الأحد ٢٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٢
بقلم جوني منصور

مِهَنٌ زائلة وأخرى باقية

تنوعت المهن التي عمل بها سكان المدينة عبر العصور المختلفة، وارتبطت بأنواع الأعمال والأشغال وتطور بعضها وتراجع البعض الآخر، وأحيانا اختفاء مهن معينة. وفي واقع الأمر أن المهن التي عاش وارتزق منها الناس أشارت إلى نمو وازدهار المدينة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن وظيفة حيفا عبر العصور تطلّبت أنواعًا خاصة من المهن والأشغال. وإذا فحصنا بتدقيق هذه المهن يتبيّن لنا أن الحاجة كانت أساس تكوين وتشكيل بعض المهن. وإذا اختفت هذه الحاجة ولم يعد هناك ضرورة لها فإن المهن التي ارتبطت بها تختفي وتزول. وهذه هي حكايتنا في هذه المقالة، حيث سنتعرّض إلى عدد من المهن الزائلة في حين سنبيّن ما بقي منها وكيفية تطوره، مع الإشارة إلى أننا نولي اهتمامًا بالفترتين التركية والانتدابية.

المترجمون أو التراجمة

إن تطور حيفا كمدينة ميناء وأفول نجم عكا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وانتقال عدد من القنصليات الأجنبية إلى حيفا، وارتفاع مكانة حيفا كمدينة ادارية واقتصادية وتجارية على وجه الخصوص، فرض الأمر الواقع بضرورة وجود مترجمين(أو تراجمة، كما تسميهم العامة من الناس). وكان هؤلاء التراجمة وسيلة اتصال وعلاقة بين القنصليات والحكومة المحلية أو إدارة القضاء وعموم الناس. أضف إلى أن بعضهم عمل في الترجمة بين الأديرة والدولة أو الأهالي في حيفا وخارجها.

وتطورت مهنة هؤلاء التراجمة لدرجة أن بعضهم كانت لهم كلمة فصل لدى الدوائر الرسمية. والمُلفت للانتباه أن بعضًا منهم كان من الأثرياء في حيفا، وأنهم تعلّموا لغاتٍ عديدة في المدارس التبشيرية وكوّنوا لأنفسهم مكانة فاقت حدود الترجمة المألوفة. ولعب بعضهم دور وسطاء بين قطاعات مختلفة في المدينة، والقصد هنا بين القناصل وبين التجار الكبار، أو بين القناصل وإدارة القضاء، أو بين تجار اوروبيين وتجار محليين. ومن هنا عُرف التراجمة بقوة نفوذهم واحيانا سطوتهم مستغلين معارفهم العلمية والمهنية لتحقيق مكاسب مادية وغيرها.
وبرز من هؤلاء التراجمة أو المترجمين:

الياس حنا الأبيض ترجمان دولة اميركا (1888م). جرجي شحادة الأبيض ترجمان قنصل دولة المانيا في حيفا (1889م). فؤاد جبران سعد ترجمان دولة المانيا الثاني في حيفا، ونخلة يوسف منصور قشوع الترجمان الثالث(1899م). وتشير السجلات التاريخية إلى ان المترجم قشوع استمر في وظيفته فترة طويلة تجاوزت العام 1907م. سليم الياس السيقلي ترجمان دولة المانيا في حيفا (1883م). حنا المتني ترجمان دولة روسيا (1884م). سليم منصور ترجمان قنصل فرنسا (1902م). شكري سمعان منصور ترجمان المانيا(1904م). مسعود ابراهيم طنب ترجمان دير راهبات القديس تشارلز بوروميوس بحيفا(1906م)، (حاليًا دير راهبات الوردية في شارع يافا رقم 105). نصرالله منصور غنطوس عطاالله ترجمان قنصل دولة النمسا (1907م). ابراهيم عيسى ابراهيم صهيون من أهالي حيفا العارف باللغتين العربية والفرنسية(1907). سليم بن حبيب بن الياس الخياط ترجمان قنصل روسيا بحيفا(1910م). والملاحظ أن التراجمة إلى الالمانية كانوا كثرة وهذا دليل على اتساع نفوذ ووجود الألمان في حيفا، والذي لم يكن مقتصرًا على الكولونية الألمانية فقط. ومن جهة أخرى اشارت كثرة التراجمة إلى ارتفاع نسبة الوجود الأجنبي في حيفا بصورة سريعة غير مسبوقة في اي بلد آخر في فلسطين في الفترة التي نتحدث عنها، ونعني نهاية الدولة العثمانية. فلم تعد هذه المهنة قائمة في فترة الانتداب البريطاني بالصورة التي عمل بها التراجمة، إذ ظهرت مكاتب للترجمة ، تبنت أسسًا مهنية حديثة. وبطبيعة الحال ما زالت مهنة الترجمة قائمة بصورة حديثة ومتطورة وذات أهداف متعددة.

الخيّاطون

لم تعرف حيفا محلاّت الملابس الجاهزة إلا في فترة الانتداب البريطاني. مع الإشارة إلى أن بعض المحلات في الفترة التركية باعت بعض الملابس الجاهزة والمُحددة من حيث هدف استعمالها، كالمعاطف مثلاً. وكان الناس يتوجهون إلى الخياطين والخياطات الذين يُفصّلون الملابس حسب مقاسات الزبائن واختيارهم للأقمشة.

وتفيدنا السجلات التاريخية إلى أن الياهو ابرون الخياط الاسرائيلي(إشارة إلى أنه من اتباع الديانة اليهودية) وهو من أتباع الدولة الانجليزية كان خياطًا في عام 1888م. وأن يعقوب ابراهيم كرون الخياط الاسرائيلي كان من أتباع دولة النمسا والمتوطن بحيفا(1890م). وأن سليم بن حبيب الخياط ويعقوب بن يوسف بني اسحق الخياط كانا من حيفا أيضًا وامتهنا الخياطة. وفي العشرينيات ذكرت المصادر التاريخية إلى الخياط فوزي بوبز ومحلّه الكائن بجانب جريدة الكرمل(1920م). كما اشارت المصادر إلى الأنسة إلن نصّار البارعة ومحلّها في بيت حنا راجي القديم بالقرب من هوتيل الجراند (1927م). كما أشارت إلى بنات أبو نسب المتخرجات من مدرسة الكرمليت، ويمارسن الخياطة والتطريز وعنوانهن قرب فرن الأبيض(1930م). ولكن مع ازدياد مصانع الخياطة والملبوسات الجاهزة بدأت مهنة الخياط والخياطة بالتراجع، علمًا أن هناك الكثير من الناس يفضلون إلى يومنا هذا اللجوء إلى الخياطين والخياطات لتجهيز البدل والملابس للمناسبات الخاصة.

القوّاسون

هذه المهنة كانت عبارة عن حُرّاس شخصيين يرافقون مواكب الشخصيات الرسمية الهامّة كالسفراء والقناصل والبطاركة والمطارنة ووجهاء البلد. وانتشرت المهنة في مختلف المدن الرئيسية كالقدس ويافا وحيفا وعكا وصفد وطبريا وغيرها. وامتاز القواسون بضخامة الأجسام والعضلات المفتولة والشوارب المعقوفة والمُزيتة. وارتدوا ملابس مزخرفة وعلى رؤوسهم الطرابيش. وعلى جنب كل واحد منهم سيف مرصع وبندقية (طبنجة) طويلة القناة والفوهة. وكانوا يسيرون إلى جانب الشخصية أو أمامها لفتح وشق الطريق منعًا لتأخرها وللفت الأنظار إلى أهمية الشخصية ومكانتها. وبدأت هذه المهنة بالاختفاء من الجو العام في فترة الانتداب، ولكنها اقتصرت على رجال الدين المسيحيين كالمطارنة والبطاركة. واقتصرت مؤخرًا على القدس وبيت لحم فقط، ويسير القواسون أمام البطاركة الارثوذكس واللاتين والأرمن ويظهرون بملابسهم الفخمة في المناسبات والأعياد. ويتقدمون المواكب وبيدهم عصا يضربون بها الأرض فتسمع صوتًا أو رنينًا عاليًا يُلفت الانتباه إلى مرور الشخصية المعتبرة. أما كلمة قواس فتعني من يحمل سلاحًا ويُطلق النار عند وصول أو عبور الشخصية المعتبرة.

ومن القواسين المشهورين في حيفا:

محمد موسى القواس (1870م). بطرس متى شمويل من طائفة الكاثوليك وقواس قنصل دولة أنكلترا بحيفا(1888م). عبد الرحيم آغا القاسم وعبد الكسيح آغا(1898م).

الغرابلية(المغربلون)

انتشرت هذه المهنة في حيفا بصورة واسعة في نهاية فترة الدولة العثمانية ومع بدايات الانتداب البريطاني، وهؤلاء يقومون بغربلة الحبوب على أنواعها تمهيدًا لبيعها في الأسواق. أما سبب انتشارهم في حيفا لأنّ تجار الحبوب كانوا يوردون كميات كبيرة من حبوبهم إلى حيفا لنقلها بالميناء وتصديرها، وفي غالب الأحيان تفيض كميات منها فتباع في السوق المحلي. ومن أشهر هؤلاء: عبد المعطي الغزاوي "الغرابلي" (1891م). محمود الدسوقي"الغرابلي"، ومحمد درويش الطرابلسي المغربل. ونلاحظ من هذه القائمة القصيرة أن معظمهم لم يكونوا من حيفا، بل أطلق على كل واحد بعد اسمه موقع بلده الأصلي.

المسحرون (المسحراتية)

ارتبطت هذه المهنة بشهر رمضان المبارك. ومهمة المسحراتي إيقاظ الناس للسحور. واعتاد المسحراتي على حمل طبل يقرعه بعصا صغيرة مرددًا بعض الكلمات بوتيرة أو نغمة ما يوقظ فيها الناس. ومن اشهر المسحارتية في حيفا: داود حمّاد وكان يتولى التسحير في منطقة حيفا الغربية، في شارع الكنائس وساحة الخمرة وشارع الملوك وبعض أجزاء الكولونية الالمانية ووادي النسناس. في حين تولى المسحراتي أديب القاروط مناطق البلدة القديمة والبوابة الشرقية خلف الجامع الصغير ووادي الصليب.

العربجية

هم الذين كانوا يعملون على نقل المسافرين او البضائع بعربات تجرّها الدواب على مختلف أنواعها كالخيول والبغال والحمير. وعملت العربات في مختلف أنحاء المدينة، وكان مركزها في ساحة الحناطير إلى ان ظهرت السيارات وشاحنات النقل فبدأت العربات بالاختفاء. واختفت تقريبًا عن العمل في الثلاثينيات إذ لم تعُد تملك القدرة على القيام يمهامها في مدينة واسعة الأطراف. ومن بين العربجية المعروفين في حيفا: حسن بن رمضان العربجي، وعبد الرزاق ابن عبد السلام زويد العربجي. أما أجرة العرجبي الأجير أي الذي لم يمتلك عربة ودابة فبلغت حوالي ليرتان فرنسيتان في 1889م. ويُعرف العربجي بلسان بعض اهالي حيفا بـ "العربنجي".

السروجية

وهم عبارة عن صانعي سروج الخيول بكافة مركباتها. ومفردها "السروجي". وتنوعت أنواع السروج التي رُكِبَت على الخيول بوجه مخصوص، حيث أضاف الأثرياء أدوات مُفضضة ومُذهبة، خاصّة إذا كانت الخيول لذوي شأن ومكانة في المدينة أو في إدارة القضاء. وتنافس الناس، وخاصة الأثرياء، في التفنن في تركيب السروج على ظهور خيولهم وإظهارها أمام الناس كجزء من المكانة الاجتماعية والاقتصادية. وبرز من بين صانعي السروج سليم بن محمد بن احمد زعتر السروجي.

العتّالة

انتشرت في حيفا مهنة العتالة، خاصة وأنها مدينة ميناء سواء القديم أو الحديث، واحتاج الناس والشركات العاملة في الاستيراد والتصدير إلى من يُحَمّل ويفرّغ البضائع، إلى أن بدأت تظهر الرّافعات التي خفّفت من وجود العتالة، إلا أن دورهم لم ينته بسرعة إلا في العشرين سنة الأخيرة حيث انتشرت الآلات والرافعات وبعض منها يعمل بأجهزة تحكُّم من بُعد. ومن أشهر هؤلاء العتالين ذوي الأجسام الضخمة، برز محمد أبو ترك، والحاج علي حسن العيساوي وابراهيم بن يوسف حبيب العتال، وسالم بخيت الزنجي الحمّال.

الخطّاطون

اختفى الخطاطون منذ عقد من الزمن في أعقاب انتشار الحواسيب والبرامج الفنية التي تستخدم في الخط والزخرفة. ولكن في عصر لم يكن فيه الحاسوب هو سيد الموقف لجأ الناس إلى خطاطين لا ليكتبوا لهم يافطة فقط، بل ليرسموا لهم صورًا وشعارات لمحلاتهم ومتاجرهم. وبرز من هؤلاء عوض الرومي والد الفنان حليم الرومي، وجد الفنانة ماجدة الرومي. وكان محلّه في شارع متفرع من ساحة الخمرة(الحناطير) بحيفا.

كوّى الطرابيش

انتشرت ظاهرة لبس الرجال للطرابيش في الفترة التركية، وكانت الطرابيش على أنواع، منها الشامي والمتميز بطوله، والمصري المتميز بقصره. واحتاج الرجل، كل رجل، إلى عدد من الطرابيش، خاصة إذا كان ظهوره كثيرًا في المجتمع، وعليه أن ينظفه ويكويه بين الفينة والأخرى. وانتشر عدد من العاملين في كي الطرابيش، وأبرزهم كما تفيدنا المصادر التاريخية: سعيد موسى بلوطين، الذي وُجِدَ في بيته العشرات من الطرابيش ومكاوي الطرابيش والشّرابات وقوالب النحاس مِمّا يدل على أنه كان يبيع ويكوي ويُصلح الطرابيش. وأطلق عليه الناس اسم مهنته "الطرابيشي".

مهن تتأرجح بين البقاء والزوال

وهناك مجموعة من المهن الزائلة أو أن وجودها قليل أو اتخذت أشكالاً أخرى عمّا كانت عليه، مثل: محمد علي أفندي العجمي الايراني صاحب الشايخانة (اي مكان بيع الشاي). مريم بنت خليل صانعة نسيج الحصر في قرية الطنطورة التي كانت تبيعها في سوق حيفا. أما السيدة حفيظة جلول فكانت مهنتها "فتّاحة" وكانت تقوم بقراءة الطالع وتفتح البخت. كما أن الشيخ أحمد السعدي كان يمارس التنجيم وقراءة الطالع والعلاج بكتابة الحُجُب. وعُرف يعقوب بن يوسف العلماني بارزًا في مهنة التنجيد. أما جميل الهبل فكان اختصاصه برتق السجاد وإصلاحه وغسله وتلميعه.

وماذا بعد...؟

وهكذا نجد أن مِهنًا عديدة زالت عن الوجود في حيفا، وحلّت مكانها مهن أخرى حديثة ومعاصرة، في حين ان مهنا عديدة بقيت قائمة وتوارثها أبناء العائلة أبًا عن جد، حتى عُرف العاملون فيها باسم المهنة، أي ان عائلات كثيرة تحمل اسماء مهن آبائها واجدادها إلى يومنا هذا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى