الأحد ١١ آذار (مارس) ٢٠١٢
مطلوب: تأصيل
بقلم تركي بني خالد

ثقافة التحاور في المجتمع العربي

ميز الله عباده بخاصية اللغة، ومنحه ملكة العقل. وتميز الإنسان عن غيره من الكائنات بالقدرة على اكتساب اللغة الأم وتعلم اللغات الأجنبية. كما حظي هذا المخلوق البشري العجيب ببرمجية العقل التي أودعها الخالق في دماغه لعله يستفيد منها في التفكير وحل مشكلاته في التعامل مع عناصر البيئة المحيطة به. فالحيوانات والنباتات والجماد والكائنات الدقيقة لا قدرة لها على استخدام اللغة بالمعنى الذي نفهمه نحن بني البشر. كما بقي الإنسان وحده القادر على تطوير قدراته الذهنية عبر العصور إلى أن وصل إلى ما نراه اليوم من انجازات مذهلة.

وتطورت بعض المجتمعات وتقدمت على غيرها من الأمم بفضل تشغيل العقل وتسخير طاقاته الضخمة من اجل التعامل مع التحديات التي تواجهها، فأصبحت رائدة متميزة بفضل ما لديها من علوم ومكتسبات تبيعها أو تتصدق ببعضها على أمم أخرى شاءت أن تتخلف عن الركب الحضاري وان تناصب التفكير العداء. وأصبحت أمم محترمة لما امتلكت من سبل اللغة والتحاور والتفاوض من اجل التعاون وتقاسم الخير بدلا من التحارب والتقاتل والعودة إلى نقطة الصفر في كل مرة كما يحدث الآن في بلاد العرب.

يولد الواحد منا في أسرة نادرا ما يسودها جو التحاور وقبول الآخر واحترام آرائه. فالكبير يقمع الصغير بحجة أن الكبير هو الذي يعرف وان الصغير ما زال يجهل. وفي الأغلب، يقمع الزوج زوجته بحجة انه السيد المطاع وانه صاحب القوامة والرأي السديد فهو قبل كل شيء رجل البيت! ويضطهد الأخ الأكبر إخوته الأصغر تحت ذريعة احترام الشقيق الذي يعرف أين المصلحة العامة خاصة في غياب رجل البيت صاحب الولاية. وتحتكر الأم ما لديها من صلاحيات، فتقرر ما يجب أن يطبخ وما يجب أن يأكله أفراد الرعية، حتى لو لم يستطعم هؤلاء بتلك القرارات، فهي لأدرى بشؤون البيت من الجميع.

وعندما يرسلوننا إلى المدرسة لنتعلم شؤون الحياة ولكي نتدرب على المواطنة الصالحة، تأتينا الأوامر والنواهي من كل حدب وصوب. فنحن صغار ولا نقدر الأمور وعلينا الطاعة والطاعة المطلقة لمعلم الصف ولمدير المدرسة وللمعلم المناوب ومراقب الساحة, فلا احد يسألنا أو يترك لنا خيارا لأننا ببساطة أولاد وبنات قصر لا مكان لنا على طاولة صنع القرار، فالكبار وحدهم هم الذين يفهمون ويقررون، ولا نملك إلا السمع والطاعة.

لا حول لنا أو قوة. تقول لنا المعلمة كيف نجلس ومتى نفتح فمنا للإجابة عن أسئلتها التافهة.، أو لكي ننسخ الأجوبة المكتوبة على اللوح أو الكتاب المقرر، لاحظوا معي كلمة " المقرر". وتردد معلمات المدرسة والتلاميذ النشيد الوطني الجديد الذي تبنته المطربة المبدعة نانسي، فقد حددت نظريتها في أغنية بسيطة يحبها الأطفال بعنوان " شاطر شاطر"!! والشاطر هنا ليس هو الذي يفكر ولا ذلك الذي يسأل وإنما ببساطة هو الذي " بيئعد عائل وحده" بمعنى انه يصمت وينزوي مدحورا لا يلوي على شيء.

الشاطر إذن هو الذي يسمع كلام معلمته، ويطيع ببلاهة كل ما يقال له ويتحول إلى روبوت مبرمج يؤدي ما يؤمر به. في الجامعة كما في المدرسة, والأسرة، لا مكان للحوار أو التحاور. بل هناك محاضرات مملة لا تنتهي. وأوامر وتعليمات ومن يفكر بمناقشتها له الويل والثبور والتهديد والوعيد واستخدام الامتحانات وغير ذلك، فلا نملك إلا الإذعان.

استبدل نظامنا التربوي المحاورة بالمحاضرة، واستبدل الحرية في التعبير بالإجابة من خلال الاختيار من أربع إجابات يتخللها عبارة " كل ما ذكر صحيح"! واستبدل المعلمون لغة الاحترام بلغة الصراخ والاهانة والشتم والتشبيه بالحيوانات، ومعظمنا سمع عن عبارات مثل " اخرس" و " أنكسح" وغير ذلك من مفردات الترويع النفسي وربما البدني.

وعندما تتاح للبعض فرصة التعبير أو الحوار يظن أن المقصود هو التجريح والذم والتسخيف والسخرية المدمرة للنفس البشرية. نناقش بدون أدلة، ونعرض للأشخاص ونقلل من قدرهم، ونشكك بهم، ظنا منا أن تلك هي الحرية في التعبير والحوار. وتصل بعض البرامج " الحوارية" على الشاشة إلى درجة الشتم المباشر وربما التشابك بالأيدي من اجل توصيل الفكرة!!

ويبلغ بنا الأمر أن نحول كل فرصة للتعاون أو بناء صداقة إلى مشادات كلامية سرعان ما تتطور إلى عنف بإشكاله المختلفة. لا نجيد استخدام اللغة المحكية ولا تلك المكتوبة، وابتعدنا عن ما أسميناه بلغة الضاد الفصيحة، وابتذلنا ألفاظا سوقية نحتكم إليها كلما تعاملنا مع الآخر.

ماذا نبقي لأنفسنا إذا تخلينا عن اللغة العاقلة؟ وكيف نميز حياتنا عن الكائنات غير البشرية عندما نفتقد العقل البليغ؟ أسئلة تنتظر عباقرة الأمة لعل لديهم الجواب!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى