنة (غريماص وفونتاني)، وفي سيميوطيقا التلفظ (Sémiotique déictique) التي تولي قدْراً أكبر من اهتمامها للذات المتكلِّمة (بِنْڤِنِـسْت). (ص ص97-98)
وتضمّن الشقّ الفرنسي من العدد دراستين لباحثين تونسييْن؛ دعت أولاهما إلى إدْراج ثمار الثورة التكنولوجية الراهنة والنصّ على أهمية استثمارها، بل وعلى ضرورتها بالأحْرى، في عصرنا هذا؛ عصرِ الثورة الرقمية، وذلك في الدساتير الحديثة. وعنوانُها "Inscrire la cybergouvernance dans la constitution". على حين عمَدَت الثانية، بجُرأة واضحة، إلى كشْف بعض مظاهر الاختلال في المجتمع التونسي، وفي المجتمعات العربية عامة، وعَنْوَنها كاتبُها محمد صلاح الشابي الأحسن بـ"قول الحقيقة بشأن الرشوة والفساد".

لقد تبيّن مما تقدَّم أن هذا العدد غنيّ، فعلاً، بموادّه الرصينة، التي دبَّجتْها نخبة من المفكرين والمثقفين العرب المعاصرين، والتي استطاعت أن تسلط ضياءً كاشفة على جوانب شتى من الربيع العربي في عدد من الأقطار العربية التي عاشت تفاصيله، وأن تقدم جملةَ تصوراتٍ وأفكار حوله. وأملُنا، في خاتمة هذا التقرير، أنْ يستمر هذا المنبر الصحافي بثبات، متألِّقاً ومتفرِّداً، وأن يحتضن مزيداً من الأقلام العربية الحُرّة الجادّة، وأن يقتحم غمارَ ملفات وقضايا استراتيجية عربية أخرى بنفس الحَماس والجَرَاءَة، رغم الإكراهات التي تواجهها أي صحيفة تعتمد على إمكانات أصحابها الفردية، دونَ دعْم الجهات الحكومية وغيرها.

فريد أمعضشـو

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى