الأربعاء ١١ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٢

الستاليني الأخير

علي الصراف

صحيح أن السلطات السورية قبلت بقدوم مراقبين، إلا أنها ظلت تمارس سياسات القتل، حتى في المدن التي جاءوا «ليراقبوا» الأوضاع فيها.

وحاولت السلطات أن تخفي معتقلين، بنقلهم الى أماكن احتجاز أخرى، كما حاولت إخفاء بعض مظاهر التسلح بالدبابات والمدرعات، ولكن ما لم تستطع إخفاءه هو أن القتلى ظلوا يتساقطون. وفوق ذلك، فإنها ما تزال تمتنع عن إطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين، وما تزال لا تجرؤ على الدعوة الى مؤتمر وطني للبحث عن مخرج، وما تزال تراهن على القسوة.

ولكن، يجدر التساؤل: هل عرف التاريخ نظاما حارب شعبه بهذا المقدار وبقي على قيد الوجود؟ وهل الظرف التاريخي الراهن يسمح ببقاء أنظمة ستالينية أو تمثل امتدادا للأنظمة السوفياتية البائدة؟ وهل الظرف الأقليمي، الذي انتجه "الربيع العربي"، يسمح ببقاء نظام وحشي مثل هذا؟

فإذا كان الجواب على هذه الأسئلة هو: لا، ولا، ولا. فهل من ساعة للاستدراك والوعي؟ هل من ساعة للعقل؟ هل من مخرج سلمي ينجي وحدة البلاد وينجي النسيج الاجتماعي بين العباد؟

المنطق يقول إن استمرار أعمال القمع سوف يلقي بظلال قاتمة على مهمة المراقبين، ولعله يحض الناس على الدفع باتجاه معركة الحرية الأخيرة.

وحيث أن الدبابات ما تزال تواصل عملها، فإن نظاما عاجزا عن الحل السياسي لن يوفر الضمانات لتهدئة الأوضاع. وهو ما يعني استمرار الانتفاضة، واستمرار أعمال القمع، وانهيار فرص الحوار.

والمنطق يقول إن حالا كهذه اقرب ما تكون الى وصفة للانتحار. إذ كان من المطلوب أن تعلن السلطات ليس سحب قواتها من المدن فحسب، وانما التخلي عن الخيار الأمني برمته.
فهذا ما كان يجب أن يكون أول الطريق للخروج من عنق الزجاجة. وحتى إذا بدأ حوارٌ يوما ما، فانه يجب أن يبدأ بروحية إيجابية، وفي أجواء يمكن من خلالها تعزيز الثقة بين المعارضة والنظام.

ولكن المنطق يقول إن النظام الذي خسر مصداقيته بين الناس لا يمكنه استعادة هذه المصداقية مع معارضة لا تستطيع أن تلبي مطالب المحتجين. وإذا اتضح أن مطالب الناس أكثر جذرية مما يمكن للحوار أن يتوصل اليه، فان أحدا لن يمكنه أن يضمن توقف أعمال الاحتجاجات. وإذا ما عادت السلطات لتمارس الشيء الوحيد الذي تعرفه، وهو القمع، فان النتيجة الوحيدة المنتظرة للحوار هي الفشل.

والمنطق يقول إن أحد أهم وسائل الاستدراك يقتضي أن تبدأ السلطات على الفور بسحب قواتها من محيط جميع المدن والبلدات والقرى، والاعلان عن سقوط الخيار الأمني، واطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين من دون إبطاء، والافراج عن حرية الصحافة والإعلام، والبدء باجراء تحقيقات حول الانتهاكات، والقبول الفوري للمطالب بتقديم تعويضات للضحايا، والتعهد بحماية اللاجئين، وقبول مبدأ التداول السلمي للسلطة والاعداد لدستور جديد يلغي المادة التي تبرر لحزب البعث الحاكم احتكاره للسلطة، والعمل على الإعداد لانتخابات برلمانية ورئاسية تحت إشراف مشهود له بالنزاهة في أقرب وقت.

ولكن هل يوجد لهذه السلطة أي منطق؟ هل لديها عقل تفكر به؟ ودونهما، هل تستطيع النجاة؟

ما نعرفه هو أن الطغيان يفتقر الى المنطق، لانه لو كان قادرا على الإستدراك، ما أصبح طغيانا. وهو يفتقر الى العقل لانه لو كان لديه عقل لاستخدم وسائل أخرى غير القمع للبقاء. وهو بلا حس، لانه لو كان يملك احساسا بشريا لما وجد نفسه في حاجة الى القهر، ولا الى القتل والترويع.

مع ذلك، فان ما نراه، على عظمة بلواه، مذهل. فهذه هي اللحظات الأخيرة في عمر آخر الدكتاتوريات السوفياتية الصنع.

انها اللحظات الأخيرة لدكتاتوريات العمى الأيديولوجي وتأليه الفرد؛ دكتاتوريات التصفيق للذات والضحك على الذات.

ومن يشهد هذه اللحظات سوف يذكرها الى الأبد. ومثلما يتذكر الناس أين كانوا في المنعطفات الجسام، فسيذكر السوريون أين كانوا ساعة أسقطوا الطغيان.

انها لحظات فاصلة في التاريخ، لن نعود لنرى مثلها ما بقيت تشرق على الأرض شمسٌ.
فهذا هو آخر العهد بالطغيان. ومن الأولى بالذين يقفون على الضفة الخطأ للتاريخ أن يستدركوا. فهذه الساعة هي آخر ما بقي للاستدراك.

ولكن الطغيان لا يستدرك، لأنه استمرأ ما ألف عليه من طبائع الاستبداد. وهو لن يفتأ يحفر قبره بما يُلحق بالناس من الأذى. لانه لو كان قادرا على أن يفعل غير ذلك لما كان بحاجة الى أن يكون طغيانا.

وهو يفتقر الى العقل والمنطق، ليس لانه لا يعرف أين يجدهما، ولكن سلطة، بعقل ومنطق، لا طعم لها بالنسبة له.

مع ذلك، فقد تهاوت كل الأنظمة الستالينية التي انجبت سلطة الحزب الواحد والزعيم الخالد، ولم يبق منها، على وجه الكرة الأرضية، إلا نظام "الرفيق" الكوري في الشمال، ونظام "الرفيق" الدمشقي. ويالهما من تحفة فقر وظلم وتخلف.

ولأنه يبطش بشعبه لا بأحد سواه، فليس لدى الستاليني الأخير في منطقتنا، أي شيء يبرر الإعتقاد أنه سيكون الساموراي الأخير!

علي الصراف

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى