الثلاثاء ٢٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٢
بقلم مهند النابلسي

الوصفة السحرية للإدارة اليابانية!

إن وعينا بمشاكل حياتنا الملحة هو أهم ما يميزنا كبشر أسوياء، فقد قال الفيلسوف «نيتشه» ذات مرة «أن باستطاعتنا أن نسأل الأبقار عن سر سعادتها، ولكن لن يكون لذلك معنى لأنها قد تنسى السؤال قبل أن تشرع بالإجابة عليه، إذ ليس لها استمرارية في الوعي»!

وقد عرف «دروكر» الإدارة مؤخرا بأن لها قيمها ومعتقداتها ولغتها الخاصة، لقد تميزت الإدارة اليابانية بقدرتها على التفوق وإتقان المواءمة بين أهم سبعة عناصر رئيسية وهي: الأسلوب، الإداريون، المهارات، المنظومات، الأهداف العليا، الإستراتيجية والبنية: لذا تزداد الطاقة الإنتاجية لليابانيين في كافة الصناعات، فقد تجاوزت بريطانيا في حقل إنتاج الدراجات، وتجاوزت الألمان والأمريكان في إنتاج السيارات، وتفوقت على الألمان والسويسريين في صناعة الساعات والكاميرات والآلات البصرية، كذلك تفوقت على الولايات المتحدة في حقول إنتاج الصلب وبناء السفن والالكترونيات، وبدأت بمشروعها الخاص لغزو الفضاء الخارجي.

أهم عشرة عناصر:

الغموض وارتشاف المعنى وتدليك المشاكل!

• من الصعب حقا اقتباس أساليب الإدارة اليابانية ومحاولة تطبيقها بحذافيرها، لأنها وليدة نظم وأساليب حياتهم ومرتبطة مباشرة بفاعلية أنظمتهم التربوية ومثلهم الروحية وحضارتهم الفريدة، ولكن إلقاء الأضواء على بعض " أسرار " الإدارة اليابانية يفيدنا كثيرا في مرحلتنا "الثورية " الراهنة ن وخاصة وان اصطلاح "إدارة التنمية " قد أصبح يتكرر كثيرا في الآونة الأخيرة، وهو يرتبط مباشرة بمفاهيم " التطوير والتحديث الإداري "، كما أن ذلك يساعدنا في التخلص من نقاط ضعفنا واثبات وجودنا في عالم قاس حافل بالمنافسة والتحدي، إذا ما راعينا أن معظم صنوف الترهل والفساد وضعف الإنتاجية تكون وتحدث بفعل ضعف كفاءة الإدارة العربية أو " العالم - ثالثية "! وفيما يلي ملخص لأهم عشرة عناصر فعالة تستخدمها الإدارة اليابانية، ويسعى المدراء الغربيون جهدهم لتطبيقها بشكل ما في مؤسساتهم:

• * الإبهام وعدم التيقن وعدم الكمال: أي أنه يفضل في حالات معينة إبقاء العصي جميعا طائرة في الهواء، يعتبر اليابانيون أن للإبهام أوجها مرغوبا بها كما أن لها أوجه غير مرغوبة، ويحاولون في بعض الحالات السير مع التيار ، وهم أكثر من غيرهم قبولا للغموض ولعدم الكمال باعتبار أنها من حقائق الحياة.

• * اللغة والصور الذهنية : يعرف اليابانيون المساحة الفارغة على أنها "مليئة بشيء ما "، ويحترمون الفراغ ويعتقدون انه بخروجك من الصورة فانك تكسب رؤية أفضل لحقيقة ما فيها، ويجب تدريب الذات على ذلك بغرض " ارتشاف المعنى ". يتعلم اليابانيون ألا يندفعوا ويقدموا فورا بل أن يتحركوا بادراك ولباقة عبر الوقت ومعه. إن فترة الفراغ والصمت قبل الإقدام على عمل هام ضرورية لتنفيس التوتر الناشئ.

• * متى نستخدم الغموض ؟ ويعني هذا اتخاذ قرار بالتوقف عن دراسة مشكلة ما وإيقاف الدوران في حلقة مفرغة ن والمباشرة باتخاذ خطوات " تلمسيه "، تحاشي الالتزام باتخاذ إجراء علاجي حتى تتضح الصورة، وبهذا تترك جميع الخيارات مفتوحة.

• * داء التعميمات والبلاغات: يأتي المدير الياباني لمنصبه مزودا حضاريا بمفهومين يساعدانه كثيرا، وهما في الواجهة وخلف الواجهة، ويعنيان تباعا الوضع القائم والوضع القانوني . وهكذا يرى اليابانيون أن إصدار التعاميم هو نصف الحقيقة وأن نصفها الثاني هو العمل الذي يجري خلف الواجهة.

• * الاتصالات الضمنية : يستخدم هنا " عدم الوضوح " في الكلام مقام الوسادة التي تلطف صدمة الكلام المباشر وتخفف من"تحبيط" العزائم، ويجري اليابانيون محادثاتهم على شكل دائرة تتسع وتضيق حسب شعور الفريق المتحدث بردة فعل الفريق الآخر، ويميلون للتركيز على الأسلوب، بينما يميل الغربيون والأمريكان للتركيز على النهايات الواضحة، كما أنهم يتعايشون مع اللون الرمادي للأوضاع، ويؤكدون أهمية استخدام المجاز ضمنيا في الحديث.

• * المواربة مقابل الصراحة الفظة: تركز الحضارات الشرقية على مفهوم "حفظ ماء الوجه "، بينما يؤكد الغرب على الفضائح وكشف الأوراق على الطاولة. ويرفض اليابانيون " الاستقامة الفظة " لانها تؤدي لسياسة المجابهة المباشرة.

• * الانطباعات "الاسترجاعية" للأداء: يحاول اليابانيون هنا أن يكونوا أكثر وضوحا بغرض تحسين الأداء ورفع الإنتاجية، ويستخدمون إشارات " الإنذار " بطريقة واضحة لأن الغرض ليس الانتقام، وإنما تفادي الأخطاء، وقد لوحظ أن النجاح هو حليف الذين يتقنون قراءة الإشارات البارعة الخفية.

• * معايير النجاح: الكفاءة المهنية هي العنصر الأهم للترقية في المؤسسات اليابانية (بالإضافة للأقدمية والمثابرة)، بينما لوحظ أن أهم خمسة عناصر متحكمة بالترقية في المؤسسات الأمريكية هي: المظهر الخارجي، الشخصية، الهجومية، الرتبة الإدارية واللياقة.

• * صلة الغموض باتخاذ القرار: تشدد تقاليد الفلسفة الشرقية على ضرورة تكيف الفرد مع استمرار ظهور أحداث جديدة، كذلك لا يحب اليابانيون أن يجبروا على اتخاذ قرارات تحكمية، لذا فهم يتشددون على انجازات المؤسسة التراكمية أكثر مما يهتمون بالانجازات المنفردة التي يحققها الأفراد، ويميل المدراء اليابانيون للتعمق بالوقائع لذا فإنهم يجرون التغييرات المطلوبة ببطء. لا يصل المدير الياباني إلى منصبه عادة لأنه عين لإجراء "تغييرات سريعة ضرورية"، بل لأنه ارتقى السلم ببطء ووصل إلى مركزه الذي سيبقى فيه لفترة طويلة، لذا فهم أكثر اطمئنانا واقل خوفا وأطول تركيزا وأعمق تفكيرا. تركز فلسفة "تاو" اليابانية على عنصر المثابرة كالماء، الذي يعود ويعود ثم يعود، ويعيد الكرة مرارا مذيبا صلابة الصخور، حتى تعجز أخيرا عن مقاومته! دعوا الأحداث تأخذ مجراها، وحيث لا ضرورة لاتخاذ قرار، فانه من الحكمة والذكاء عدم اتخاذه!

• * المهارة والمواربة والقرار: من المهارات الهامة في فن الإدارة القدرة على معايشة الغموض وعدم الكمال المقبول فيه كأمر واقع، حيث تتطلب المواربة بكافة أشكالها الكثير من المهارة، ويميلون أحيانا لإبقاء القضايا معلقة وفاعلة في آن واحد! وتستخدم أحيانا اصطلاحات طريفة لمعالجة حالات معقدة مثل " البهلوانية " و " تدليك المشاكل ".

بالإضافة لهذه العناصر هناك قناعات متفق عليها حول قيم ومفاهيم أخرى فاعلة مثل: الذات ودورها في المجموع، الاتكال المتبادل، أسلوب العمل كفريق متماسك، ضبط النفس، النقاش المتناسق في الاجتماعات...الخ.

مقارنة مع خصائص الإدارة العربية

بالمقابل لا يوجد تقبلا لنمطي الغموض والإبهام في الإدارة العربية، كما أن الوضع الرمادي غير مقبول، فهناك الأسود أو الأبيض، والأحكام القطعية جاهزة دوما لوصف الأشخاص والممارسات مثل : فهمان-جاهل – فلتة – عبقري – داهية – معاق - فاسد...الخ، كما أن الإيمان بفلسفة الصمت والتأمل ضعيف، وترفض هذه الإدارة الفراغ حيث هناك دوما مجال للحشو والاكتظاظ والازدحام. لا توجد قناعة بالعمل الذي يجري خلف الواجهة، حيث الصدارة والتقدير لواجهة العمل الاستعراضية. لا يستخدم المدراء العرب كثيرا الإشارات المجازية بوضوح لتحسين الأداء، ويميلون غالبا للنفاق والازدواجية في طرق التعامل، كما أنهم (أي المدراء العرب ) قد يضحون بالمعايير الموضوعية لتجنب الإحراج والمشاكل. أما " الأقدمية والواسطة والمحسوبية "، فهي في معظم الأحيان تعتبر العناصر الأكثر اعتبارا "للترفيع" والترقية في معظم المؤسسات العربية، ولا تعطى اعتبارات كبيرة حازمة للكفاءة المهنية والقدرة على مواجهة الصعوبات في أحيان كثيرة! كما أن معايير أخرى كالشخصية الهجومية والقدرة على التنظير والخطابة، ناهيك عن التزلف والنفاق، تؤخذ كلها معا بالاعتبار عند اتخاذ القرار لترقية أشخاص للمناصب العليا، بالإضافة للقدرات الخفية للدخول للشبكة العنكبوتية لإخطبوط الفساد المستشري في العديد من المؤسسات، مما يعزز قبولهم وتوافقهم مع الوضع القائم. كما أن الإدارة العربية تركز أكثر على الانجازات الفردية بغرض التلميع والإشهار وسعيا للنجومية والتميز حتى لو تطلب ذلك أحيانا السطو على جهود الآخرين وتهميشهم، ولا تؤمن بالقيادات الجديدة إلا بصعوبة وتميل للجمود والروتين والبيروقراطية وتوريث المناصب واحتكار الفهم والصواب.

تهميش الجهود وإخفاء النجاحات!

كما أن الإدارة العربية لا تميل إطلاقا لدراسة التجارب والإخفاقات والنجاحات السابقة بشكل موضوعي ، ولأخذ العبر والدروس وتصحيح المسار ، اذكر مشروعين هامين ناجحين عملت بهما، وتم تهميشهما كليا بعد نجاحهما لأن إظهارهما، ونمذجة المشاريع و الإجراءات والتجارب الناجحة ربما لن يفيد في هذه الحالة أحدا من المدراء وصناع القرار الطموحين ، وقد يقود تقدير ذلك لإلقاء وتسليط الأضواء على انجازات جهات أو أشخاص غير مرغوب بهم، لذا فمن الحذر والدهاء وتوخيا للسلامة إخفاء وتهميش النجاحات والانجازات! والغريب أن هذين المشروعين قد تكلفا مبالغ كبيرة وتطلبا جهودا حثيثة متواصلة، وتطلب انجازهما مهارات وكفاءات متخصصة أجنبية ومحلية، احدهما ارتبط بمشروع ريادي لإدارة التغيير بغرض التكامل والاستحواذ والدمج في إحدى المؤسسات الوطنية الكبرى ، واستغرق العمل به وانجازه أكثر من سنتين! أما الثاني فهو مشروع أوروبي –متوسطي (مخصص للمؤسسات الصغرى والمتوسطة )، وقد استغرق العمل الدءوب لانجازه أكثر من ثلاث سنوات، وحيث تم استنباط نموذج فريد للجودة "الأوربية -المتوسطية"، وطبق بنجاح على عشر شركات محلية. والغريب أن خلاصة المشروع والانجازات التي حققت في المشروع الأول قد تم نشرها في ثلاثة مقالات رائدة في الموقع الالكتروني للجمعية الأمريكية للجودة!
"كونشرتو" بيتهوفن والإدارة!

يكمن حجر الزاوية في فلسفة الإدارة اليابانية في قناعتهم بأن لكل فرد حاجات اقتصادية واجتماعية ونفسانية وروحانية، في حين تؤمن نظم الإدارة الغربية بأن مسؤولية الشركة هي في معظمها اقتصادية بحتة لا تشمل إلا لماما الاعتبارات الأخرى، وقد عززت هذه النظم للأسف القناعات السائدة حاليا بطريقة فظة في دول العالم الثالث حول اصطلاح " نظرة المهندس " للأفراد العاملين على أنهم في الأساس مجرد قطع أو وحدات إنتاجية قابلة للنقل من موقع لآخر!

يجب التأكيد أخيرا على أن معظم المهارات الإدارية حدسية بطبيعتها، ويقال مثلا عندما يقدم عازف شهير مقطوعة " كونشرتو " لبتهوفن أن الموسيقى تكون في أصابعه ويديه، أي أن عليه أن يفكر فقط بالموسيقى ويأتي الباقي تباعا بطريقة تلقائية!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى