السبت ١٤ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
بقلم هيثم نافل والي

موت معلن

في ساعة حزن شديد، كالبكاء الأخرس؛ من نهار لم يعرف سوى الهدوء والوجوم... الجو خانق وغارق بالسكون، كالحداد، لا صوت ولا حركة، وحتى الهواء الذي كانَ يدور في المكان... كانَ ثقيلاً ولا يدعو إلى ثمة حياة تنبض، لتبدو شقة سوزان وكأنها مسكونة بالأشباح! رنَّ جرس الهاتف، فقطع الصمت ولوثَ الهدوء وبشكل متواصل؛ الشقة التي لم يكن أحد بداخلها، سوى سوزان السارحة في خيال لا بعد له ولا قرار... وابنها عامر ابن الخمسة أعوام الذي يغطُ في نوم عميق، كالمسحور...

استمرَ جرس الهاتف يقرع نفسه بتواصل مزعج كريه، دونَ أن يحرك طرفا من سوزان التي كانت تحت تأثير عصبي ونفسي عجيب، لم يجعلها تتفاعل معَ ما يحيط بها في تلكَ الأثناء، وكأنها في حلم أو تحت تأثير مخدر قوي المفعول! ظلت جالسة قبالة ابنها وهي تنظر نحو اللا شيء وبلا تحديد وكأنها غائبة عن الوعي...

تزوجت سوزان من مديح (الكاتب المعروف في الأوساط الفنية والأدبية) قبلَ أكثر من عشرينَ عاماً، بعد قصة حب خاطفة وسريعة أربكتها ولم تجعلها تأخذ وقتاً كافياً في التفكير، أو حتى التعرف على ميول وشخص مديح بشكل كامل وصحيح، خاصة عندما انكشفت لذويها علاقتها بمديح عن طريق الصدفة؛ تلكَ العلاقة التي كانت في مهدها، لا تستطيع النطق بعد! عندها مارسَ أهلها دورهم التقليدي المعروف معها وبكل وسائل الضغط العربي: من إهانات وتجريح وشتم وضرب! ويا لها من أيام قضتها سوزان تحت وطأة القهر والتطاول والخذلان؛ فلم تجد من طريقة للخلاص... إلا الانتحار، فأقدمت عليه دونَ أن تطرف لها عين أو يخفق لها قلب؛ ولكن كتبَ لها الحياة، بأعجوبة خارقة كالمعجزة؛ لتتزوج بمديح بعد رحلة عذاب قصيرة، لكنها مرة وقاسية... وها هي الآن معَ ابنها الشقي المحبوب النائم في شقتها الغارقة بالهدوء والسكينة لتبدو وكأنها كهف مهجور؛ وجرس الهاتف مازال يرن، كصوت الرعود في ليلة ماطرة!

تمتعت سوزان منذُ صباها بجمال يهودي خارق، تشع عيناها سحرا غريبا جذابا لا يقاوم، يتموج شعرها ألحني اللون على أكتافها بعدَ أن فشلت كل محاولات ترويضه، فتركته على طبيعته... فتمرد على الأكتاف والظهر ووصلَ حد الخصر! في حين كانَ زوجها يكبرها بثلاث سنوات وهو الآن في أواسط الحلقة الرابعة... شخصية جدية تصدها عن عبث الهازلين، جميل الطلعة، سهل وهادئ الطباع، واثق من نفسه وثوق الأسد من قوته، قليل الكلام، لكنه متحدث جيد عندما يرغب، وله أسلوب خارق في الإقناع، كالنبي، كثير التفكير والتأمل، له قلب طافح بالرأفة والتسامح، وعندما يضحك تبرق أسنانه اللؤلؤية المفعمة بالصحة؛ يتجنب التجمعات كثيراً ويهوى العزلة والهدوء ويفضلهما على كل شيء؛ غلبت على كتاباته سمة الدفاع عن حقوق المرأة، ودافع في أغلب كتابته عن الفقراء ونادَ بالحرية وتمنى أن يختفي الشر عن الأرض ويسود السلام كوكبهم الغارق في الهم والكدر؛ لاقت كتاباته رواجاً كبيراً، وكتبت الصحافة عنه كثيراً، بينما أطرى النقاد بفخر على قلمه... فأصبحَ معَ الوقت من الشخصيات المعروفة التي يجري وراءها المعجبون والمعجبات على حدٍ سواء؛ وصورته تتوسط صدور المجلات والصحف كل يوم؛ ومعَ ذلك، ظلَ مديح وفيا لزوجته، محب لابنه... ولكن ما هي درجات الوفاء والحب في الأعراف؟ ليبقى كل شيء نسبيا، حتى الأهواء والعواطف والميول...

مازال جرس الهاتف يصرخ بعناد، معلناً عن وجوده المهمل في تلكَ اللحظات من ذلك النهار الرهيب الذي تخيم فوقه الكآبة ويسوده السكون المشحون بالقلق والتوجس... وأخيراً صحت سوزان على نفسها وكأنها أفاقت للتو من نوم عميق وطويل؛ فرفعت سماعة الهاتف بلا رغبة وبخمول عجيب استولى على كل جسدها، ثمَ ردت بتريث وبصوت لا يكاد يسمع: منْ هناك؟

 وأخيراً... أجابت هيام( صديقة سوزان الوحيدة والمفضلة لها ) وأردفت مستفسرة بحيرة: لقد قلقت عليك كثيراً، ماذا جرى لك؟ وهل أنتِ على ما يرام؟ أرجوكِ أخبريني... فالحسرة والخوف عليك يعتصران قلبي بألم.

 ردت سوزان عليها باقتضاب: لا تقلقي... أنا بخير!

 لكن صوتك، وتأخرك برفع سماعة الهاتف والرد المقتضب... كلها أمور لا تنم على إنكِ بخير كما تريدين أن توهميني! ثمَ استدركت سائلة: أليسَ كذلك يا صديقتي الحبيبة؟!

 لا... ليسَ كذلك؛ ثمَ صمتت وكأنها ذهبت إلى مكان آخر.

تصرخ هيام بشكل عفوي: سوزان... سوزان، هل أنتِ مازلت على الخط؟

( صمت وهدوء يعلو المكان وجو المكالمة)... ثمَ أجابت سوزان برنة حزينة، وكأنها تتأسف: لا تتعبي نفسك معي يا هيام أكثر، وكما قلت لكِ قبلَ يومين... فقد حزمت أمري... وسوف أنفذ ما قررته، اليوم دونَ تأخير أو تردد! ثمَ تابعت بانفعال متهدج: سوفَ لن أندم ولن أعطي فرصة أصلاً للندم! وعلى ماذا أندم؟ واستدركت بلهجة ذات دلالة وبتحمس جنوني قائلة: سأنفذ كل شيء ببرود لا يعرفه سوى المتمرس في الأجرام! ولا يعهد به إلا من ذوي أصحاب السوابق! وواصلت دونَ وعي: لن نستحق أكثر! لن نستحق... ثمَ أجهشت في البكاء وهي منكمشة على نفسها بذعر مرعب.

سألتها هيفاء بلطف مبالغ فيه... وهي تخفي وراءها رعبا زائفا( شعرت به سوزان فوراً)، بعدَ أن داعبها فجأة أمل غامض: عزيزتي وحبيبة قلبي سوزان كفي عن البكاء وصارحيني... هل تشكين في حسن نواياي وحبي لك؟ أنا لا أريد إلا السعادة لكِ ولعائلتك... صدقيني؛ ثمَ استطردت بشيء من الثقة المثيرة للقلق: لم تجيبي على تساؤلاتي بعد: هل أنت مريضة؟ هل ابنك عامر بخير؟ هل اكتشفتِ بأن مديح يخونكِ مثلاً؟! أرجوك قولي لي ولا تجعليني أبكي بصمت كالخرساء المتألمة...!!

 أنا لستُ بمريضة، أجابتها سوزان بحرص مثير للفزع، ثمَ أردفت بنفور غير متوقع، كمن يمضغ حسرات هزيمة لحقت به للتو، وقالت: عامر بخير وبصحة قد يحسد عليها؛ أما عن مديح فهو يحبني حد الجنون كما أحبه! وتابعت باعتزاز وكبرياء: لا تقلقي يا صديقتي الغالية... فنحنُ جميعاً بخير!

خابَ ضنها وتهاوت قدرة هيفاء على إقناع سوزان بالعدول عن قرارها المجنون ذاك... أو حتى بالتصريح عما تنوي أن تفعله بالضبط؛ فالكثير من أسئلتها بقيت مجهولة الجواب وتنتهي بعلامات استفهام كثيرة( بالنسبة لها) فشعرت بتسرب اليأس إلى قلبها بعدَ أن شَلَّ تفكيرها... لكنها وعت على نفسها فجأة فصرخت دون إرادة وهي تقول مقتضبة وبانفعال صريح: عليك أن تعلمي يا سوزان، بأنكِ سترتكبين حماقة لا تحمد عقباها، ثمَ أردفت بذات الرنة المنذرة: عندها ستتذكرين كلامي وتقولين: يا ليت الذي جرى ما حصل!!

 وماذا يعني لي كل ذلك؟ لا شيء؛ فالتعلق بالحياة رغم آلامها نوعاً من الجبن والتفاهة... وهذا لا أقبله على نفسي؛ ثمَ استطردت بتحد وحزم: فكلمات كالحماقة والعاقبة والذنوب وحتى الموت كلها أسماء لشيء واحد بغيض، اسمه الحياة!

طوقها القلق كخاتم في إصبع وهي تردد: أرجوكِ يا سوزان لا تكفري بالقيم ولا تشكِ بوجود الأخلاق، ثمَ أردفت بعدَ أن سحبت نفساً عميقاً: إذا أردتِ سأحضر لأكونَ بجانبك، ها... ماذا قلتِ؟

 بإصرار جهنمي ردت سوزان عليها: قلت... لا؛ ثمَ تابعت بجمود: سوفَ لن تجدي أحداً يفتح لكِ باباً أو يرد عليكِ جواباً...!! ثمَ استدركت بصدق خالطه الجد والحزم: أسئلتكِ تبعث في نفسي مسرة عمياء وإحساسا وهمي بالانتصار... أتعلمين ذلك؟

 أنتِ عنيدة كالبغل، واعذري لي كلمتي هذه؛ وتختارين الكبرياء ولو كلفك ذلك حياتك، وواصلت بإطراء غريب: وكما يقال: الموت في دعة خير من الحياة في سقم... ثمَ تابعت قائلة: دعكِ مني الآن وفكري بمستقبلك أو في مستقبل أسرتك على أقل تقدير!

 المستقبل...! قالت سوزان هازئة، المستقبل سيكون للآخرين بعدَ قليل ذكرى، كما الماضي؛ ثمَ تابعت قائلة: حرف اللوعة( لو) الذي يطمح دائماً وبحماقة عجيبة لإعادة وخلق كل ما يتمناه المرء دونَ فائدة ترجى كتغيير التاريخ مثلاً، وقد يقطع أو يأتي في موقع يحفز على الكفر لأنه بذلك يخالف إرادة الله المقتدرة الحكيمة... أليسَ كذلك يا صديقتي الحميمة؟ ( جاءَ جوابها قوياً ومؤثراً، كالصفعة).

وخزَ قول سوزان هيفاء، كطعنة في العين، فانتابها قلق شيطاني حجبته عن الظهور بصعوبة بالغة... لكنها شعرت في ذات الوقت بحجم المأساة وخطورة الموقف، فقالت بهدوء سترت فيه يأسها وقلقها وهي تسمع تلكَ الكلمات التي ليسَ لها إلا معنى واحد...! فصاحت بذهول حقيقي: يا إلهي لا أستطيع أن أصدق ما سيحدث...!! ثمَ انقطعَ الخط فجأة، وسادَ الأثير صمتاً قاتلاً لا يبعث إلى الراحة ولا ينتمي إلى الهدوء أو السكينة؛ صمت مريض جنائزي له رائحة ووجه الموت وهيبة وجبروت الدمار؛ صمت رهيب مخجل، كشعور المرء أحياناً بخزيه أو ذنبه أو إثمه...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى