السبت ٣١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
بقلم رامز محيي الدين علي

الأديب والفيلسوف العالمي: جبران خليل جبران

من أين أبدأ؟ لا أدري! لأنني لا أعرف مكاني في هذا العالم!!

وكيف أبدأ؟ لا أدري! لأن البداية مخاض عسير!!

وبم أبدأ؟ لا أدري! لأن مركبي تائه في محيط شاسع بدايته كنهايته، وشواطئه مثل أعماقه!!

وماذا أقول؟ لا أدري! لأن كلماتي تختنق قبل أن ترى النور من المخاض!!

يئس يراعي قبل أن أخط كلمة واحدة..

وأوراقي تبعثرت قبل أن تضمها أناملي بحنان..

وفكري تبدد مثل أوراق الخريف قبل أن تعصف به أفكاري ونظراتي في الحياة..

وروحي تحطمت في صحراء الحياة قبل أن تلامس روحك أيها الفيلسوف العبقري..

وكياني تمزق إربا إربا قبل أن تتأمل عيناي فلسفة نظراتك وتأملاتك في الكون والخلق والحياة..
كل كلمة من كلماتك تغرقني في بحار الفكر والتأمل، فلا أعرف كيف أغوص، ولا كيف أنجو من الغرق؟!

كل عبارة من عباراتك تقتلني حينما أراني تلميذا أبحث عن تفسير لها في معاجم اللغة والفلسفة، فلا تصطاد شباكي إلا في الماء العكر..

لست إنسانا واحدا اسمه جبران!.. أنت الإنسانية بكل حروفها ومعانيها!!

لست معجما فلسفيا يتيما، يمكن الغوص في معانيه في حقبة زمنية معينة.. بل أنت فلسفة كل المعاجم الإنسانية.. ستظل لغزا يحير جهابذة الفكر من أفلاطون وأرسطو وسقراط عبر كل بحار الفلسفة والفلاسفة والمفكرين..

لست إنسانا بروح تحمل هوية جبران.. بل أنت إنسانية بكل ما تحبل به من رجال الفكر والفلسفة والإنسانية..

لست مفكرا لبنانيا عربيا، يحمل بطاقة جبران خليل جبران.. بل أنت تاريخ فكر إنساني يحمل في طياته كل فكر العالم من مهد الإنسانية إلى منتهى الكون..

لست عبقريا صقل فكر العالم وجلا صدأه في زمان يمتد من بصيص النور في عينيك إلى خبو شموع الحياة في جسدك وروحك..

بل أنت العبقرية التي ولدت وما زالت أنوارها تزحف إلى الكون مع إشراقة الشمس كل صباح على الكون والكائنات..

لست نبيا يعتصر رسالة سماوية في أحشاء فكره ووجدانه وخياله.. بل أنت فيلسوف الأنبياء تنبض بكل أنواع الهداية على امتداد أزمنة التاريخ..

وإن كنت غريبا في زمانك! فستبقى غريبا في جميع أزمنة الدهر!!

وإن كنت غريبا عن عالمك الذي انبثقت من كنهه.. فسوف تبقى غريبا في كل عصور العالم؛ لأن أمثالك يولدون غرباء.. ويودعون الحياة غرباء!! كما قالوا: (( لا وطن لنبي في قومه))..
وأنت لا وطن لك في العالم بأسره؛ لأنك حر طليق فوق كل حدود الزمان والمكان..

قد أتهم بالكفر والضلالة والجنون، كما اتهمت من قبل.. لكنني لا أبالي؛ لأنني مثلك غريب عن هذا العالم، وإن كنت لا أساوي نقطة في بحر فلسفتك وفكرك وإنسانيتك!!

كلما قرأت كتابا في الأدب أو الفلسفة أو التاريخ أو غيرها من كتب المعرفة، شعرت بأنني أعيش في عصره الذي كتب فيه.. ولكنني حينما قرأتك أيها الفيلسوف.. أحسست بأنني أعيش في كل زمان ومكان من هذا العالم الفسيح المترامي الأطراف.. وكلما أعدت قراءتك من جديد، وجدت نفسي في ولادة جديدة وفي عام آخر غير عالمي الذي يمتد فيه جسدي، وتهيم فيه روحي، ويسبح فيه خيالي، ويبحر في أعماقه فكري!!

من أين أبدأ؟ وكيف أبدأ؟؟.. ما زالت عباراتي تهيم حول نفسها حائرة في فضاء واسع تتناثر فيه أفكارك كالمجرات والكواكب والنجوم!!

لكنني قررت الغوص في بحار فلسفتك، ولست أخشى الغرق، و لم أعد أبالي بعواقب المغامرة، ما دمت أتنفس بخياشيم فكرك وفلسفتك.. ولن أتراجع عن قراري، ما فتئت أحمل زعانف نظراتك وتأملاتك في الكون والحياة.. ولن أتردد أبدا، ما حملت نفسي شعاع أمل في النجاح.. ولن أتخاذل، ما هبطت نسائم الإنسانية بخلودها من روحك إلى حدائق روحي.. ولن يمتد إلي خيط من خيوط اليأس، ما انسابت خيوط أشعة فكرك إلى ظلام فكري ونفسي.. ولن أعود القهقرى، ما سالت شجاعتك وعزيمتك حمما بركانية إلى أغوار كياني!!

وإن لم تستطع كل كتاباتي وفلسفتي الغور في أعماق فكرك الإنساني الجليل.. فحسبي ما أستطيع الوصول إليه.. وإن عجزت مجاهر فلسفتي عن اختراق دياجير ظلمات فلسفتك.. فحسبها أن تضيء بعضا من زوايا عالمك الغريب وأطرافا من مجاهلك المكتنفة بالأسرار والطلاسم!!

ماذا أقول لك أيها الفيلسوف، وأنت تنظر إلى الأبناء نظرة الشمس إلى الطبيعة؟ فلا تكاد تقع على حديقة إلا وترى فيها جمالا يتفتق من جمال، ونباتات تولد من بذار، وأزهارا تفتح عينيها للنور أياما، ثم تغفو في ظلام معلنة ساعة الرحيل؛ لتعود وتولد من جديد في فصل قادم أو ليولد غيرها بعد أيام..

إنك توجه رسالتك لجميع الآباء والأمهات في كل أنحاء العالم وفي كل زمان ومكان؛ لينظروا إلى أبنائهم نظرة الشمس إلى العالم الحي بكل كائناته، فتقول: (( إن أولادكم ليسوا أولادا لكم. إنهم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها، بكم يأتون إلى العالم، ولكن ليس منكم.

ومع أنهم يعيشون معكم فهم ليسوا ملكا لكم. أنتم تستطيعون أن تمنحوهم محبتكم، ولكنكم لا تقدرون أن تغرسوا فيهم بذور أفكاركم، لأن لهم أفكارا خاصة بهم.. )).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى