السبت ١٨ شباط (فبراير) ٢٠١٢
بقلم فراس حج محمد

والدكتاتور فينا أيضا

تقوم الدكتاتورية السياسية على تركز تقاليد الحكم والسياسة وجميع السلطات بيد شخص واحد يمارسها حسب إرادته، دون اشتراط موافقة الشعب على القرارات التي يتخذها، ولكن الدكتاتورية ليست حكرا على الناحية السياسية، بل هي نمط تفكير يستكن في وعي كل فرد صاحب صلاحية ما؛ تجدها عند الأب وعند الأم وعند الزوج والزوجة، وعند الأبناء والبنات، فقد تربينا على هذا وتقليناه مفهوما حياتيا يحكم كل اتجاهاتنا، فالخلل ظاهر في التربية التي مارسناها أو مورست علينا، فهل سنتخلص منها يوما؟ فالمشكلة ذات أبعاد اجتماعية وثقافية وتربوية قبل أن تكون سياسية، وكما قيل: كما تكونوا يول عليكم.

أتذكر ما كتبه الراحل محمود درويش في خطبه الموزونة للدكتاتور، حيث الحديث الساخر المؤلم من نمط تفكير الحاكم، الذي يستعبد الشعب، وإذا ما مارس نمطا آخر فإنه يمارسه على هواه، وكيف يرى، فهو الحاكم بأمر نفسه، والمتصرف بشؤون العباد والبلاد، فقط عليه أن يقول، وقوله مقدس والكل يجب أن يقدم قرابين الطاعة، حتى في الانتخابات، هو من سيختار من يحكمه من الشعب، أرأيتم كيف تكون الأمور مقلوبة ومعكوسة؟!
لله درك أيها الحاكم النحرير، كم أنت مغبون على شجاعتك في تتفيه الناس وآرائهم! ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.

تتداعي أفكار كثيرة حول فكرة الدكتاتور، تلك الفكرة الشيطانية بامتياز، والتي تنم عن عقلية متحجرة، لا ترى إمكانيات العقول البشرية، وما تتمتع به من قدرات وطاقات، قد تكون لها الفائدة الجلى والعظيمة على المجتمع الذي تحيا فيه، فيأتي الحاكم المتسلط أيا كان موقعه، رئيسا أو أبا أو معلما، أو مثقفا، ليفرض وجهة نظره على الجميع، فهو الراشد الوحيد والحكيم المتفرد، والكل مساكين يعانون من التشويش وانعدام الأفق، فالتنوع مضر بالحياة، ومخلل بالنظام العام من وجهة نظره.

ويبقى السؤال متحديا بصرخته: متى نتخلص من وهج الفكرة المشوشة؟ ومتى يجب علينا أن نفهم أن الحياة بسننها المودعة فيها قائمة على التنوع الفكري، ولا تصلح الحياة وجوديا إلا بالتنوع المفضي إلى الحوار ومناقشة الأفكار، فمتى سيعرف المثقف القابع وراء مكتبه أن ممارسته الفكرية ستظل حبرا على ورق إذا لم يقتنع أن قلمه بحاجة لترويض ليقبل مناقشة الآخرين، واحترام ما عندهم من أفكار، أم أنه الخوف من زحزحة مكانته التي اكتسبها من شرعية غير شرعية العقل والمنطق؟!

سنظل ندور في حلقة مفرغة من العبثية المفضية للهاوية إذا ظلت المؤسسات التربوية دكتاتورية في ممارستها للتعليم حسب نظام جامد صارم، بدءا من تصميم مناهج يلفها الغباء، ولا تخرج التلاميذ إلا كائنات بشرية، مزودة بمعارف جامدة، لا تحسن الاستفادة منها، أو ظل المعلم ملقنا معارفه، طالبا من هؤلاء المساكين ترديد ما يقول، وكأنهم ببغاواوات في حجرات الصف، لا يثني على من يفكر، ويعلي من شأن من حفظ ووعى الألفاظ دون المعاني ومدلولاتها، إنها الكارثة، هنا يصنع الدكتاتور أيها الناس.

فنم يا درويش هانئا ولا تحلم بغد أفضل ما دام أن من سيقرأ أشعارك من هؤلاء التلاميذ لا يفكر بما قلت، ولا يسعدك أن يحفظ الناس أشعارك عن ظهر قلب، ولكن وبكل تأكيد يسعدك الذي ناقشك واختلف معك، وحاول أن يقول: إنك كنت على خطأ، فيا عزيزي ليس الحاكم وحده هو الدكتاتور، فالدكتاتور فينا أيضا، سلوكا ومنهجا وفكرة ضاربة الجذور.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى