الأحد ٢٠ أيار (مايو) ٢٠١٢
قراءة في ديوان
بقلم نازك ضمرة

العزلة غيرت عناوينها باكراً

الشعر فن إشفاء:

الشعر لغة الأرواح، يحاول إيجاد مطابقة بين الواقع الذي قد يصبح خيالا مؤقتاً أو إلى زوال، وأي فن هو جاذب للنفوس ويشتغل على إراحتها، والشاعر كفنان يشفّ عما في أعماقه من أصالة وخبرة، ليؤثر فينا أو يشفينا أو يحملنا كي نتماهى معه في خيالاته وحضوره ولا وعيه. إنه بحث عن مشاركة وقبول وتقرب، وهذا التقديم ملخص مضغوط تلبسني وأنا أقرأ في ديوان الشاعر أحمد الدمناتي المغربي الشاب والمعنون (العزلة غيرت عناوينها باكراً).

الدخول للديوان من باب العنونة:

وقبل أن نلخص للقارئ ماورد إلى الذهن من أفكار حول محتوى مختلف قصائد الديوان وما تفـرّخ منها، نفضل الدخول من الباب لأن خطراً متوقعاً يحصل عادة عند الدخول من النوافذ. فقراءة عنونة الديوان كاشفة لعوالم الشاعر وهمومه واهتماماته عبر نصوصه حتى لو كانت مضمرة، فمفردة العزلة هي إحساس خاص بالإنسان لا تطفو على السطح إلا إذا بلغ الكمد والاستسلام حداً يصعب التخلص منها أو السيطرة عليها، ثم تأتي مفردة (غيرت) والتغيير هو هدف الإنسان على هذه الأرض، وحين تستقر أمور إنسان وتهمد تحركاته يتطرق إلى أذهاننا سبيل الراحة الأبدية والغياب عن الحياة التي هي مطلب الكائن الحي، وأما مفردة (عناوينها) فأول ما يتبادر للذهن أنها إما أنها كانت مرتاحة أو متواجدة في ضنك محرومة من الحرية، وهاهي تتململ أو تتفجر أو تتحرك كي تتخذ لها مكانا جديداً واضحاً بعنوان يمكن الوصول له أو مستقراً يهيء لها توازنها، وحين نقول (العزلة غيرت عناوينها) نعتقد أن هناك حركة وصحو واستعداد لممارسة نشاط مختلف بأسلوب جديد من حياة تشارك الغير وتتعايش معه، ثم تأتي مفردة (باكراً) ولها احتمالان من التفسير، أي إما إنها صحوة مبكرة وعلى غير ما هو متوقع، كمن يصلي الفجر فور تمييز الخط الأبيض من الأسود، أو في اللحظات الأخيرة من الفجر وقبل طلوع الشمس بقليل، وكلاهما مبكراً، أي قبل النور التام والإشراق، والتفسير الآخر لمفردة (باكراً) قد يعني أن العزلة حلت بالفرد والنفس وتمطت هناك واستقرت، وكادت تعطبه، ولكن وبقدرة ما لم تطل الحالة فصحت نفس العزلة قبل فوات الأوان لتمارس طقوس النشاط والحياة والمواجهة في أجواء مختلفة عما كانت عليه وقبل الانهيار التام. وفي إحساسي أن هذه المقدمة تخلق للقارئ جواً يحرضه على التداخل والتمازج مع نصوص الشاعر الدمناتي، وأرى أنه يلزمه تسلح خاص واستعداد يحرسه عبر خطورة توغله في ملاذات شاعرنا وسراديبها، وأول ما نلمسه حين نبدأ بقراءة نصوصه، هو ارتفاع نبض الدمناتي وعدم صبره، ففي الصفحة 12و 11 "القصيدة نص، العزلة باب، الفراغ مسكن، الرحيل بهلوان، السعادة طفلة، البريد رسالة، الندى سيرة،الخيال طفل، النساء خرائط، القصيدة فخ" وكثير بعد هذا ، إنما هو إلحاح وإصرار من الدمناتي ليدخلك عالمه الموار، محلقاً بك من موقع إلى موقع، وينقلك إلى أماكن مستحيلة لا يسمح لك المكوث ولا التريث، وكأنه يعصر في حلقك قطرات من أشربة مخدرة قوية، تجعلك تعيش في عوالمه مهما نأى عن واقعك الذي اعتدت عليه.

الشعر عالم ذاتي له مؤهلات ولوازم منها: عالمية المعنى، وعنصر الإشفاء

إننا أمام موهبة جادة مخلصة، اتخذت فن الشعر هدفاً أسمى تؤديه في الحياة، وتساهم في إحياء الروح وإشفائها، وقبل أن نتقدم بما رأيناه تخصيصاً عبر خوضنا لمنضودات لؤلؤية من عالم الدمناتي البحري نعتقد أن الشعر حتى يكون شعراً خالداً يجب أن يتسم بصفات العالمية أولاً، أقصد عالمية المعنى للإنسانية كلها، أي ليس مقصوراً على فئة من الناس أوعلى جيل واحد او مكانية محددة، والشرط الثاني أن يكون الشعر فن إشفاء للنفوس سواء في السراء والضراء، وحين نقرا قصيدة تهدهدنا بعد فقد إنسان عزيز علينا، فإن تلك القصيدة هي دواؤنا حتى ولو كشفت سر دائنا وعظمت من مرارة الفقد. ولهذا يقولون الشعر عالم ذاتي له قوانينه وأصوله، وكل قصيدة هي بمعنى ما وثيقة تاريخية، ومن هنا عرفنا نمط حياة الإنسان العربي قبل التدوين، فما حفظ لنا لغتنا العربية من أعماق التاريخ حتى مرحلة الإسلام وسيلتان هما الشعر والخطابة، لم يصل لنا من موروث العرب قبل الإسلام الشيء الذي يستحق الذكر مكتوباً، ولولا الشعر والخطابة لعد ّنا الناس أمة طارئة على الحياة وبلا جذور، فالشعر كشف عن الأطلال وحب الديار والبيئة والناقة والصحراء وتمنع الحبيبة أو معاناتها، ثم المشاعر وهي تتامل ما يحيط بها للوصول إلى هدف الشاعر في موقفه ذاك من حبيب او فقيد او انتصار او هزيمة، (كما قال امرؤ القيس في معلقته: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل، بسقط اللوى، بين الدخول، فحومل، فتوضح ، فالمقراة، لم يعف رسمها، لما نسجته من جنوب وشمأل) فأصبح شعرنا المحفوظ والمنقول عبر الأجيال بمثابة تأريخ لأنماط حياتنا وأفكارنا، وهنا يأمل الدمناتي الخلود بنزفه الشعري، كالمشاهير الذين سبقوه.

كل فنان يعمل جاداً بحثاً عن الخلود، والأهرامات ومعتقد مؤسسيها املوا في الخلود وإطالة الحياة أو على أمل العودة لها، والحياة مرحلة قصيرة من عمر الزمن، وتتطلب منا الوعي حتى نحسّ بقيمة ما أتيح لنا من سنوات، والحب والزواج هو إثبات لوجودنا وبالتالي إعادة أنتاج لأنفسنا، وامتداد لجذورنا في الأرض، وأحمد الدمناتي كما يبدو لي يهيئ لنفسه مكاناً محسوساً، حتى يرقى له الناس على أمل إحيائه في دواخلهم كلما مروا بإبداعاته، ويعيدون نسجه في عقولهم، ولهذا قرر أن ينهي مرحلة العزلة التي كان يحياها، بالتوجه القصدي إلى معمعة النماء والحياة والزخم البناء، فأن يكون ثمة شعر لا بد وأن يكون إنسانياً، كما يقول الشاعر الإسباني غوليه. وهذا من مؤهلات الشعر أيضاٍ

إن كاتب هذه السطور روائي لا يمارس فن الشعر، ولا يريد ذلك، لكنه لا يعادي الشعر والشعراء، وأعداء الشعراء غالباً ما يكونون في تحالف مع السياسيين، دلالة على قوة أثر الشعر في النفوس بتغييرها أوتقسيتها وزيادة صلابتها.

قصائد الدمناتي كخارطة:

تنوعت أساليب الحياة ووسائلها في العقود الأخيرة، ولا بد من ثورة على كل ماكنا نرضى به أونعيشه حتى نتمكن من مسايرة الظروف المحيطة بنا، أو إرضاء من يقرأون عنا أو يكتبون، وهذا المفهوم أراه عميقاً في قصائد ديوان (العزلة غيرت عناوينها باكراً) للدمناتي، حتى وزاد في إيغاله من التحولات والتصورات والخيالات، آملاً أن يسبق جيله في رحلة البحث عن الخلود. وحين يكتب قارئ هاوٍ مثلي عن كتابة أي إنسان يبقى اثره محدوداً مهما بذل من جهد، بسبب عدم اختلاطه بصاحب النص، أو بالاطلاع عن قرب عن أنماط حياته وفكره بشهادة الحضور والمشاهدة وعن طريق حواس العين والأذن، وكثيراً مايفشل قارئ النص في نقل صورة مميزة مطابقة لما أراده الشاعر، وقد يبتعد عن واقع حا ل ذلك المخلوق الفني لاختلال في القبض على جمر القول والتأمل ومواقع الابحار، وهنا نشترط بأنه لا يجوز أن يستخف أحد بالفنون لأنها تنتج إبداعاتها من خلال محاكاة الأشياء الطبيعية، وقصائد الدمناتي في ديوانه الذي نحن بصدده أراها مرآة تحاول محاكاة مواقف تأثره مغموما أو مندمجاً أو منتشياً، ليتقابل مع مصطلح الواقع الحياتي أوالطبيعة بمعناها الشامل، والدمناتي المغربي بسط تجاربه للقارئ كخارطة، وبدأ ينقلنا عليها من موقع إلى موقع ممثلاً بل راقصاً على حبال مرئية وغير مرئية، ليقوم بأدوار يصعب الإتيان بمثلها، لكنه باقترابه من الحياة الواقعية التي عاشها أو عايشها ينجح في الاقتراب من أعماقنا وخيالاتنا، وربما هي محاكاة ذكية أصر الدمناتي بها على إبراز مواهبه، وعلى تميزه عمن سبقه ليهيء لنفسه مواقع يعرف بها كعنونة، والفن عبء كبير على النفس حين تريد الصدق والتخفي بين الكلمات أو وراءها. والفرق بين الشاعر والفيلسوف في ثلاث: الطريقة والمغزى والنتيجة، ومن صالحنا أن نستبعد الدمناتي أن يكون فيلسوفاً، ونترك هذا له، أو لغيرنا من القراء، لكننا نرى أنه داعب ضمائرنا وأيقظ خيالاتنا الدفينة بقصائده وومضاته المبذورة هنا وهناك على أرض ممهدة اجيد الاعتناء بها، فبدت كزهر المنثور في بهاء تفتحه وعبق رائحته مع إطلالة قمر الليل، وقمر الدمناتي، فحين يزرع الفلاح أرضه، يحرص على عزل الأنواع الأخرى من النباتات والأعشاب عن بذار محصوله الذي يعمل جاداً له، لكن الدمناتي هنا خلط جميع انواع البذار من البهارات والأزهار وحبوب الدواء والغذاء، وصار يلقي بها يميناً ويساراً حتى يخلق حوله جواً وحصناً يجذبنا بل يحتوينا، حتى نتقرب منه ونشهره في الوقت نفسه، أو ليظهر جدارته وقدرة نباتاته وقصده للصعود من بين كل النباتات المتنافسة على موقع واحد ومحدود. يقول بورخيس في هذا الصدد من كتاب المرآة والخارطة: "إن العمل الذي يبقى هو دائماً القابل اللامحدود، والغموض الجمالي" ثم قال أيضاً: الكاتب يحتاج إلى عزلة، وينال حصته منها، يحتاج إلى الحب وينال مشاركة، ويحتاج إلى الصداقة وفي الحقيقة يحتاج الكون" وجاء في قصيدة الدمناتي الأولى في الديوان "فالعشاق يكتبون قصائدهم أمام أصص البنفسج، ناولني سيرتك كأسير محترم، فالغزوة قنطرة"

الدنيا العربية تستحق لوحات بألوان متداخلة وحجم أوسع

الأنثى في لاوعي الشاعر دمناتي هي البؤرة التي لا تغفل العين ولا الأذن ولا الروح عن البحث عنها أو تأمل ملامحها وطغيانها، ففي الصفحة 20 من الديوان " امرأة من رخام الذكريات، تحرس غابات القلب دون ملل، وتبحث في حزن الشعراء عن طلل، لحدائق الطفولة، كم يكفي من الدمع لنرثي يتم الكلمات؟؟!!.. " وللتوضيح نعلق على هذه الومضة، ولماذا الطلل؟ . . . . ولماذا نلوم سادتنا شعراء الجاهلية على رقة مشاعرهم؟ !ّ.. . . ، حين يستهلون قصائدهم بوصف الأطلال التي عاشت في كنفها الحبيبة، وفي الصفحة -25 24 "الليل يكحل أهداب البستان، بوردة خائفة، ولدت من أحداق امرأة"، " هكذا هي السنبلة، تشعل الربيع في حديقة القلب، وتنام في الحقل كطفلة متكبرة"،

وهنا لا بد من همسة، أن يتوقف شاعرنا عند هذا الحد من كم برقياته وكثرة فلاشاته السريعة، لسنوات، ويدخل في أعماق الحواس بتركيز على مواقع يحياها هو أو من يؤثرون فيه سلباً أو إيجاباً، بسباحة أطول نفساً، فالمواقف في الدنيا العربية وزخم الحياة الهادر وأمواج الصخب في السنوات الأخيرة، تستحق بل تحتمل التأمل والإطالة ورسم اللوحة بألوان متداخلة وحجم يتسع للعقل والروح كي تتداخلا مع لوحة القصيدة الأطول. والشاعر احمد الدمناتي مهيء لدخول مدارات سباق الشعراء الأمراء، ولإغراء الشاعر أقول كما قال فاليري: النثر يشبه المشي، لكن الشعر يشبه الرقص، وقال فاليري أيضاً "الشعر البارع ذو سرعة شكوكية بعيدة"، وقصائد الدمناتي تحتفل بالمشاعر الإنسانية وتعلن صارخة عن الطموحات والكبت بلغة حداثية موحية تشفي وتريح، بل قد تحلق بك إلى مدارات بعيدة عن عوالمك التي خبرتها، وعموماً فإن القصيدة المجردة من الشخصية الإنسانية مستحيلة فيزيائياً، والشكل الشعري ذاته يمكن ان يكون قناعاً، وقبل أن أنهي مختزلي عن ديوان صغير بحجمه كبير في مواضيعه وآثاره، أقول هل ارضيت احداً؟؟ أو هل ستجد كلماتي قارئاً يعذرني عن عجزي لأنني لم أستطع الإجابة عن الأسئلة الأكثر أهمية حسب مقولة تشيخوف.؟

همسة أخرى للشاعر: قصيدة عمان فتحت لها أربع نوافذ، كل منها تبدأ بحرف من حروف مفردة (عمان، اي: ع م ا ن) المقاطع الثلاثة الأولى تبدا بالحروف ع، م، ا، لكن المقطع الرابع لم يبدأ بحرف (ن) كما قننت نفسك به؟؟

ثم ونقطة أخرى تستحق التفكير: هل يفكر الشاعر بالإضافة لقاموسه من المفردات؟ لكن كيف؟ لا بد من وقفة ثم ركض أماماً أو انزياحات للجوانب، مع وجبات أغنى وأكثر تنويعاً، ثم في صفحة 5 ورد فيض في التعبير، على أساس أن الزائد أخو الناقص، فإضافة جملة (بلغة شعرية تؤسس لبلاغة المعنى) فائضة تقيد القارئ وتشعره بأمور غريبة، ليس من اختصاص الشاعر قولها، وفي الصفحة 8 أتساءل عن إعراب مفردة (المتحرشون) في البيت: "كيف تتجدد طرائق المتحرشون بفتني"، وأراها: مضاف إليه مجرور أي يجب أن تأتي"المتحرشين"، وفي صفحة 46 (بحر اغتال أمواج ساخرة) ولماذا لاتكون (أمواجاً)؟.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى