الأحد ٨ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
بقلم نبيلة عيلان

الوداع الأخير

لمحته واقفا بعيدا، يحمل على ظهره حقيبة زرقاء.. كلون عينيه.. كان يلوّح لي بيد و في يد أخرى يمسك كعادته زجاجة نبيذ، كان هناك و لم تعد الابتسامة على وجهه موجودة.. رأيت في عينيه الواسعتين.. وِزر كبير و شَجو شديد.. لم أكن أفهم ما كان يحدث.. و لم أكن أدرك إن كان ذلك حقيقة أم مجرّد هذيان.

أفقت من أضغاث أحلامي، وثَبت من فراشي منهكة، فتحت باب غرفتي.. رمقت أمّي جالسة في ردهة البيت، تضع يديها على خدّها تبكي.. ململة شتات عمرها.. دون أن تدرك أي جزء من عمرها ضاع منها.. الأمس أم الحاضر.

اقتربت منها مرتجلة الخطى و قد سبقني قلبي إليها.. قلت و أنا أقف خلفها متردّدة من الحديث

"أمّي ما بك..؟ماذا حدث؟"

"لقد رحل.."

"من؟"

"أبوك.."

"إلى أين؟"

"لست أدري"

"كيف لا تدرين..؟ألم يخبرك؟"

"كيف يخبرني و هو لا يعلم أي طريق يسلك"

"لا أفهم شيئا..كيف يرحل دون معرفة طريقه"

"القدر"

"أي قدر هذا الذي يفرض علينا ترك منزلنا.. و الغوص في المجهول؟"

"أنت صغيرة جدّا لتفهمي"

"أفهم ماذا؟"

"أتركيني في همّي"

"لما تركتيه يرحل إن كنت ستعيشين في هم؟"

"قلت لك ابتعدي عني و إلاّ...."

نهضت أمّي من مكانها و هي تلوّح بيدها لصفعي.. ابتعدت عنها.. وقفت قرب نافذة غرفتي، أتأمّل الحقول الشاسعة، أبحث فيها عن خيال والدي أو حتى شبحه.. لكنه لم يكن هناك. أحسست بغصّة في قلبي..و بأنفاسي تختنق.. و كأن الهواء لم يعد يدخل إلى هذه الحجرة الواسعة. خرجت مسرعة أحث الخطى، أجري بين أزهار الأقحوان.. بين أشجار البلّوط، حافية القدمين، أتأمّل يمينا و شمالا، أنظر خلفي علّني مررت أمامه دون أن أراه، دون أن يراني، قد يكون مستلقيا وسط العشب الأخضر، و غاص في النوم العميق كعادته..بعد أن ارتشف آخر جرعة من كأس يأسه، لكنه لم يكن هنا و لا في أي مكان.

توقفت و قد أحسست بدقات قلبي تتصارع، أغمضت عيناي التي أعيتهما الرّياح وأشعة الشمس التي ترمي بلسعاتها على وجهي..عاد إلي ذلك الحلم الذي أثقل كاهلي في الصّباح و أيقضني على هاجس مخيف، لكني في هذه المرّة كنت أرى والدي يلوّح لي و هو يسير إلى الخلف.. و أنا أسير إليه.. مادة يدي إليه.. لكنه غاب في كنف الضباب، بقيت أنا أسير في هدوء.. تعثرت رجلي بحجر.. ووقعت.. استيقظت حينها على نداء أمّي التي خرجت تبحث عنّي.. عانقتني طويلا، لم أعرف كم من العمر مضى و نحن على تلك الحالة.. ابتسمت و قالت
"لا تقلقي..نفسها الرّياح التي تأخذنا يوما تأتينا في يوم آخر"

لم أفهم ما الذي كانت تقصده أمّي بحديثها ذاك، لكنّي عدت لطفولتي مرّة أخرى.. ارتميت في أحضانها حتى أنسى رهبة ذلك الكابوس الذي هيمن على مخيّلتي..و بات يطاردني في غفوتي و يقيني.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى