الثلاثاء ١٧ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
بقلم زهير الخراز

حصان من قصب

...حينما رأيته لأول وهلة حسبته شخصا غريبا يحل بمنزلنا.. كان أسمر اللون ونحيفا، لا هو بالطويل ولا هو بالقصير، وكان وهنا، وشبابه يوشك على الرحيل، وعندما اقتربت منه أكثر، لاحظت تعبا كبيرا يحفر أخاديده على وجهه الأسمر، وحينما غرست عيني بعينيه الحزينتين، استشعرت قيظا يذوب من لهبه الجليد، فتهيأ لي أن الشمس تستوطن ملامحه وقفاه..وكانت جاذبية دمه تغريني باحتضانه، ولما صافحني وضمني إليه ، اصطدمت بجدار صلب، أما راحتاه فقد كانت تتوغلهما شقوق كثيفة وعميقة.

كان صامتا أما صدره فقد كان نابضا وصاخبا، وكدت لا أعرفه لو لم يهمس إلي بنبرات أتذكرها جيدا :

كيف هي أحوال فارسنا الصغير ؟! .. أتدري لقد صرت رجلا!!!

كانت أقصى أحلامي أن أرى شقيقي هذا بعد قطيعة عمرها عشرون خريفا، لكن ما أن تتحقق أمنيتي في لحظات حتى كدت استنكرها وأصرخ في وجهه قائلا:

" لا !!أخي كان جميلا ورشيقا مثل جواد أصيل .."

أحسست ان شيئا ما ينقص هذا الأسمر العائد من أرض بعيدة، فبحثت عن حقيبة يحملها معه، لكنني لم أعثر سوى على يدين يدسهما في جيوب سترته وكأنه عائد من زقاق قريب، أظنه حينما رحل أخذ معه حقيبة.

حدث ذلك في أمس بعيد وبعيد جدا.
كان يقف قبالتي .. يداه تمتدان، تمسكان بكتفي بقوة فقلت له:

أتذكر حينما رحلت؟؟!

نعم .. كنت أنت يومها طفلا صغيرا!..

كنت تحمل معك حقيبة جميلة !..

أما أنت فكنت تلهو على حصان من قصب ..

يومها كان الوقت قيلولة، والشمس تغري أهل الزقاق بملازمة الظل، هربا من قيظ شهر آب، فلبثت وحيدا ألهو مع حصاني القصبي .. كان حصانا قويا، لكنه يجفل عند الصمت، وكان يثير زوبعة كبيرة بحوافره المطاطية، إلا أنه لم يكن ليجيد الصهيل، لذا كنت أصهل نيابة عنه، فأذرع الزقاق جيئة وذهابا.. أثير الغبار، وأصدح بالصهيل وأحيانا أخرى بالنهيق.

كنت فارسا شجاعا .. (همس أخي ضاحكا):

لكن فروسيتي لم تكن لتقيني من مضايقة "سنيورا" "خوليا" وشقيقتها "ماريا" وأنت تذكر هذا جيدا ...

بالمناسبة .. أمازالتا على قيد الحياة؟!

لا .. إنهما تنعمان بنوم هادئ .. هناك على التل المطل على البحر.

"خوليا" و "ماريا" تعدان من تركة المستعمر الإسباني، المنسحب من البلدة منذ زمن بعيد .. ارتحل عنا بثقله أي نعم، لكنه خلف وراءه شذرات من نسل لم يعرف له وطنا سوى هذا البلد المسالم والجميل.

كانت خوليا طويلة جدا .. وسمينة جدا، وبيضاء مثل الثلج .. وشعرها شلال بلون الخمر.. بطيئة .. وكانت تنتابها من حين لآخر نوبات من لإغماء .. وحينما كان جدي يحكي لنا حكايات مشوقة عن الغولة أو الدببة، كنت أستحضر السيدة خوليا في مخيلتي كمرجع ممتاز لأوصاف تلك الكائنات – الأسطورة –

أما شقيقتها "ماريا" فهي على النقيض من ذلك، فقد كانت صغيرة الحجم ونحيفة، ذات بشرة زرقاء وملامح دقيقة، وشعر خفيف وأجعد.. وكانت سريعة الحركة وتميل إلى الثرثرة .. ماكرة وشريرة مثل أنثى ثعلب مسعور..

وكانتا لونين لايتجانسان، متنافرتين دائما، وحينما لقبتاني بالحمار الأرعن، لم أستغرب من ذلك، مثلما استغربت من تلك البطن المسيحية، التي قذفت في زقاقنا كتلتين متناقضتين وغريبتين.
كانتا دائمتي الخصومة، ولم تستقرا يوما على رأي، مثلما استقرا رأيهما علي، فلا يكاد حصاني ينط بمحاذاة باب منزلهما النحاسي، حتى تصعقني صاعقتان، تنقضان على أذني انقضاضا جائرا .. خوليا تشدني من أذني اليمنى، وماريا تشد من الأذن اليسرى، ثم تبدأن في ليهما وكأنهما تعتصران قماشا مبللا!.

ولم أكن أفلت من مخالبهما إلا بمشقة الأنفس، طبعا بعد أن أستعمل أسناني أولا، وأرفع عقيرتي بالصراخ ثانيا.

كانتا متعجرفتين ومضجرتين، لكن ما أن يقع بصرهما على والدي حتى
تنكمشا وتضمحلا وتصيران في حجم ذبابة أو أقل!!! (أسررت لشقيقي، وخلته قد ضاق ذرعا بالسكون).

رحمة الله عليك يا أبي ! كم كنت أتوق لرؤيته قبل أن يغادر أحدنا هذه

الحياة!!!

لقد كان دائم الحديث عنك، وحينما يلتقي بشخص ما ويسأله عنك، كان
يخبره قائلا : إنه بخير وسوف يقدم هذا العام، لقد ذكر ذلك في رسالته الأخيرة ...

ولم تكن هناك رسائل ولا هم يحزنون.. كان يختلق ذلك اختلاقا، كي تبقى كما كنت في أعين الناس، شهما ، طيبا، ورؤوفا بوالديك..

ورسائلك برمتها لم تبلغ عدد الأصابع العشرة!.

ولا أدري إن كان خبر الوفاة هو الحافز الذي دفعك إلى المجيء!؟ حقا لا أدري؟!؟
أتذكر حينما ارتطمت بي وأنا أغادر الزقاق ؟؟؟

حسنا .. حسنا.. لازلت كما كنت، لاتحب الخوض في حديث لاتحبه!

أظنك يومها كنت تفر من "سنيورا" "خوليا" وشقيقتها "ماريا"؟

نعم !نعم! .. حينها شعرت بساعد قوية تحملني من فوق الأرض، ففزعت،وحينما انتبهت، وجدتك أنت!

يومها ضمني إليه بعنف، وأمطرني بقبلات غزيرة، فأحسست ببلل لعابه يغسل وجهي، ثم بدأ يداعبني بنظراته كعادته، كانت عيناه تبرقان شيئا غريبا وكأنه الفرح، وكان الفرح قليلا ما يسكن ذلك الأسمر القوي، فقلت له مخمنا:" أراك فرحا، لابد أن أبي قد نفحك بعض النقود ؟!.

لكنه لزم صمته مكتفيا بابتسامة صغيرة، ثم حرك رأسه بالنفي ! فقلت صاخبا وكأنني عثرت على سر فرحه: " أنت مسافر.. أنت مسافر.. " وحينما عاودت النظر في عينيه مجددا تهيأ لي في لحظات أن خياله قد سبقه إلى هناك، إلى عالم لا أعرف موقعه بالتحديد، كان منتشيا من السعادة، وبدا لي وهو يحملق في الفراغ وكأنه يغازل في صمت امرأة من سراب، لكنه بعد ثوان، همس في أذني فشعرت بدغدغة خفيفة تسري من رأسي إلى قدمي: " إنني مسافر إلى أرض بعيدة .. إلى إسبانيا.." و كان لا يريد لأحد من أهل الزقاق أن يطلع على سر سفره سواي.

نظرت إليه، ثم نظرت إلى الحقيبة، وتنصل الحصان القصبي من بين يدي، وقفز جافلا، يثير الغبار.. يصهل .. ينهق.. يستفز صمت الزقاق.. ويرفس أحلام " النصرانيات" النائمات في عز القيظ.

يومها امتطيت إسبانيا ورجوتك كثيرا ان تأخدني معك إلى هناك..

آه منك! كنت عنيدا، وبدأت تبكي بشكل محزن .. وكان علي أن أتنصل من
إلحاحك الصبياني..

نعم، لقد وعدتني آنذاك بحصان آلي تبعثه إلي من هناك، فقبلت على الفور، وصهلت فرحا: نعم أريد حصانا، أريد حصانا يجيد الصهيل ..

كم كان يعز علي أن أراك تذرف الدموع لحظة وداعك!!؟؟

لقد قبلتني وأنت تنزلني إلى الأرض، وربت بيدك على رأسي وانصرفت..

لحظتها تأملتك مليا وأنت تطرق أرض الزقاق بكعب حذائك الجلدي وأنت تغيب عن بصري . كان كعبا متينا وعاليا وقد كاد أن يحدث تصدعا على وجه الأرض.. وكانت يدك اليمنى تطبق بإحكام على حقيبة بنية جميلة، أتدري ؟؟! لقد تمنيت يومها لو أنني كنت من محتويات تلك الحقيبة،وكدت أيضا أن أتراجع عن كلامي، وأفضل السفر بدل الحصان.. لكنك فجأة.. رحلت..!

وما أظنه رحل حتى نحت في مخيلتي حصانا أبيضا رشيقا، يصهل في عمق الليل، ولشهور عديدة، يركض بي بعيدا.. بعيدا .. يجتاز بي حدودا كثيرة ، وسياجا منيعة، وما كنت أستطيع ردعه، وما كان يستطيع الوقوف، فأنهض من نومي فزعا، أنفض عني النعاس، وأقرفص أمام النافدة المطلة على ظلام لا ينتهي.. أنتظر الصباح.. و أنتظر قدوم الحصان.

وحينما وصل الطرد البريدي في ذلك الصباح، كان الزقاق يعج بعشرات من الصبيان يمتطون جيادا من قصب، ويلوحون بسيوف من خشب أما " ماريا " فكانت طريحة الفراش و إلى جانبها شقيقتها تنوح نواح القططة ...

وما كان الطرد سوى صندوق صغير من الورق المقوى.. وما كان بداخل الصندوق سوى ثور من صلصال، أسود، مقرف، ومخيف، وما كان الثور إلا في حجم فأر كبير.. وكانت هناك ورقة صغيرة وردية اللون ألصقت على ظهره الأسود، قد نثرت عليها حروف متنافرة : "... عليك أن تصبح صديقا لهذا الثور ..عليك أن تحبه .. إنه يحظى بشعبية كبيرة لدى الإسبان .. إنس الحصان، إنه مخلوق ينهزم أمام الثور بسهولة ..." (أخوك الأكبر) .

كان يقف قبالتي، يداه ممدودتان، تمسكان بكتفي بقوة، وحينما همس إلي هذه المرة حسبته يتكلم من وراء جدار زجاجي:

أتعلم؟ لقد كبرت، وصرت رجلا!!

قلت في شرود:

كنت تملك حقيبة بنية جميلة، وكانت تحمل على ظهرها رسما مطرزا لصقر يحلق فوق قمم الجبال..

أتدري؟.. إنني أحسدك كثيرا على ذاكرتك القوية!!!

أتحسدني على ذاكرة لاتختزن إلا أحداث حزينة!؟؟!

وانسحبت يداه من كتفي بهدوء، ثم ارتطمتا بفخذيه فأحدثتا صوتا خافتا، كما تحدثه أوراق أشجار يابسة وهي تستقبل الأرض.ثم قال وعيناه أبدا لا تطرفان:

أتود أن تعلم ما كان مصير تلك الحقيبة؟

وما عسى أن يكون مصيرها؟أظنها هرمت وتمزقت،وأرسلت إلى مستودع
للأزبال..

ليتها كانت كذلك!

؟!؟!

لا تستغرب .. سأوضح لك .. حينما وصلت إلى إسبانيا، لبثت أياما عديدة

أبحث عن العمل وكان مقدار المال الذي بحوزتي قد نفد .. وتراكمت علي بعض الديون ..

وطبعا بعت الحقيبة كي تتمكن من تسديد الديون!

تريث قليلا، لا تستبق الأحداث، فالحقيبة أخذها مني صاحب الفندق كثمن للأيام القليلة التي قصيتها بفندقه الحقير.

أو كنت تجهل أن الرسم الذي على ظهر الحقيبة هو من " تطريز" جدتك ؟!

فيومئ برأسه إيماءة صغيرة، ويجهض ابتسامة صغيرة كانت تود أن تطفو على ثغره المقفل بإحكام، ويبتلعه الصمت من جديد، ثم يطوف بغرف المنزل، يتأمل الجدران والصور، يتشمم الأثاث، يتلمس بيده الحصير والبساط، كان حديثه هذه المرة حديث ود صامت مع دخان السجائر، قلت له مستغربا:

أمازلت مدمنا على السجائر؟!

لكنه ظل صامتا يتنزه في تقاطيع وجهي بعينين جامدتين، ينفث فقاقيع دخانية كبيرة من بين شدقيه، يتأملها وهي تتصاعد وتتلاشى في الفضاء، هكذا عرفته وأنا طفل صغير، فحينما يثقل صدره كرب ما، يلوذ بصمته الغريب، ثم يهيم في دخان السجائر.

لكنني شعرت في هذه اللحظات، أنه يود أن يفصح عما بداخله على غير عادة منه، فقال مشيرا إلى سجارته:

كانت هذه اللفافة خير أنيس لي في غربتي ...

ثم تنهد بعمق، وتهالك على الكنبة، فبدا لي وكأنه محارب أحيل على معاشه مبكرا بعد أن استنفدت الحرب كل قواه .. كانت عيناه تنفذان عبر جدار رأسي، فتستقران حيث حررت تساؤلات وتصورات مضطربة، فترتسم على محياه ابتسامة مبتورة، ويلوح إلي براحتيه المشقوقتين:

لقد أضعت نصف عمري بأوربا أعبد الطرقات بيدي هاتين، وها أنا ذا

أعود من هناك مطرودا ومهزوما، لا أحمل معي حتى جواربي ...

قلت محاولا أن أطرد عنه خيبة أمله في الحياة وبعد أن أجهضت تساؤلا كبيرا يدور في خلدي:
لا تحزن، لا تكثرت لذلك، فمازلت شابا، والفرص هنا كثيرة، وبإمكانك أن تبدأ من جديد.

كانت عباراتي حماسية إلى حد ما، لكنها لم تحرك فيه ساكنا .. كان لا يزال يتأمل راحتيه بتركيز تام، وكأنه قارئ كف، اكتشف مصيره أخيرا، عبر خطوط كفه القصيرة، فهمس إلي وكأنما يكلم نفسه:

أشعر بالنعاس، أريد أن أنام.

حسنا . أنت متعب من السفر، ويجب أن ترتاح.

أخبرني ! أمازلت محتفظا بالثور الأسود؟!

نعم،نعم! إنتظر سوف أحضره في الحال.

فمرقت إلى غرفتي مثل سهم طائش، كانت بوابة غرفتي سافرة بلاباب ولا ستار، وكان لابد من حاجز ليلجم سرعتي، فكان الجدار، فالتصقت به، ثم انتشلته من جحره، كان قرناه لازالا متأهبين للبطش، وبعد أن أزلت طبقة كثيفة من الغبار من على جسده، شبكت عليه أصابعي بإحكام، مخافة أن يسقط مني، ثم عدت بأدراجي حيث يستلقي أخي، فقلت له مازحا:

تفضل .. هاهو ذا ثورك المقرف .. أرى أنه لا يمكن للخوار أن يحل مكان صهيل جواد عربي.

وأعدت على مسامعه عباراتي الأخيرة مرات عديدة، لكنه لم يعرني انتباها، ظل صامتا، عيناه مغمضتان وساكنتان، وكأنني به لم يذق طعم النوم منذ سنين بعيدة، وحينما لمست جبينه بأناملي المرتعشة، أحسسته باردا، فسرت في جسدي رعشة كبيرة، سقطت على إثرها الكثلة المتحجرة إلى الأرض، فأحدثت ضجيجا غريبا وكأنه خوار، فتحول الثور إلى قطع صغيرة متفاوتة الأحجام، منثورة هنا وهناك، ولما انحنيت إلى الأرض كي أجمع الحطام، اكتشفت أن رأسه لازال سليما، ماعدا خدش بسيط بقرنه الأيمن، وكانت عيناه تنظران إلي بزجر وحشي مريب، ثم تهيأ لي في لحظات أن كل ذرة من ذرات هذه الغرفة تنعكس في عينيه بلون أحمر قاتم.

ومن مكان لم أستطع تحديد موقعه بالضبط، تناهى إلى سمعي صهيل بدأ يحتد رويدا رويدا، أظنه لحصان جامح يحاول الفكاك من قيود أرهقت جسده سنين طويلة.

بالمطبخ وأنا أقذف بالقطع الصلصالية المتفاوتة الأحجام في سلة المهملات، وجدتني أعدها واحدة واحدة بدون وعي مني ، وعند اخر قطعة كان الرقم قد ناهز " 500 ".. وكانت القطعة عبارة عن رأس بقرنين.. وكان العد قد وصل منتهاه..

في غرفتي وأنا مستلق على قفاي.. تذكرت!!!

تذكرت أنني لم أخبر أخي قبل رحيله عن مصير حصاني القصبي، نسيت أن أبلغه أن حصاني قد تحول إلى مكنسة نتنة على يد "حمادي" عميل المستعمر الإسباني – سابقا -...
لكنه كان قد رحل عنا هذه المرة ولن يعود .. هكذا خمنت وأنا مستلق على ظهري بغرفتي..
لن يعود!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى