السبت ٣١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
الربيع العربي على
بقلم عبد اللطيف النكاوي

محكّ التطلّعات والشكوك والتخوّفات

مع اقتراب أو حلول الاستحقاقات الانتخابية وما قد تسفر عنه من مفاجآت لكل الخطط والبرامج القبلية التي تريد أن تستبق إرادة الشعوب، طفت إلى سطح الربيع العربي ونقاشاته، خلافات في الرؤية والتفسير لمسألتي الطائفية والأقليات. ونحت بعض التفسيرات عن حسن نية أو لقصور وخنوع إلى قانون التفسيرات الجاهزة، إلى إيجاد أسباب خارجية مؤامراتية لتشنّج الصراع حول مسألة الطائفية وما أفرزته و تفرزه في الشارع من صدامات دامية.

القول بالمؤامرة على كونه مغازلة لثابت طالما تحكّم في توجيه الرأي العام العربي وتأجيل ثورته على سلاطين الاستبداد، فيه وقوع فيما يُأخذ على الأنظمة القمعية المتسلّطة والتي كانت ولا تزال تعامل شعوبها كذوات قاصرة وغير قادرة على أخذ أدنى مبادرة وإذا هي تحركت فما ذلك إلا من إيعاز وتدبير أياد أجنبية مفسدة وماكرة.

1. من سلطة الذات الجماعية إلى حرية الفرد:

دويّ صوت الأقليات والطوائف في سياق الربيع العربي، شيء طبيعي بل صحّي بالنظر إلى طول فترة التسلّط والقمع والكتمان المفروض: أليست الثورة تفريج عن احتقان فردي وجماعي ظلا يبحثان عن مُتنفّس لهما فوجداه في أسلوب الثورة الأكثر دموية؟

والثورة إذا كانت انقلاب على الحاكم وسياسته فهي في أساسها لحظة انقلاب وتحول في الفكر والعقليات. لكن الملاحظ هو غلبة الاهتمام بالتحولات الخارجية في ربيع الثورات العربية على ما تتبطّنه هذه الأخيرة من ثورات مؤجلة تستهدف العقليات والرؤى في أفق تشكيل السند الدائم والمتجدّد لروح هذه الثورات.

فقد كشف الربيع العربي ناهيك عن الفضائح السياسية والأخلاقية لأنظمة تسلّطت على رقاب الناس وحقوقها مدى نجاح هذه الأخيرة في ترسيخ بعض المسلّمات القائمة على التمييز والطبقية بين أبناء المجتمع الواحد، في عقلية الشعوب ومتخيّلها. مسلّمات ابتذلها السلوك الاجتماعي عبر العبارات الجاهزة والنكت والأمثال. وعمق وتغلغل هذه الأفكار في الوجدان والسلوك الاجتماعيين على اختلاف فئات المجتمع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية يكشف عن خطورة وجسامة المشروع الثوري الثقافي والفكري الذي ينتظر الربيع العربي إذا هو أراد أن يتجاوز مرحلة الاشتعال العابرة لمرحلة التأسيس والهيكلة.

مشروع نجاحه مرهون بمدى قدرة المجتمع على مواجهة نفسه والثورة على تناقضاته الداخلية وإيجاد أسس قانونية لمبادئه الأخلاقية والروحية تخرجها من إطار الخطابة والوعظ والإرشاد إلى حيز القوانين الملزمة والتي يتساوى أمامها أبناء المجتمع أيا كانت عقائدهم، مواقفهم وسلوكياتهم.

من المهام الجسيمة الملقاة على عاتق الحكومات التي ستنبثق عن الربيع العربي عبر مؤسساتها القضائية والسياسية والثقافية والتربوية والاجتماعية، ترسيخ توازن اجتماعي يقوم على المساواة بين أفراد الوطن والتصدي لكل أشكال التمييز والتفرقة.

والاستماع لمطالب الناس والتعامل معها بعيدا عن كل الحسابات الضيقة والأحكام المسبقة هو الطريق لإرساء قواعد مجتمع سليم لا يخاف من مناقشة قضاياه ومشاكله وعيوبه بكل مسؤولية وشفافية بعيدا عن التمثّلات والتصوّرات المسبقة: المجتمع السليم هو الذي ينظّف غسيله الوسخ على مرأى ومسمع من الجميع. ولذا كانت ردّة فعل الأنظمة الديكتاتورية وذريعة المؤامرة الأجنبية أكبر دليل على عدم ديمقراطية هذه الأنظمة لأنها لا ترى شعوبها كما هي بكل تناقضاتها ومعاناتها وإنما ترى الصورة المظلّلة التي تريد أن تظهر بها والتي قبلت الشعوب بحكم التكرار والضغط والقمع والإرهاب أن ترسلها لهذه الأنظمة عبر التزييف والتمويه والكذب، بعبارة أخرى أنظمة منافقة خلقت شعوبا تنافق: تكره حكامها في الخفاء وتحابيها في العلن.
مطلب الأقليات والخصوصيات الإتنية واللغوية والجهوية يجب أن يجد مكانه داخل تصوّر مجتمعي شامل ثوري ومتجدّد يحتكم للواقع العربي المتنوّع والمتعدّد وليس لتصوّرات تجترّ مسلّمات إيديولوجية تقصي الفرد لصالح تجانس ووحدة مفترضين.

ألاحظ أن تحركات بعض المدافعين عن هذه الخصوصيات قد انساق وراء ولاءات وإغراءات خارجية بقدر ما تزكّي هذه المطالب تعمّق الشقاقات وتؤخر مبتغى إرساء قواعد مجتمع سليم يستمد قوته من تعدده واختلافه. وكي لا تظهر المطالب المتصلة بهذه الخصوصيات كضربة في ظهر الثورة من طرف أقلية على حساب حساسيات ومكونات مجتمعية أخرى ومن أجل قطع الطريق على كل الجهات المتربّصة بهذا الزخم الثوري العربي، يجب إدراج هذه المطالب في قلب المشروع الثوري والحد من تداعياتها المجتمعية.

مسألة الأقلية ما هي إلا مدخل لمطالب أخرى جمعوية ونخبوية وفئوية وأخرى سيأتي بها الزمن: لذا يجب أن يكون الدستور الجديد إطارا قادرا على استيعاب هذه المطالب والحاجيات النابعة من سوسيولوجية الإنسان والمجتمع العربيين والتي ظلت ترى فيها أنظمة القمع والتزييف استيرادا أجنبيا وغريبا عن الجسد العربي .

فهل ستتمادى القوانين المنبثقة عن الربيع العربي في تجاهل التحولات التي عرفتها حياة الفرد والمجتمع العربيين والتي ظلت أنظمة النفاق والمغالطة تتعامل معها بسياسة النعامة ولغة التجاهل والتهميش؟

2. تخليق الحياة السياسية ونجاح التيارات الإسلامية:

فوز الأحزاب ذات المرجعية الإيديولوجية الدينية والإسلامية تحديدا، في الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة، يجد تفسيره في تكوينية المجتمعات العربية وتاريخها السياسي الحديث. فالحركات الإسلامية استفادت أكثر من غيرها من الأحزاب من تركيبة المجتمع العربي التقليدية والمحافظة، وعرفت كيف تنفذ إلى الشرائح العريضة من المجتمع عن طريق مؤسسة المسجد والجمعيات الخيرية، في وقت ظلت فيه الأحزاب الأخرى تراهن على المعارك النقابية والسياسة المحدودة المفعول بحكم سلطة القمع والتخويف.

هذا فضلا على أن الصراع السياسي على عهد أنظمة القمع والاستبداد لم يقتصر على مواجهة الأنظمة وإنما أهدر طاقة كبيرة في صراعات أفقية غالبا ما كانت من إيعاز وتوجيه الأنظمة نفسها حتى يخلو لها الفضاء للقمع والتقتيل وتبذير أموال الشعوب.

فالعديد من الأحزاب السياسية الإسلامية استفاد في بداياته، على اختلاف الأقطار والخصوصيات المحلية، بطريقة وبأخرى من دعم الأنظمة القائمة والتي كانت تعوّل على هذه القوة السياسية الجديدة القديمة لضرب وتقويض الدور المتعاظم للقوى السياسية اليسارية داخل المجتمع.

وإذا كان لتداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية وما يرافقها من شعور بالخوف والنزوع نحو التقوقع على الذات ما يفسر هزيمة الأحزاب العلمانية واليسارية، فإن نجاح الأحزاب الإسلامية يأتي من مخاطبتها الناس بلغة يفهمونها وتركيزها على جانب حيوي هو القرب والعملية في ممارسة السياسة. عناصر تعيد للناس ثقتها بالعمل السياسي وتبعد عنها الشعور بكونها مطية موسمية يركبها سماسرة السياسة لقضاء حوائجهم الذاتية.

هذا فضلا عن إلحاح هذه أحزاب على تخليق الحياة العامة وإخراجها من دوامة الكذب والنفاق وما يرافقها من محسوبية وزبونية. وعليه فمحاربة الفساد بمختلف أشكاله وبكل تداعياته وما يرافقها من محاباة وتملق وكذب وخداع ستكون أولى المعارك التي ستواجه المجتمعات العربية المتمخضة عن الثورة: وعندما أقول محاربة النفاق ليس معناها أن تقول الحقيقة التي يريد أن يسمعها المسؤول أيا كان هذا المسؤول ولكن أن تقول الحقيقة التي تراها مهما عظمت واحتدت.

وهو ذاته المطلب الذي يرفعه الشباب في المجتمعات الأوروبية وغيرها حيث شاخت الثورات وركن حرفيو السياسة إلى الاتجار في السياسة على حساب الحقيقة والصراحة واحترام المواطن. ويجمع المراقبون للعملية السياسية في المجتمعات الأوروبية على أن الديموقراطية تمر بأزمة حادّة مردها عزوف الناس المتعاظم عن المشاركة الانتخابية وتزايد شكوكهم في مصداقية وجدية مسؤوليهم السياسيين.

كما أن نجاح بعض القوى السياسية الإسلامية في بعض الأقطار العربية كالمغرب، فيه نجاح للنظام الملكي الذي نجح في تمرير تعديل دستوري لا ينال من كل صلاحيات الملك وتنظيم انتخابات أفرزت أغلبية إسلامية كانت متوقعة في البرلمان. وبالنظر إلى الضجيج الذي رافق هذا الفوز وسيرافق أداء الحكومة المرتقبة والمنبثقة عنه، يكون القصر قد وجّه الرأي العام نحو نقاشات وصراعات أفقية تلهيه وتنسيه مطلب الإصلاح الجذري وتمنح القصر من جهة أخرى صفة المتعالي عن كل هذا الضجيج وصلاحيات الحكَم والمرجع.

3. الغرب بين التخوّف والتطرّف:

والحقيقة أن نجاح القوى الإسلامية أو المحافظة لا يعدو أن يكون ربطا للثورات العربية بسياقها الحضاري والثقافي وإعطاء الفرصة لقوى سياسية ظلت محطّ قمع وتسلطّ الأنظمة المستبدة وبتواطؤ خارجي من طرف دول تعزّ عليها قيم الحرية والعدالة متى انسجم ذلك مع مصالحها الاقتصادية والإستراتيجية.

ولعل هذا التناقض الأخير هو مصدر ارتباك واضطراب الدولة الغربية في تعاملها مع تبعات الربيع العربي: فبعد الفرح السياسي برفع هذا الأخير لشعارات الحرية والكرامة، شعارات أعادت الحياة لقيم بدأ يصيبها بعض الترهل وظل الغرب يحتكرها وينصب نفسه حارسا ومدافعا عنها. علما أن هذه القيم تسكن تاريخ الإنسان أيا كانت ثقافته، ديانته أو لغته. قيم نجحت بعض الدول الغربية في بلورتها وتجسيدها في قوانين عملية. وإذا كانت القيم واحدة ومشتركة بين البشر فإن ترجمتها إلى واقع حي في حياة الناس،عملية قابلة للتطوير والإبداع. ولعل قمة التناقض هو أن تصل هذه القوى السياسية التي طالما اتهمت بالعداء للحرية والديموقراطية إلى مواقع القرار باسم نفس القيم التي طالما غضّ الغرب الطرف عنها، زمن كانت هذه القوى السياسية تكتوي بنار القمع والاضطهاد: فهل ستكذب هذه القوى السياسية الجديدة على ممارسة السياسة من مواقع القيادة، تخوفات وترددات مناوئيها في الداخل والخارج؟ وهي إن نجحت تكون بذلك قد صالحت بين المرجعيات الإديولجية الإسلامية والعمل السياسي في مجتمع ديمقراطي يحترم الفرد ويحمي حقوقه. نجاح مرهون بفك معادلة الحفاظ على المرجعية الدينية وحماية الحريات الفردية المتنطعة على كل السلط: فهل سيفتكّ الفرد العربي حريته الفردية من قبضة العقل الاجتماعي المهيمن بعدما افتك ذاته الجماعية من قبضة الأنظمة المتسلطة؟

ولتخوفات الغرب من مستقبل الربيع العربي شق اقتصادي ليبرالي فالأفراد الذين خرجوا إلى شوارع العواصم العربية يطالبون بحرياتهم وحقوقهم هم في لغة أهل الاقتصاد أفواه مستهلكة لبضائع وخدمات الشركات المسيطرة على الاقتصاد العالمي. والسؤال الذي يقتات منه التخوف هو: هل ستتمادى هذه الشعوب في استهلاك بضائعنا وتضخيم معدلات ربحنا؟ أم أنها ستنحو نحوا اقتصاديا واستهلاكيا جديدين من شأنهما إضعاف نفوذنا ومقدراتنا الإنتاجية؟

وعليه فالتردد الغربي اتجاه نجاح الأحزاب السياسية الإسلامية وإن أشهر اعتبارات سياسية وقيم ثقافية لتبريره، فهو يتبطن تطرفا اقتصاديا يحاول قطع الطريق على كل نظام اقتصادي مناوئ يحرم شركاته من أسواق ومراكز نفوذ جديدة.

ولعل الدول الغربية قد توسمت في الربيع العربي نوعا من إحياء الثقة في نظام اقتصادي وسياسي مترهل ما فتأت شرائح عريضة من المجتمعات الغربية تطالب بإعادة النظر الجذري فيه لأنه ذاته النظام الذي قاد ولا زال آلاف العائلات الأمريكية والأوروبية وغيرها عبر العالم إلى التشرد والضياع: هل سيلبي الربيع العربي تطلعات الشباب عبر العالم وإفراز نظام سياسي واقتصادي بديل يتجاوز هفوات النظام الليبرالي الحالي ويعيد الثقة في مؤسسات الدولة والاقتصاد؟

والوعي بهذه الحقيقة يضع الربيع العربي أمام تحدّ يتجاوز حدود التخلص من بقايا وتبعات أنظمة القمع والاستبداد والفساد، ليعانق تطلعات ملايين الشباب والمشردين عبر العالم، الساخطين على أنظمة اقتصادية وسياسية كشف الأزمات المتتالية عن مدى بعدها بل استهتارها بحقوق وتطلعات مواطنيها.

هل ستنجح الأحزاب الإسلامية في تخليق الحياة السياسية وردّ الاعتبار للعملية السياسية وإحياء ثقة الناس في العملية الانتخابية؟

هل ستنجح هذه الأحزاب في التخفيف من لغتها الوعظية والإرشادية لصالح برامج حكومية تستوعب اللحظة وتحدياتها الاقتصادية؟

كيف ستتعامل الحكومات الإسلامية مع مسألة الأقليات بكل تشعّباتها؟

أي برنامج علمي وتربوي ستفرزه حكومات ومؤسسات ما بعد الربيع العربي؟

كيف ستتعامل الحكومات المنبثقة عن الربيع العربي مع "الهزات الارتدادية" وعناصر الجمود والولاء للعهود الماضية والتي لا زالت تتربص بالثورات العربية؟

ما مصير "الولادات القيصرية" للربيع العربي في سوريا واليمن والبحرين؟

هل سيداهن حزب العدالة والتنمية وحلفاؤه القصر في المغرب أم سيدفعون به إلى المزيد من التنازلات في أفق ملكية برلمانية تحظى فيها الحكومة بكل الصلاحيات ويقتصر دور الملك على وظيفة رمزية؟

هل ستضطلع أحزاب المعارضة المغربية وغيرها في بلدان الربيع العربي بدورها وتجديد علاقتها مع الشرائح العريضة من المجتمع أم أنها ستكون عاملا معطلا لحركة التغييرات الجذرية التي ينتظرها الشارع؟

تلك أسئلة نطرحها على الربيع العربي في انتظار ثماره الأولية المخبرة عن توجهاته المستقبلية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى