الجمعة ٢٠ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
بقلم خالد حربي

الجوانيـــة فلسفة إسلامية توقظ أمة

الجوانية فلسفة أبدعها فيلسوف مصرى عربى معاصر، هو عثمان أمين، ولد عام 1908، وتوفى عام 1978، وما بين الميلاد والوفاة حياة علمية مليئة بالبحث الشغوف، والدرس الدؤوب، والتأليف الماتع، والإبداع الأصيل.

قدم عثمان أمين للفكر العربى المعاصر إنتاجاً فكرياً غزيراً شمل معظم مراحل الفكر الفلسفى المتعارف عليها: اليونانية – الإسلامية (الوسطى) – الحديثة، فضلاً عن مرحلة مبكرة تخرج دائماً من هذا التصنيف الفكرى الفلسفى العالمى، وهى مرحلة الحضارة المصرية القديمة، تلك التى أبدع عثمان أمين فى بيان فضلها على الحضارات الأخرى.

ومنذ أن تناول عثمان أمين موضوعات تلك المراحل بالدرس والتأليف كان يدور فى خلده البحث عن فلسفة جديدة فلسفة توقظ أمة على حد قوله. والسؤال الأول الذى كان يشغله كثيراً ويؤرقه أحياناً هو: ألا توجد فلسفة حياة تجاوز الحدود الضيقة، حدود المذاهب المغلقة التى تدرّس فى الكتب والجامعات فيمتد أثرها إلى الشعب وإلى الجماهير ؟ وبعبارة أخرى: ألا توجد فلسفة تضع لنا مبادئ عاملة لتربية جدية فتوقظ الشعور الوطنى فى أبناء الأمة، وتجعلهم يأبون حياة الضيم والمذلة، ويحققون حياة الحرية والكرامة ؟.

وفى سبيل الاهتداء إلى إجابات على هذه التساؤلات أمتد فكر عثمان أمين عبر تاريخ الفكر الفلسفى لينتهى قائلاً:

المحاولات الفلسفية التى أقدمها اليوم إلى الجمهور الفلسفى فى بلاد الشرق العربى قد تناولت موضوعات مختلفة، ومثلت اتجاهات متنوعة، وامتدت إلى فترات متباعدة. ولكنى أستطيع أن أقول إنها جميعاً، على الرغم ما بينها من تفاوت ظاهر، قد ألف بينها إحساس واحد وإلهام واحد وغرض واحد: الابتهاج بطلب المعرفة والسعى إلى سبيل الحق، والاتجاه إلى قيم الروح. إنها إذن "الجوانية".

فما الجوانية ؟ وما مفهومها ؟ يجيب عثمان أمين بأنها عندى "فلسفة" وخير من هذا "طريقة فى التفلسف"، ولا أقول إنها "مذهب " لأن المذهب شأنه أن يكون مغلقاً قد رُسمت حدوده مرة واحدة، وحُبست تأملاته فى نطاق معين، بل هى تفلسف مفتوح على النفس وعلى الدنيا متعرض لنفحات السماء فى كل لحظة، وطريق مبسوط أمام الوعى ينتظر "السالكين" إلى يوم الدين.

فالجوانية إذن فلسفة تحاول أن ترى الأشخاص والأشياء رؤية روحية، بمعنى أن تنظر إلى "المخبر" ولا تقف عند "المظهر"، وأن تلتمس "الباطن" دون أن تقنع "بالظاهر" وأن تبحث عن "الداخل" بعد ملاحظة "الخارج"، وأن تلتفت دائماً إلى "المعنى" وإلى "الكيف" وإلى "القيمة" وإلى "الماهية" وإلى "الروح" من وراء "اللفظ" و"الكم" و "المشاهدة" و "العرض" و "العيان".

والطريق إلى ذلك كما يرى عثمان أمين هى تقديم "الذات" على "الموضوع"، والفكر على الوجود، والإنسان على الأشياء، و "الرؤية" على "المعاينة", والتمييز بين الداخل والخارج وبين الكيف والكم وبين بصر العقل وبصر العين. وذلك ما عبر عنه الإمام على – رضى الله عنه - فى قوله "ليست الرؤية كالمعاينة مع الإبصار: فقد تكذّب العيون أهلها، ولا يغش العقل من اسنتصحه". وقد شرح الإمام محمد عبده هذه العبارة فى تعليقه على "نهج البلاغة" فقال: " الرؤية: إعمال العقل فى طلب الصواب، وهى أهدى إليه من المعاينة بالبصر, فالبصر قد يكذّب صاحبه فيريه العظيم البعيد صغيراً، وقد يريه المستقيم معوجاً كما فى الماء. أما العقل فلا يغش من طلب نصيحته, وليس العلن قاصراً على شهود المحسوس.

يتضح من ذلك أن الجوانية عند عثمان أمين هى طريقة روحية تحاول سبر أغوار الباطن، وعدم الاكتفاء بالوقوف عند الظاهر، وألا تقف عند حدود الكم والمشاهدة والعرض والعيان بل تنطلق من هذه المعانى الظاهرة إلى المعنى والكيف والقيمة والماهية، أو بالأحرى إلى الروح. وهنا يأتى السؤال: ماذا تطلب الجوانية ؟.

يجيب عثمان أمين بأن: الجوانية إذ تطلب الحقيقة فيما وراء الواقع لا تزعم لنفسها القدرة أو الرغبة فى امتلاكها، لأن الحقيقة متى امتلكناها أو خيل إلينا أننا امتلكناها، فقدت مشروعيتها فى أن تكون حقيقة، أى أن تكون هذه القوة الروحية التى تستحث الإنسان على الابتكار المتجدد الواعى والسعى الموصول إلى ما ينبغى أن يكون.

على أن الحقيقة إذا تحددت بحدود برانية أصبحت بذلك "واقعة" وجاز لها أن تكون "موقفاً" متجمداً فى سلسلة من الواقعات يحتاج إلى من يدافع عنه وينتصر له. و الحقيقة لا تفتقر إلى دفاع من الخارج: إن آيتها وبرهانها كامنان فيها، وإنها "فكرة" تقوم فى لب الوجود الواقع، وهى أشبه بأن تكون واقعة مثالية, ومتى لاحت للمرء على هذا النحو استطاع أن يستشف من ثنايا واقعه المثالى هذا غاية أخرى أو مثلاً أعلى جديداً يصبح –بدوره- مناطاً لسعى الإنسان الجوانى.

لكن إذا حاول الإنسان السعى نحو هذا المسعى الجوانى الذى يدعو إليه عثمان أمين، أفلا يوجد نوع من المعرفة أو نوع من الأدوات يساعد الإنسان فى مسعاه هذا ؟

يجيب عثمان أمين بأن: حياتنا الجوانية كالسيمفونية الموسيقية، فكما أن الإنسان لا يستطيع أن يفهم سيمفونية من مجرد الحديث عنها، بل يلزم أن يتعاطف معها، فكذلك لا نستطيع أن نسبر أغوار الحياة الجوانية, مهما استعنا بالأدوات العلمية، إلا بأن نحياها بأنفسنا وأن نتحمل مسئولية معاناتها: فكما أن أحداً لا يستطيع أن يموت لنا فإن أحداً لا يستطيع أن يحيا أو أن يفكر لنا كما يقول هيدجر، وهذا التعاطف العقلى أو الجهد "الجوانى" هو عندنا ضرورى لكل بحث قويم ولكل ثقافة عميقة ولكل مسعى صادق، وبدونه يمتنع على الباحث أياً كانت قدرته أن ينفذ إلى الشخصية التى يريد أن يتعرض إليها أو أن يفهم الموضوع الذى يريد أن يعالجه فهماً كاملاً.

فالجوانية فلسفة تستند على تزكية الوعى الإنسانى وممارسة الحرية النفسية، وتسعى إلى تعميق فهمنا للمقاصد والمعانى والقيم. وهى بهذا الاعتبار تمارس الوظيفة الفلسفية على الأصالة: التماس اللب والمبدأ والكيف والحق. إنها لا تقيس حياة الإنسان الفكرية والمعاملة بالمقاييس البرانية، مقاييس الكم التى تقاس بها المادة، كما أنها لا تقنع بمناهج التحليل والحساب والإحصاء: إن هذه إن يسّرت لنا أن نقف على الكم والمقدار، فإنها تعوقنا دون ريب على استكناه الفكر وسبر أغوار الكيف.

وينظر عثمان أمين إلى الفلاسفة الروحيين كهداة حقيقيين للإنسانية يدعوننا دائماً إلى الاعتقاد بأن للكون إلهاً لا متناهياً واسع العلم والقدرة والرحمة، وأن العالم لا يتحرك مصادفة واعتباطاً بل يسير كل شيئ فيه إلى أحسن مما كان، ولا يمكن أن تكون خاتمة الدراما الإنسانية إلا استكمال السعادة مع تحقيق السلام. وبهذه النظريات المشرقة المتفائلة يمسح الفلاسفة على جراح نفوسنا، ويهدئون من ثائرة خواطرنا وكأنهم يدعوننا إلى أن نمد البصر إلى السماء ذات النجوم فهنالك فوق ظلام القهر والشر والمادة تتلألأ معانى الحرية والحق والكمال، وتلك المعانى هى النجوم اللوامع التى تضيئ للإنسانية حياتها.

وبالبحث عن الأسس والمبادئ التى قامت عليها الجوانية فى كتابات عثمان أمين نراه يؤصّل معنى الجوانية فى الفكر الإسلامى وابتدأ بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فالصورة التى يرسمها القرآن والحديث لحياة الإنسان على الأرض صورة دقيقة رائعة، صورة مثالية وواقعية معاً. إنها صورة حياة ملؤها الجهود الموصولة للإصلاح الداخلى، أى: الإصلاح الروحى، والإصلاح الخارجى أى الإصلاح المادى. وقوامها العمل لتزكية وعى الإنسان لذاته وصلاته بغيره وتحقيق رسالته على الأرض. وإصلاح النفس معناه: إصلاح العقيدة, والتغيير الجوانى أصعب جداً من التغيير البرّانى، لأن الأول منصب على تغيير الأخلاق والعقليات، فى حين أن الثانى ينصب على تغيير المراسم والأشكال والنظم الخارجية، اجتماعية كانت أو سياسية أو اقتصادية.

والقرآن الكريم حافل بالآيات البينات المعبرة عن هذا النظر الجوانى النافذ إلى جوهر الأشياء والأشخاص، والفرق الدقيق بين وجهين متعارضين فى الفهم والسلوك: نراه يتحدث عن المعانى الأساسية فى العقيدة الإسلامية، فينبغى على بعض المسلمين الاهتمام ببرانيتهم المتمثلة فى وقوفهم فى الفهم عند الأعراض الخارجية والمشاهد المحسوسة، ومن ثم ظهورهم بمظاهر الإيمان والبر والتقوى وأداء الفرائض، وينبههم إلى أن هداية الدين القويم لا تتحقق إلا باستشعار معانيه الصحيحة العميقة. فقوله تعالى  لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ..  (البقرة 177) وقوله سبحانه:  قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى (البقرة263) يفيد إنكار الفهم البرانى للبر والصدقة، وتأكيد معناها الجوانى الأصيل. وقس على ذلك قوله جلّ وعلى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ (الحجرات 14) ، وقوله تبارك وتعالى:  لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ (الحج 37).

إن آيات القرآن الكريم ظهرت لتخاطب قوم الرسول  بلسانهم، وهو لسان عربى مبين، قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (الزمر 28) . وهذا يقتضى أن يخاطبهم الرسول  بلسانهم، أى بالأسلوب العربى الذى يفهمونه. وتتركز أساليب المعرفة فى صنفين، الأول: وهو الأسلوب الغيبى بمستوياته من الوحى والإلهام وهذا ما يمكن أن نطلق عليه الأسلوب الجوانى. والأسلوب الآخر هو الأسلوب الفعلى بمختلف مستوياته من البصر والنظر والتفكير والعقل، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه الأسلوب البرانى.
وقد عبر النبى العربى  عن هذا المعنى العميق فى كثير من أحاديثه فقال: " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم "(صحيح مسلم كتاب اللباس)، فالتقابل هنا واضح صريح بين المظهر والمخبر، وبين العرض والجوهر. وقوله : " كم من قائم حظه من صلاته التعب والنصب "، وقوله: " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة إلى أن يدع طعامه وشرابه"(صحيح البخارى كتاب اللباس)، وقوله: " الصوم جنة" إنما يفيد أن الصلاة على حقيقتها خليقة أن تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغى، وأن الصوم الصحيح هو الإمساك عن إيذاء الناس بالقول أو الفعل.

هذا فضلاً عن الحديث المنسوب إلى النبى ، والذى أشار لفظاً إلى الجوانية حيث روى عن الحارس الهمدانى، عن أمير المؤمنين على رضى الله عنه قال: قال لى رسول الله : يا على، ما من عبد إلا وله جوانى وبرانى بمعنى سريرة وعلانية فمن أصلح جوانيه أصلح الله برانيه ومن أفسد جوانيه أفسد الله برانيه. وما من أحد إلا وله صيت فى أهل السماء فإذا أحسن وضع الله له ذلك فى الأرض وإذا ساء صيته فى السماء وضع له ذلك فى الأرض " .

وواضح أن معنى الكلمتين فى الحديث المروى عن الإمام على يدل على معنى الباطن والظاهر والداخل والخارج والمستتر والمعلن فى حياة كل إنسان.

ومن روائع التمثيل للنظر الجوانى قول النبى – عليه الصلاة والسلام- فى استبعاد الفهم البرانى لمعنى الحرية الإنسانية، والتنبيه إلى ضرورة تقييدها إذا كان فى إطلاقها توقع الإضرار بالغير: "إن قوما ركبوا فى سفينة فاقتسموا فصار لكل منهم موضع فنقر أحدهم موضعه بفأسه فقالوا له: ما تصنع قال: هو مكانى أصنع فيه ما شئت، فإن أخذوا على يده نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا".

ويؤكد عثمان أمين على أن المثل الأعلى للأخلاق الإسلامية هو فى آخر الأمر الإرادة الجازمة التى تقتضى مجاهدة النفس والسيطرة عليها وقمع شهواتها، قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى(النازعات 40-41) .


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى