الاثنين ٩ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
الشاعر الزجال إدريس أمقار مسناوي
بقلم عبد السلام دخان

في ديوان «الجسد»

«غايتي نكتب للحياة نعيش للإنسان ولو نكون غير ......»

شكل هذا الإهدار لديوان الشاعر الزجال مولاي إدريس أمغار مسناوي الصادر عن مطبعة المعارف الجديدة بالرباط 2009 أولى عتبات الدهشة لهذا العمل الشعري المخصوص، ولشاعر اختار الزجل كشكل تعبيري له عمقه الفني وتاريخيته البلاغية والدلالية، ليس فقط فيما تركه الأصلاء أمثال سيدي قدور العلمي، أو فيما ورد في تاريخ .... للناصري وفي المنظومات والمخطوطات الحجرية، ولكن بالارتباط بالأشعار الزجلية التي تشكل جزءا من الذاكرة المغربية الشعبية، والتي تجسدت في ..... المجموعات «الغيوان وجيل جيلالة».

إن الشاعر المزود بإدارة الحياة، بالحلم، يفصح من خلال هذا الإهداء عن نزعته الإنسانية المفرطة، وعن وعيه الجمالي بالذات والعالم، وديوان «الجسد» هو إبراز لتفاصيل هذا الحلم، ولانشغالات الذات الطامحة لتحقيق الممكن الأنطلوجي.

لذلك فقد اختار مولاي إدريس أمغار مسناوي إقامة حوارية شفافة بين ........ والميثولوجي بالاعتماد على استراتيجية تفكيكية لقلعة الجسد المنيعة التي شيدت على امتداد التاريخ الإنساني.

إنه الرائي والمرئي لهذا التحول الذي تتضح معالمه مع كل قصيدة، ومن ثمة فهذا الديوان ليس تجميعا لقصائد متفرقة، بل هو ثمرة جهد إبداعي يتسم بالتماسك والانسجام مع رؤية الشاعر التي تتوخى كشف انشغالات الذات الشاعرة، وتبيان طبيعة هذا الإدراك الجمالي للجسد ليس كمعطى جاهز، بل كإمكانية للانوجاد والإقامة بالقرب من أنوار الوجود.

ويعكس هذا العمل الابداعي صلة الشاعر الوطيدة بالموروت الثقافي الإنساني الذي يمتد منذ الحضارة البابلية والأثورية والسومارية والفرعونية، ووصولا إلى الحضارة الأندلسية فالاهتمام بالجسد في الميثولوجيات القديمة والمعارف والأدبيات الحديثة يكاد ينحصر في التقسيم جسد ـ روح ، الجسد بوصفه المرادف للرديلة في الفكر الكنيسي، والجسد باعتباره مرادف للضم في الفكر الإسلامي، والإسلام دعى إلى ..... الأصنام لأنها مدنسة وترمز إلى التعدد بدل الوحدانية.

إن الجسد هو «العجل السامر» الذي فتن قوم موسى لذلك فهو مرتبط بالخطيئة والذنب، وفي الفكر الكنسي لقي هذا الجسد العذاب والصلب في شكل مأساة المسيح.

هذا الجسد كان مقصيا بصفة قطعية عن المجتمع بدعوى الإصابة بالجذام أو الأمراض المعدية، وثم نفيه لأن صاحبه به مس من الشيطان، أو مجنون.

ولقد حاولت مؤسسة الطب إعادة تأهيله، وحاولت مؤسسة الطب النفسي إعادة دمجه في المجتمع، والآن تحاول ...... ترويضه وتدجينه تبعا لصيحات الموضة عبر التحكم في الشكل والوزن والطول والقصر.

وهذا الجسد هو مصدر العجائبي والأسطوري في الثقافة الشعبية، فأولاد سيدي موسى يشربون الماء الساخن، ويأكلون الزجاج، ويداعبون السكاكين الحادة.

وفي نفس السياق تعكس طقوس الحضرة الكناوية والليلة العيساوية مثلا، رغبة في تخليص الجسد من الأرواح الشريرة.

الشاعر مولاي إدريس يسعى إلى قلب هذه المفهومات عبر الحوارية التي يقيمها بين الجمالي والأسطوري بغية الاقتراب من إنسانية الإنسان الذي يعرف الجرجاني بقوله: "الإنسان هو الحيوان الناطق.. والإنسان الكامل هو الجامع لجميع العوالم الإلهية والكونية الكلية والجزئية".

ومنذ الصفحة التاسعة من هذا العمل يتضح البعد التأملي لمولاي إدريس أمغار مسناوي الذي تعمد وضع مفهوم "الجسد" فيما يسميه جاك دريه بالقار ما كون أي السم والدواء في الوقت نفسه. وهذا القلب الأنطولوجي يرتبط بطبيعة الإدراك الجمالي وبالعلاقة التي يشيدها الشاعر بالزمان، فالشاعر العربي تعود الاهتمام بالمكان وهو ما تعكسه الأبقار العربية منذ كان التركيز على المقدمات .....، ووصلا إلى الموشحات الأندلسية.

(ولعل لرغبة الشاعر في تسمية عمله الشعري بالحب ما يؤشر على هذه القصدية التي تكشف للمتلقي رغبة في تسمية ما كان مجهولا.) ولعل ما يثير الانتباه في هذا العمل الزجلي هو أننا ندرك من الصفحة الثانية عشر أننا إزاء محقق فيلولوجي معني بالضبط الدقيق والصارم للهوامش والإحالات، وما ذلك التقصي الحصيف لكلمة هي التي وجد لها صاحب "مقام الطير" أصولا في التراث السوماري. وهذه المناجاة مع الأم هي فرصة لكشف الرؤيا المخصوصة للشاعر من خلال الحديث عن الولادة ورحلة الحياة ورغبة الشاعر في تحقيق الحلم، فالديوان هو رصد للممكن الذي يروم تحقيقه عبر الإبدال الدلالي.

يقول الشاعر في صفحة 14 من الديوان:

"بغيت قلب ذكي
عقل حنين
عين شاسعة
...... شفافة
لسان بنين"

الشاعر يتعمد خرق قواعد التوليد الدلالي ليؤسس معي جديد من ائتلاف المتباعد، وتجانس المختلف.

بغيت فعل والتاء فاعل، وقلب مفعول به، ذكي نعت وتؤسس هذه الجملة التركيبية لبؤرة مركزية، لتشكل الجمل التالية نعوتا لكلمة "قلب" وكأن الشاعر يخبرنا أن القلب هو الأساس في هذا الجسد، وأن باقي الأعضاء هي أوصاف له، ومركزية القلب هي جزء من المرجعية الصوفية.

ويوضح هذا الشاهد العشري الإستراتيجية الكتابية وفي يتبناها الشاعر لكشف رؤيته الفنية والجمالية، والقائمة على تفكيك كلمة الجسد لتنثر عبر فضاء العمل الشعري، ويشكل كل حرف عالما من عوالم الجسد الخفية والظاهرة. ومن أجل ذلك أضطلع مولاي إدريس أمغار مسناوي بمهمة صعبة تتجلى في الجمع بين المتناقضات المكان ـ العدم ـ الفراغ ـ النهار ـ الليل، من أجل الانتصار العلني لنداء الحياة. وإقامة علاقة بالجسد ليس على شاكلة الميثولوجيات القديمة، بل على نحو يكون وثيقا بالوعي الإنساني، وبالموجودات: "الأرض، الريح، النور، الألواح، السيف،.....".

الجسد لدى شاعرنا هو منطلق ومنتهى كل التسميات والأشياء، لأنه الجسد الذي يستطيع الانوجاد في العالم، والإحساس بالانوجاد عبر الحرف واللون والحس الجمالي. إنها رؤية مرتبطة بالبصيرة وليس بالبصر، مردها الحيرة التي يشعر بها الشاعر، إزاء ملكوت الجسد.

" قريت أمجادك
فألواح الطين
فكفوف الصخر
فجلود الحيوانات
فصفحات العاج
سمعت إنشادك
فالأسطورة فالخرافة
فالنكتة
فالسكات
وفالهراج" ص 51 من الديوان.

الشاعر الزجال وارث الضوء يطالب بحقه في الفرح، خفي المخطوط 2 ـ الذي اعتبر الشاعر كتابة في الرمل سرعان ما تنمحي لتعاد من جديد، كطائر الفنيق المنبعث من الرماد، وهذا الرقيم أو البلامسيس يجعلنا ندخل لعبة مرآوية، فلا نكاد نعثر على أصل الأصل مما يساهم في توليد معاني جديدة، إنه إذن دلالة على التحول والتجدد، وكأنه إشارة إلى هذا العالم الآيل للنزول حيث لا يبقى غير وجه الله ذو الجلالة والإكرام.

هذا الجسد "عايش على قيد خياله" سيمولاكر، في "بكاه وغواته وشوفاته و......"

وبعد أن عمل الزجال مولاي إدريس على استشراف الجسد في أبعداه التاريخية والجمالية يعرج بنا الشاعر لمعرفة الجسد في بعده السوسيولوجي من خلال تحديد ثلاثة حالات كما أسماه بردود الفعل: الجسد والكرامة، الجسد والموت، الجسد والعمل، يضاف إليها الجسد والعقاب، فالشاعر يصور رحلة الجسد ومحنته، ويرصد أشكال التعذيب عبر أماكن متعددة في هذه الأرض الضيقة، فأينما وجد الإنسان، وجدت أشكال تعذيب مختلفة لهذا الجسد، وكأن قدره هو تجرع الألم.

"هو لمسافر
بين تازمامارت كوانتنامو وبوغريب صفحة 29 من الديوان.
ويضعنا قول الشاعر:
الحي يتعاود فيه النظر
الميت تتعاود فيه الشهادة

في صلب الأبدال بحثا عن الممكن. ففعل الإعادة يشبه الرغبة في الاستحمام في نهر ......... لذلك فالشاعر لا يتواني في تقديم نصائح ـ لذاته ـ كما في الصفحة 36 و37 من الديوان من أجل الحق في الحياة والكرامة الإنسانية.

إن الرغبة في ترك الكثير هي استجابة لنداع الحياة، فلا وقت للشاعر للضياع أو الفراغ المرادف للصدم.

....... هذا الأثر، هو ما يسمح لنا في فهم الحوار الشعري وتغييرها لإنتاج تأويلات جديدة تستوعب الجهد البلاغي لهذا العمل الزجلي القائم على الإشعارات و..... والجمل الخبرية والتخمينات، وعلى أشكال كتابية تتضمن توازن السطر الشعري، وتنوع المجزوءات، أو البناء الهرمي كما في صفحة 33، ويدرك قارئ "الجسد" حرفي الشاعر على الاتساق الأسلوبي، وعلى التنويع ....... والمزاوجة بين ....... والصوامت من أجل جرس موسيقى قوي، يتساوق مع قوة الصورة الشعرية، وقوة المعنى أن هذا الثر هو التحقق الوجودي للجسد الكوكب الساطع لأنه ليس شيئا مخفيا ولا ناقصا، بل هو مرادف للملك الواسع، ولعل هذا التدخل بين المعنى الحقيقي والمجازي أو ما يسميه تودروف بالاستثارة الرمزية Evocation Symbolique ما يبرره في هذا العمل الذي يجمع بين المتباعد والمختلف بحثا عن الممكن، من أجل الحقيقة التي وصفها مولاي إدريس "بتاج العمر".

الشاعر يسهب في معرفة الجسد من الداخل عبر الأحاسيس والرؤيا بالمعنى الصوفي ـ والخارج من خلال الموجودات المحيطة به، وكأن الشاعر يؤسس ........ يجعل من الجسد مركز العالم من أجل إبعاد الزائف والسعي إلى ما هو أعمق الملامسة المشاعر العميقة، إنها المحبة الإنسانية التي لا يرتوي الشاعر ..... شرب منها.

إنه يكسر فعل الحجب من أجل الكشف عبر لغة زجلية تجاوزية منفتحة على التأويل وتعدد المعنى.

إنه احتفاء بالجوهر، بالباطن بدل الظاهر السطحي، والشاعر في كشف ........ الجسد كان يتساوق مع التشكيل الجمالي لقصائده وبذكرنا بقوله مولانا جلال الدين الرومي إذ يقول:

"إن الهواء الذي أنفخه في هذا الناي ليس هواء، وكل من ليست له هذه النار فليمت".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى