الأربعاء ٢٢ شباط (فبراير) ٢٠١٢

نظام تعذيب، يرأسه طبيب

علي الصراف

كل شيء في نظر النظام القائم في دمشق هو نتاج مؤامرة. والامر لا يقتصر على مطالب الحرية، أو التظاهرات التي تندد بالطغيان، أو الدعوات لاسقاط النظام. فالفقر هو الآخر مؤامرة، والبطالة مؤامرة، بل وحتى الفساد الذي يرتع في نعيمه كبار المسؤولين هو أيضا مؤامرة.
وبطبيعة الحال، ووفقا لثقافة النظام، فان الإمبريالية هي التي تقف وراء هذه المؤامرة.

حسنا. تعالوا نصدق أن كل هذا مؤامرة بالفعل. وتعالوا نصدق أن كل الدعوات للاصلاح، بما فيها تلك التي دعاها الرئيس نفسه ونكث بوعوده بشأنها، هي الأخرى مؤامرة.

ولكن ماذا بشأن أعمال التعذيب والانتهاكات التي تمارس في السجون؟ هل هذه هي مؤامرة أيضا؟ هل تقف الامبريالية وراء استخدام اجهزة تعذيب مثل تلك التي تسمى: دولاب وبساط الريح وفروج؟

ويقال أن الرئيس بشار الأسد طبيب. ويقال أن مهنة الطب هي مهنة أخلاقيات إنسانية عالية، حتى أن الطبيب لا يستطيع أن يتنكر لعدوه إذا جاءه جريحا.

ولكن، إذا كانت هذه هي الحال، أفليس من المخجل، بالنسبة لطبيب أن يقف على رأس نظام يمارس أعمال التعذيب؟

وإذا كانت هذه الأعمال شائعة ومعلومة على نطاق واسع، فسؤالي للرئيس هو: كيف ضبطت معك؟ وبأي أخلاقيات مهنة تحكم يا طبيب؟ أم أن مهنة الطغيان أوفى لك؟

وأكاد أشعر أنه، احتراما للمريول الأبيض، كان يجب على الطبيب الشاب أن يقول لاركان مؤسسته الأمنية: "سامحونا، ليس من أخلاقياتي ولا من كرامة مهنتي، أن أقود نظام انتهاكات كهذا، ولا أن أقود مؤسسة وحشية كهذه".

ولكنه لم يفعل. ليس لانه رئيس فاشل، بل لأنه طبيب من دون ضمير.

وإذا سألته، لماذا؟ فخشيتي أنه سيقول: مؤامرة!

مع ذلك، فالأدلة والقرائن التي تثبت ضلوع المؤسسة الأمنية في سوريا بأعمال التعذيب، أكثر من كثيرة. إنها حقيقة من حقائق الحياة هناك. وملايين الناس يعيشون في ظلها كأمر مفروغ منه. ثم أنها تُمارس على نحو ثابت ومنهجي بحيث تبدو وكأنها جزء من طبيعة عمل السلطة.

وهناك الآلاف من تسجيلات الفيديو التي تكشف عن الطبيعة الوحشية لأعمال التعذيب هذه.
وهناك الآلاف من الشهادات أيضا، بحيث لا يستطيع أي مسؤول أن يزعم أنه لا يعلم بها.

الكل يعرف أيضا أن مؤسسة النظام الأمنية والمخابراتية تؤدي هذا الدور لإشاعة الخوف والرهبة بين الناس. وهناك اعتقاد راسخ لدى هذه المؤسسة بان النظام لا يستطيع العيش يوما واحدا إذا سقطت حواجز الخوف.

ومثلما تستهدف أعمال التعذيب امتهان كرامة الإنسان، وسحقه، وإذلاله، فان نظاما يعيش على هذه الوسائل، تقوم ثقافته كلها على امتهان كرامة البشر وسحقهم وإذلالهم.
ومثلما تُمارس السلطة اغتصابا، فليس كثيرا على حراس أمن النظام أن يغتصبوا وينكلوا ويتلذذوا بآلام ودماء ودموع ضحاياهم.

وبينما يُمارس قادة النظام سلطتهم كمتعة سادية، فان وكلاءهم في الجريمة يُمارسونها كحقد هستيري مقدس، ضد كل من يشكل تهديدا أو تعكيرا لصفو تلك المتعة.

لهذا السبب، يُصبح كل قول أو رأي، لا يلائم صفاء المتعة، ممنوعا.

وحتى وقت قريب كانت أعمال التعذيب تُمارس في الخفاء. ولكن ومنذ أن اندلعت الانتفاضة في آذار-مارس الماضي، فقد أصبحت تلك الأعمال تُمارس في العلن، بل أنها اتخذت طابعا أكثر وحشية وشملت كل شيء تقريبا، بما ذلك الذبح وقطع الرؤوس. وكان الهدف الواضح منها هو ترويع الناس، وذلك حتى أصبح الترويع هدفا أمنيا قائما بذاته.

ولئن كان الخوف يمثل حجر الزاوية في العقيدة الأمنية السورية، فان الانتقال به الى مستويات أشمل من الترويع، يجعل النظام برمته قائما على نموذج رعب أسوأ مما يمكن لأي مخرج أفلام أن يفعل.

والحال، فما كان يُمارس كترويع فردي لاجبار المتهمين على تقديم اعترافات، أصبح يُمارس لاجبار المجتمع برمته على الرضوخ.

وتدل هستيريا القتل التي يغرق بها النظام على أنه هو نفسه مرعوب الى درجة الجنون.
وكان هناك دافع وحيد هو الذي ينظم الرهان على الخوف، وهو أن النظام ارتكب عددا هائلا من الجرائم والانتهاكات. وهذه طالت عددا كبيرا من الناس حتى أن النظام يعتقد أنه إذا أرخى قبضته، فانه سيكون ضحية لأعمال انتقام لا حدود لها. ولهذا السبب، فان النظام يجد نفسه مدفوعا تحت طائلة الخوف من الانتقام، أن يمارس انتقاما مسبقا، لعله يستطيع تركيع وإذلال الجميع.

ما يفعله نظام التعذيب، ناجم عن هستيريا بلا حدود. ويخطئ من يظن أن المسألة مسألة سلطة، أو حرص على مال أو خشية من فقدان نفوذ. فهذا كله لا يقدم تفسيرا لهذه الدرجة من الإيغال بأعمال البطش.

إن الأمر أشبه برجل مجنون يحمل ساطورا وجد نفسه في غرفة مغلقة مع أطفال ونساء وشيوخ ويعتقد أنهم سيقتلونه ما أن يكف هو عن القتل.

وهو يريد من المحبوسين معه في الغرفة أن يطيعوه، وأن يهتفوا له: بالروح، بالدم، نفديك يا طبيب، لكي لا يقتلهم. ولكي يقتنع أنه إذا قدم لهم إصلاحات، فانها لن تعني أنه سيخفض الساطور.

يريد منهم أن يهتفوا له وساطوره مرفوع. ولكنه إذ يراهم خائفين ويرتجفون من الذعر، فانه يرى في خوفهم، ما يعود ليحيطه بالخوف، فيعود ليبطش.

هذه الهستيريا سيكولوجيا معروفة. فكل أولئك الذين يحترفون القتل الجماعي، يعانون هم أنفسهم من الذعر. وبينما كانت قواته تروع اطفالا ونساء وشيوخا، كان من الملفت أن يقدم الرئيس الطبيب اعترافا عبر مواربة الإحلال والنكران بالقول: "لا يوجد هناك أي حكومة في العالم تقتل شعبها إلا إذا كان قائدها مجنوناً".

لقد كان يعرف، على وجه الحقيقة، من هو المجنون. بل لقد كان يراه ويرى أفعاله بوضوح.
الآن، دع عنك الفشل في السياسة والاقتصاد والعلاقات الخارجية. دع عنك كل شيء من عجز الدولة عن تقديم خدمات الصحة والتعليم والأمن والرعاية الاجتماعية. دعك من كل هذا. فهذا كله مؤامرة.

ولكن إذا كان لديك نظام يمارس التعذيب، ويراهن على الخوف، ويفرض سلطته بالقسوة والترويع، فكم يبقى من شرعيته؟

هل هذا نظام يستحق البقاء دقيقة واحدة؟ أليس من حق ضحية واحدة (واحدة فقط) أن تأخذه الى المحكمة وتعتبره نظاما باطلا؟ فكيف إذا كان لهذا النظام في كل شبر ضحية؟
وأي شرعية بقيت، إذا كان هذا النظام عاجزا كليا عن أن يخفض الساطور؟

لست أطلب إسقاط النظام. ولم يعد هناك ما يبرر مطالبته بالتغيير أو الإصلاح أو إجراء انتخابات عامة، أو الدخول في حوار مع المعارضة. فهذا كله لن يزيل الخطر عن المحبوسين معه في الغرفة.

هناك شيء واحد صحيح: إرساله الى مستشفى المجانين.

هذا هو المكان الوحيد الذي يصلح لنظام تعذيب يرأسه طبيب!

علي الصراف

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى