الأحد ٦ أيار (مايو) ٢٠١٢
بقلم مصطفى عبا

المَوتُ في الدَّار البيْضَاء «البيان رقم 3»

«قصة حب طويلة»

نبذتُها مُكرَهاً.

عن غير قصد غادرْتُها.

الآن، ذات عودة وبعد طول غياب، أجد نفسي أَعبُر هذا الشارع الممتد كحَيَّة تسعى على جانب المحيط، شارع يبدأ مساره من حيّ «عين السبع» وما قبْلَه ثم يتعرج هنا وهناك ويأخذ وجهته الطويلة نحو منطقة "عين الذئاب" وما بعدها.

الآن، أجد نفسي في هذا المكان المنفتح في جزء منه على البحر ليشبه بذلك خليجا في حجم مصغر، تتفتق ذاكرتي عن صورة تلي الصور الأولى التي تشهد أول عهد لي بمدينتي التي سحرتني طفلا وتملكتني عبر كل مراحل العمر التي مرت ولا زالت تمر بلا إذن مني!
الآن، أنا هنا وأتذكر.

الآن، تأتيني تلك الصورة حيث كنت طفلا لوحدي فوق ذلك المكان المرتفع، أنظر إلى بعيد فيتراءى لي البحر الذي لا يُحد. أنظر إلى الشاطئ القريب فتتراءى لي أطراف المدينة التي تغرق في مياه الموج شمالا وجنوبا. تتراءى لي الأمواج وهي تصخب وتتحدى غريما لا مرئيا. الدار البيضاء هي هذه؟ البحر هو هذا؟ وأنا؟ أنا داخل سيارة "الرّونو" لا حق لي في الخروج منها كما أُمرتُ.

المدينةُ هي أيضاً بحر!

كل هذا العالم المكوَّن من بنايات الإسمنت في جانب وماء البحر في جانب آخر كنتُ أطل عليه عبر زجاج نافذة السيارة التي لم يكن من حقي أن أغادرها. كنت كعصفور مستسلم يائس لا حول له ولا قوة أمام التعليمات الصارمة. كانت رغبتي عارمة في الانعتاق والتحرر من قيد هذا القفص لأحلق بعيدا في فضاءات "المدينة"، أسبر غورها، أكتشف تفاصيلها، أفك ألغازها، لعلها تمنحني سرها وتضمني إليها إلى الأبد. لكن الأوامر كانت واضحة ولا لبس فيها. قبل أن يغادر أبي السيارة بمعية أمي قال لي وعيناه الجاحظتان بطبعهما تنغرزان في عينيّ:

ـ سنذهب إلى زيارة خالك هناك (وأشار إلى مبنى قريب داخل السور الذي نفذنا إليه عبر السيارة قبل قليل). لا يمكن أن ترافقنا لأن هناك بعض المناظر لا تليق بالأطفال ولا يجب أن ترها. لا تغادر السيارة. لن نتأخر كثيرا. اسمع! لو عدتُ ووجدتك خارج السيارة سـ... وسـ... وسـ... أنت تعرف ما ينتظرك في هذه الحالة! واخَّا؟

حرك سبابته أمامي علامة التحذير والتهديد وأَخرَج عينيه مزيدا فارتعدت فرائصي كما في كل مرة يفعل فيها ذلك. فهمت ما ينتظرني لو خالفتُ مشيئته، فحركت رأسي عدة مرات مجيبا إياه بأن رسالته قد وصلت.

غادرا السيارة وبتُّ لوحدي أداعب عجلة القيادة طورا، وطورا أضغط على المنبه لأعود من جديد إلى النافذة وأطل على البحر وعلى الدار البيضاء ملوحا لها بيمناي وكأنني أطلب منها النجدة أو أدعوها لأن تأتي هيَّ إليَّ ما دمتُ أنا لا أستطيع الذهاب إليها. كان حلمي هو أن أُحكِم عليها قبضتي الصغيرة، أن أجعلها حبيسة كفي كالفراشة أو كـ"مْسيسِي"، أدسها في مكان ما، في جيبي مثلا أو في ركن من أركان السيارة وأصادرها إلى حيث لا تعلم، أسبيها رغم أنفها وأجعلها هكذا ترافقني إلى ضيعة "عين سَيّرْني" على بعد سبعة وعشرين كيلومتر من هنا عبر "طريق الجديدة". هناك أنتقي لها موطنا فتصبح بذلك في حوزتي لوحدي جملة وتفصيلا، تصبح لي بكاملها ولن أكون مضطرا بعد هذا للحلم بها كالمسحور، لأنها الآن معي وبقربي. سأتسلل نحوها ليلا حينما ينام الجميع، سنلتقي خلسة وسيظل ذلك سرا بيننا وســ... آه يا البَّويْضة! آشْ ظهر لك؟ ماذا بدا لكِ؟... موافقة!... وااااااااه!

أُصابُ بسعار الرغبة وصَهَد الحلم الطفولي. تصبح النزوة جامحة وثقيلة الوطء. أنسى أوامر أبي وأنسى عينيه الرصاصتين. أعالج مقبض الباب من الداخل فيُفتَح بسهولة لامنتظرة. أُصبِح حرا طليقا في الخارج وانبهاري لا مثيل له. رائحة البحر تملأني. صخب الموج يمتزج بصخب المدينة. تثير انتباهي طيور تحلق في الفضاء القريب وتصدر أصواتا لم أسمعها من قبل في الضيعة. لن يأتي يوم تسقط فيه هذه الفراخ في فخي أو في شبكتي التي أنصبها للعصافير في الضيعة رفقة أخي الصغير "عبد الرحيم" والراعي وباقي الرفاق من أبناء عمال المزرعة. لماذا؟ لأنَّ لديَّ حدس مسبق بأن هذه المخلوقات التي تطير لا يحلو لها العيش إلا في محيط البحر، وإلا فلماذا لا تغادره وتذهب للتحليق في سماء المدينة كما كنتُ سأفعل لو كنتُ طائراً مثلها؟ في الضيعة، وبالضبط في بركة غير بعيدة عنها، يوجد ما يُسمَّى "دجاج الماء" الذي يحلو لوالدي قنصه في بعض المرات ببندقيته "الزويجة"، وهنا يوجد "دجاج البحر" الذي لا يستقر في مكان واحد.

أستمر في اكتشاف هذا العالم من حولي، أنط هنا وأقفز إلى هناك... أصعد درجا لأعتلي ما يشبه منصة من الإسمنت مستطيلة تحيط بجوانب البناية التي دخلها أبي وأمي قبل قليل. تثير انتباهي منارة متسامقة تكاد تخترق السماء، في قمتها ضوء يشتعل وينطفئ بين الفينة والأخرى، وفجأة تتسمر نظراتي على شيء ما ملقى على الأرض، أنحني وأنقض عليه، إنه عبارة عن زجاجة صغيرة في حجم الأصبع يملأها حتى النصف سائل أبيض اللون كالحليب. تذكرتُ للتو نبات "الحُلّيبة" الذي كنا نستعمل نسغه لتكبير أعضائنا الصغيرة بعد أن نسكب قطرات منه في مدخلها. كانت هكذا تنتفخ في الغد الموالي وتنتفخ. كنا نحس بالزهو، وفي كثير من الأحيان بألم فظيع يحاول كل واحد منا أن يكثمه. قلت في نفسي: "لن أشرب هذا السائل (كما راودتني الفكرة في البداية). سأحمله إلى الضيعة وسأتقاسمه مع الرفاق غدا... إنه سيعوضنا عن "الحلِّيبة" التي انتهى موسمها". لست أدري لماذا انتابني إحساس بأن هذا السائل سيكون له مفعول سحري وناجع أكثر من غيره (ربما لأنه "باروك" من الدار البيضاء) ولذلك تمسكتُ به كما لو كان كنزا ثمينا لا يجب أن أضيعه. دسستُ الزجاجة بكل حيطة وحذر في جيب سروالي القصير وعيناي تشعان بما يشبه بريق النصر والظفر، وكانت أصابعي في نفس الوقت تضغط مزيداً على السدادة المطاطية ذات اللون البُنّي حتى لا ينسكب السائل في جيبي ويذهب كل شيء سدى. وأنا في خضم التفكير والتخطيط والـ... انبعث صراخٌ غريبٌ من البناية المجاورة وجعلني أتجمد كما لو أُصبتُ بصعقة. "وااااااااااه! آآآآآآآآه! والله ما ننساك آآآآآلكافرة بالله... بالتي عليك... ها أنا جاي لك أنت يا ولد الحرام... وااااااااه!....". توالت صرخات أخرى من جهات أخرى. أُصبتُ بالذعر. هل كان ذلك بسببي؟ هل أنا المعني بالأمر؟ ولمن هي هاته الأصوات؟... تمنيت لو أن الأرض انشقت وخرج منها أبي. ولكنها لم تنشق ولم يخرج منها أبي. تسللت ببطء وحذر شديدين والهلع يفتك بي. ما أن بلغتُ السيارة حتى دلفت إليها طلبا للأمان وتساؤلاتي تتناسل. تكومت في المقعد الأمامي وأخذت أنصت وأنتظر... طال انتظاري فبدأت أفكر في طريقة لمغادرة هذا المكان بعيداً حيث لا أسمع هذا الصراخ الهستيري. وما كدتُ أتخذ قرارا نهائيا حتى تراءى لي أبي وأمي آتيين. تنفست الصعداء واتخذت وضعية الملاك البريء الذي لم يغادر السيارة قط خلال غيابهما.

كان صمتٌ رهيب يجتاحني. كنت أمام أمي في المقعد الأمامي لَمّا كان أبي يشد بعنان بَغلَته "الرُّونو" ويجعلها تشخر مرارا وتنهق وهو يضاعف السرعة كما يحلو له عادة. كانت السياقة هوايته المفضلة وكانت "الرونو" دابّته التي يوجهها كيفما يشاء وحيثما يشاء. ساقَها عبر الطريق المجانبة للمحيط، ثم عرج على اليمين مرة ومرة وعلى اليسار مرات حتى استوت الطريق التي تتسامق على جانبيها أشجار الأوكاليبتوس. هنا شعرت بالراحة والأمان، لم تعد تطاردني تلك الأصوات الهستيرية الصاخبة ما عدا صوت أبي وأمي الذي كان يتناهى إلى سمعي. سمعتهما يتجادبان أطراف الحديث وفهمت ما أرادوا إخفاءه عليَّ: خالي "مبارك" أصيب بمس من الجنون في عقله، أكل سما ما أو جعلوه يأكل هذا السم (التوكال)، لم يجدوا له علاجا في مدينة "بن سليمان" حيث يقيم جوار خالين لي آخريْن، لذلك جاؤوا به إلى مستشفى "العنق" بالدار البيضاء. تلك البناية إذاً وذلك المكان المرتفع أمام البحر كان مستشفى! وتلك الزجاجة الصغيرة! آه، لا يجب أن تفلت مني، أخذت أضغط عليها بيدي داخال جيبي حتى لا تتبدد. لم تكن الدار البيضاء في قبضتي الصغيرة. تركتُها هناك. وهي؟ لماذا تركتْني أرحل بدونها؟ لماذا لم تشدني إليها؟

أخرجتُ يدي من جيبي وإذا بالزجاجة تسقط أرضاً عن غير إرادة مني. تبعتها وقد كادت تقارب في تدحرُجها قدم والدي. عدت فوق ركبتي أمي ممسكا بها بكل قوة. صرخ هو:

ـ ما هذا؟

ونتش من يدي الزجاجة وهو يتأملها دون أن تغادر يده اليسرى عجلة القيادة. صرخ مزيدا:

ـ أين وجدت هذا الشيء؟ إنه دواءٌ خاص بالحقن!

تلعتمت و... ولحسن الحظ أنني لم أكن أمام عينيه اللتين كانتا تراقبان الطريق أكثر مما كانتا تنغرزان فيَّ.

ـ وجدتُها.

ـ أين وجدتَها؟

ـ...........

ـ داكور آ ولد الحرام... فهمت. إذاً خرجتَ من السيارة!... سوف ترى حينما نصل إلى الضيعة. والله الليلة سأسلخ والديك!

رمى بالزجاجة عبر نافذته على اليسار وكف عن الكلام.

تكمشت كقنفد في مكاني دون أن أكف عن النظر إلى الطريق حيث كانت الأشجار تهرب نحو الخلف. ما أن وصلنا إلى الضيعة حتى هرعت إلى أحضان "أمي حنّة" "الحدّاوية" (أمي الأخرى بالتبني) في الجناح الآخر من دارنا الفسيحة وأنا أصرخ: "ناري ناري يا أمي غادي يسلخني!".
ـ من؟

ـ خويا... ولدك...

دستني في صدرها، بين ثدييها الأسمرين، بحنان كما العادة وهي تقول:

ـ وا... إذا كان رجل يجي.... هاي هاي هاي على وليدي! يضربوه ليَ؟ ههههههه... ارتح آلمصيطيفى... ارتح....

ارتحت وأنا أدس رأسي في صدرها. كنت أعرف أنها درعي المتين الواقي وملجئي الآمن في أوقات الشدة وغير الشدة.

لم يسلخني أبي تلك الليلة. سلخني الألم لفقدان الزجاجة، وسلخني الألم لأنني لم "أحْتِ" على الدار البيضاء معي في قبضتي. باتت معي تلك الليلة في أحضان "أمي حنّة". كنا كعشيقين هاربين من بطش أعداء مجهولين.

في صباح الغد كان لدي إحساس بالحقد تجاه "المدينة". أخذت أتساءل لماذا لا تحبني؟ لماذا تتركني أمضي؟ لماذا تسكنني ولا تدعوني لكي أستوطنها؟ لماذا تنفيني بينما أنا أُبايعها؟ لماذا تُحاكي "بلهدهود" الفخور المغرور بنفسه الذي قرر ألا يسقط أبدا في فخي (مهما وضعتُ له من ثمار: ها الدود بأنواعه، ها حبوب الدرة والقمح والشعير، ها قطع الخبز... والو... والله ما عمره نقب! فيئست منه) ولن يتسنى لي تبعا لذلك مداعبته ومساءلته عن ماهيته وعن قصته وحكاياه؟

اسمعي أيتها الدار البيضاء! يئست من هذا المخلوق الذي يطير، هذا صحيح، ولكنك لا تطيرين. أنت هنا في داخلي. قفصي الصدري هو قفصك. صدقيني، لن تغادريه أبدا.

أحبك يا الكافرة بالله ولن أدعك تفلتين مني ولو قيد أنملة، فكفاك صدا ومعاندة.

صدقيني: والله إمّا بي... أو بِك!

هاااااااا خَطّ يدي!

ولسوف نرى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى