السبت ٢٨ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
قراءة في لغة الشعر
بقلم صالح الشاعر

سياق الكلمة وحركة القافية

للكلمة في الشعر منزلة مميزة ومختلفة عن الكلمة النثرية، فالكلمات في النثر ليست سوى مكونات موظفة لخدمة المعنى وتوصيل الفكرة فحسب، أما في الشعر فهي ـ أو يفترض أن تكون ـ مقصودة لذاتها بالمقام الأول، ثم موصلة للمعاني والأفكار، ثم ملمح من ملامح الصورة الشعرية.

ورغم هذه المكانة المميزة للكلمة فإنها تصبح لا شيء حين تعزل عن سياقها، فقيمتها مرهونة بموضعها من السياق.

وهناك كلمات من السهل جدًّا أن تُلاحَظ القيمة العظيمة التي يضيفها السياق إليها؛ وذلك لأنها ـ ببساطة ـ كلمات غير شعرية، والسياق وحده يسمح لها بالذوبان في بوتقة البيت وتكوين السبيكة الشعرية.

خذ مثلاً كلمة (الطين)، فهي في سياق زجل أو شعر شعبي مقبولة جدًّا، وقد تكون جزءًا من ملحمة شعرية زجلية، لما توحيه في سياق اللهجة العامية من معاني وطن الفلاح المصري، وما دلَّ عليه استعمالها بعد التطور الدلالي في معنى ما يمتلكه ذلك الفلاح من الأرض الزراعية وهي ثروته المفضلة، أما في نطاق شعر فصيح فمن الصعب أن تُقبًل كمكون لسياق شعري، فحين قال ناظم:

طينٌ على ظهر البسيطة أرحبُ

ظهر عوارها، وبدت ثقيلة جدًّا على مطلع القصيدة وصادمة لدى المتلقي؛ لأنها مقذوفة كالجلمد ـ أول القصيدة طين! ـ بلا سياق يمنحها رتبةً وقبولاً، أمَّا حين ظهرت في مقام فلسفي إنساني بحت في قول إيليا أبي ماضي:

نسي الطين ساعةً أنه طينٌ حقيرٌ فصال تيها وعربدْ
وكسا الخز جسمه فتباهى وحوى المالَ كيسُهُ فتمرَّدْ
بدت مقبولة ومفهومة ومنطقية جدًّا.
وحتَّى في مقام فلسفي عاطفي كالذي في قول نزار قباني:
حـاولتُ أن أعطـيك من نفسـي ومن نـور اليقين
فسخرتِ من جهدي ومن ضربات مطرقتي الحنون
وبقـيـتِ ـ رغم أنامـلي ـ طـينًا تراكـم فوق طـين

رغم تكرارها مرتين إلا أن البُعد الفلسفي العميق الذي أبرز الفرق بين نور اليقين والطين أعطاها إذنًا بالقبول لدى السامع أو القارئ من غير أي استهجان أو استغراب.

وإذا كانت الكلمات والحروف ذات معنى وقيمة في البناء الشعري فإن الحركات لا تقلُّ قيمتها عن قيمة الكلمة، وأعتقد أن حركة القافية لها دور في نجاح القصيدة إذا ما كانت متصلة بموضوعها ولو على سبيل العموم، فلا أحد ينكر أن القوافي المطلقة بالألف توحي بالبهجة والسعادة والسرور، وقد نرى من خلالها صورة شخص مستغرق في الضحك، فاتحًا فمه كمنشد القافية المطلقة.

ولهذا السبب أجد الجواهري غير موفق في اختيار حركة القافية المفتوحة حين قال في رثاء عبد الناصر:

أكبرتُ يومَك أن يـكون رثاءَ
الـخالدون عـهدتُهم أحـياءَ

وقارن بين هذا المطلع ومطلع أحمد شوقي في رثاء حافظ إبراهيم:

كم كنتُ أوثر أن تقول رثائي
يا منصف الموتى من الأحياء

تجد حركة القافية المكسورة لدى شوقي أكثر اتصالا بمقام الحزن والرثاء، مع كون الكلمات واحدة في المطلعين!

فالكسر اللفظي دليل على الكسر النفسي، والانفتاح الذي توحي به الفتحة لايتناسب مع الحزن مطلقا، والسكون كبت وكتمان يختلفان عن الحركة المقترنة بالبوح والتحرر.

انظر إلى القافية المقيدة ـ الساكنة ـ في هذه القصيدة للشاعر حسن كامل الصيرفي:

يا أغاني الرَّبـيـع إنْ جـاء شـاكٍ
مـن رِيـاءِ الوَرى هـنا يتظلَّمْ
هـل يُـلــقَّـى عـزاءَه ويُــسـلَّـى
أم تـزيدُ الآلام فيه وتـعـظُـمْ
ما أظـنُّ الـحزينَ يُـطربُه الـشَّـدْ
وُ ونـارُ الأحـزانِ فيه تـضـرَّمْ
جاءكِ اليوم هاتفُُ الأمسِ يشكو
نَفَـسًـا حائرًا وقلبًا مُـحـطَّـمْ

فمن غير شك أن تقييد القافية في هذه القصيدة قد ساهم في إبراز جانب من الغضب والحزن المكبوت، وللسكون في القوافي من الصرامة والجهامة ما لا يوجد في القوافي المطلقة.
على جانب آخر نجد الضمَّ مناسبًا لبعض مقامات الكلام، كالفخر مثلاً أو المديح ـ وهما متصلان بشكل ما ـ وربَّما ناسب موضوعات الحكمة والنصيحة، وهذه القصيدة للكميت بن زيد الأسدي تبرز أثر الضم في قوة القافية حين تتعلق بموضوع الفخر والمديح:

طربتُ وما شوقًا إلى البيض أطربُ
ولا لعبًا منِّي وذو الشيبِ يلعبُ؟
ولكـن إلى أهـل الفضائل والنهى
وخـيـرِ بني حـوَّاء والخيرُ يُطلبُ
إلى النَّفَر البِيـضِ الَّذيـن بـحُبِّـهم
إلى الله فـيـمـا نـابَـنِـي أتــَقَـرَّبُ
بني هـاشـمٍ رهـطِ الـنَّـبـيِّ فإنَّـني
بهمْ ولَهُم أرضَى مِرارًا وأغضبُ

ويجب أن أنبِّه هنا إلى كون مسألة ارتباط حركة القافية بموضوع الشعر ذوقًا شخصيًّا قد لا يكون له مستند علمي، لكنَّه مجرَّد رأي لا يخلو من وجهة يمكن الاتفاق معها أو الاختلاف.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى