الاثنين ٢١ أيار (مايو) ٢٠١٢
بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان

تجليات صورة اللاجئ في الشعر الفلسطيني

لا يختلف اثنان في أن نكبة عام 1948م التي حلت بالشعب الفلسطيني كانت كارثة فادحة، إذ كان من نتائجها تمزق الوطن، واغتصاب الأرض، وتشريد الأهل عن أوطانهم ولجوؤهم إلى الخيام البائسة والكهوف المظلمة، ومعسكرات التشريد داخل الوطن وخارجه، يذوقون الذل والقهر والمهانة، يواجهون مصيراً بائساً وحياة قاسية في ظل واقع جديد مؤلم.
وفي سنة 1967م حدثت هزيمة السادس من حزيران، وفيها استكمل العدو الصهيوني احتلال ما تبقى من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وولدت من رحم النكسة ظاهرة النازحين الذين طردوا من أرضهم إلى دول عربية مجاورة، وهاموا على وجوههم في حالة من الضياع والتشريد لم يسبق لها مثيل، وحرم من كان خارج الوطن من العودة إليه، وهكذا نشأ وضع مأساوي جديد، لم يكن الفلسطينيون النازحون يتصورون حدوثه، وما زال المحتل الغاصب يمارس بحق المواطنين أبشع صور المهانة والإذلال، وما زال يمارس سياسة الإبعاد القسري عن الوطن حتى وقتنا الحاضر.

واكب الشعراء النكبة الأولى عام 1948م، وهزيمة 1967م، وما أعقبها من تشتت لأبناء الشعب الفلسطيني وتوزعه خارج الوطن وداخله وقيام كيان دخيل مكانه، فوصفوا مأساته ومظاهرها المتعددة؛ ورسموا مشاهد مفجعة لعملية الرحيل والهجرة التي مرّ بها الإنسان الفلسطيني اللاجئ، وتحدثوا عن حياة المشردين في الخيام في ذل وقهر، وجسدوا معاناة اللاجئين وعذاباتهم في المنافي وبلاد الشتات، وصوروا المذابح والمجازر التي ارتكبها العدو الصهيوني بحقهم في سبيل تخويفهم وإجبارهم على ترك أرضهم وديارهم، ليحل محلهم غرباء مغتصبون من شذاذ الآفاق، وهكذا فجرت المحنة التي تعرض لها أبناء الشعب الفلسطيني قرائح الشعراء، وأنطقت ألسنتهم، وولدت لديهم أساليب ورؤى شعرية جديدة، وصوراً دامية معبرة، فليس ما يصهر النفس كالألم.

استولت ظاهرة اللاجئين على المشهد الفلسطيني، وكانت الإشارة إلى مأساتهم تبدأ بعناوين المجموعات الشعرية، فهذا أبو سلمى يصدر ديوان "المشرد"، أما يوسف الخطيب، فإن عنوان مجموعته المميزة المبكرة، هو"عائدون". ولعل أول مجموعة فلسطينية تنطلق من مأساة اللاجئين، كانت للشاعر هارون هاشم رشيد، وهي "مع الغرباء"، وقد صدرت عام 1954م، وهناك مجموعات تشير عناوينها إلى الجرح الفلسطيني بصورة مطلقة، مثل "فلسطين على الصليب" للشاعر معين بسيسو، و"حيفا في سواد العيون" للشاعر حسن البحيري، و"كلمات فلسطينية" للشاعر حسن النجمي.

وقد اختار الباحث صورة اللاجئ الفلسطيني عند الشاعرة فدوى طوقان؛ لأسباب منها؛ كون الشاعرة إحدى الشاعرات اللائي قُدّر لها أن تشهد فصول مأساة وطنها المنكوب ومراحل نضاله، واطّلعت عن كثب على جرائم الصهاينة بحق أبناء شعبها، وشهدت بأم عينها ما عاناه المشردون من عنت ووصب، وما واجهوه من فظاظة اليهود وجرائمهم؛ وبذلك غدا شعرها سجلاً صادقاً لأطوار القضية الفلسطينية، وذا قيمة وثائقية مهمة، وتحققت لتجربتها الشعرية السمات الأساسية التي جعلت منه قيمة فنية وموضوعية وتاريخية عظيمة، ووصلت في شعرها إلى مستوى من النضج الفني جعلها تقف بين شعراء الصف الأول في الوطن العربي؛ الأمر الذي أضفى على شعرها ميزة عالمية إنسانية، وهي من بين الشاعرات العربيات اللواتي أسهمن في تطور الحركة الشعرية النسوية، ونقلها إلى مستوى التعبير الصادق عن المشاعر الأنثوية.

لقد كانت مأساة الشعب الفلسطيني وضياع أرضه وتمزقه وتوزعه على أنحاء المعمورة، وما نجم عنها من ولادة ظاهرة اللاجئين رافداً ثراً من روافد تجربة الشاعرة فدوى طوقان الشعرية، ففي دواوينها ما يسجل وقع النكبة في وجدانها، وقد تمكنت من أن تمزج مأساتها الذاتية بمآسي شعبها وتجاربه الوطنية، في قصائد مفعمة بالمشاعر الإنسانية. وقد تمت مقاربة أبعاد صورة اللاجئ وملامحها في خمسة محاور على النحو الآتي:

أولا - توقع النكبة ومواكبتها:

تعد الشاعرة فدوى طوقان من بين الشعراء الفلسطينيين الذين أدركوا بحسهم الشعري غاية الحركة الصهيونية ومخططاتها للسيطرة على أرض فلسطين، فأبدت يقظة وتنبهاً إلى ذلك الخطر الذي يسعى إلى تشريد أهل فلسطين من ديارهم، وإحلال قوم غرباء مكانهم، فراحت تحذّر أبناء شعبها وتبصرهم بالمصير المفجع الذي ينتظرهم على أيدي العصابات الصهيونية قبل أن يقع، ففي قصيدة بعنوان:"الروض المستباح" نظمتها قبيل حرب فلسطين 1948م، وصاغتها في أسلوب الحكاية الرمزية البسيط، تقول مخاطبة الطائر(#):

انفض جناحيـــك من الرقدة
يا طائري، أخشى عليك المصيرْ
لا تمكن البوم من الروضـــة
أرى لذاك البـــوم شأنا خطيرْ
أضب للوكر على على شــرة
فيما أراه، وأذى مستطيـــرْ
عليــــك بالحذر، فكم غفلة
يؤخذ منها المرء أخذاً نكيـــرْ

تناجى الشاعر في هذا المقطع طائراً في الروض، كَفّ عن الغناء فجأة، وتساءلت عن سبب صمته، فاكتشفت أن هناك طائر البوم الذي يحوّم في الروض، يثير الرّعب والخوف. وقد اتخذت من الحكاية الرمزية وسيلة للتعبير عن تجربتها الشعرية، فالرموز بسيطة سهلة، فالروض يرمز لأرض فلسطين، والطائر يرمز للشعب الفلسطيني، والبوم يرمز للعدو الصهيوني ومَنْ ورائه من قوافل المهاجرين اليهود المستعمرين.

وفي خاتمة القصيدة تتدخل الشاعرة/ الراوي؛ لتحذر الطائر من شر البوم وخطره؛ لأن وراءه قوماً يتربصون به الدوائر، تقول:

ويلك، لا تأمن غريـــب الديار
فخلفه من مثــــــله معشرُ
يا طائـــري، إنّ وراء البحار
مثـل عديـــد الذرّ لو تنـظرُ
تربّصــــوا في لهفة وانتظار
ودبـــّروا للأمر ما دبّــروا..
تحفزهم تلك الأماني الكبـــار
وأنت أنت المطــمع الأكبـــرُ

ولم تكد تمضي سنوات قليلة حتى تحقق ما كانت تتوقعه الشاعرة، فحدثت النكبة، وطرد البوم/ الصهاينة الشعب الفلسطيني من الروض/ فلسطين، فتألمت لما حاق بالوطن من هزائم، وما نزل بساحته من مواجع وآلام،

ثانياً - تصوير المعاناة والعذابات التي تعرض لها اللاجئ:

رسمت الشاعرة بعضاً من ألوان المعاناة والعذاب التي اكتوى بنارها اللاجئون الفلسطينيون، فهم يعانون التشرد والشتات، ويكابدون الحصول على مأوى، فلا يجدون غير الخيام البائسة، والكهوف المظلمة، يأوي إليها من ضاقت به سبل الحياة بعد أن كان ناعماً منعماً في وطنه.
ففي قصيدة بعنوان"رقية"حاولت الشاعرة أن تقدم نموذجاً بشرياً للأمومة المعذبة والطفولة البائسة التي تتمثل في أم فلسطينية لاجئة حاولت أن تأوي وابنها إلى أحد كهوف"جبل النار" بنابلس، وسط برد شديد، وحالة من الحرمان والتشرُّد الشديدين بعد أن طردت من وطنها، وفقدت زوجها الذي استشهد دفاعاً عن الحمى، تقول:

هنالك ضمّ (رقية) كهف
رغيب عميق كجرح القـدرْ
تدور به لفحات الصقيع
فيوشك يصطكّ حتى الصـخرْ
وتجمد حتى عروق الحياة
ويطفأ فيها الدم المستـــعرْ

حاولت الشاعرة أن تعبر عن التراجيديا الفلسطينية انطلاقاً من حالات إنسانية متعددة، ونظرت إلى التجارب الإنسانية نظرة واقعية، رأت اللاجئة الفلسطينية "رقية، بوصفها صورة من صور النكبة، تنفتح على مأساة إنسانية تكاد أن تنفطر من هولها القلوب.

(رقيّة) يا قصة من مآسي الحمى سطرّتها أكفّ الغيــــر

ويا صورةً من رسوم التشرد،
والذل، والصدعات الآخـــر
طغى القرّ، فانطرحت هيكلاً
شقيّ الظلال، شقي الصور!!

تجلت ملامح شخصية الأم اللاجئة جلية واضحة، إذ صورت الشاعرة الأم اللاجئة تصويراً فنياً صادقاً ينبع من صدق تجربتها الشعورية وانفعالها بالموقف. فـ"رقية" تنطرح في كهفها كتمثال بلا حول ولا قوة وسط مظاهر البؤس والشقاء، وهي تضم في حضنها صغيرها الذي تشتم فيه رائحة وطنها الضائع، والذي سيشكل بذرة الغد الثائر على حالة الضياع هذه، إنها تصور واقعاً وحلماً، "تنقل القارئ من الحاضر إلى الماضي..من الخاص إلى العام، من أزمة واحدة ذاتية إلى أزمة عامة شعبية"(#).

في هذا المشهد تحولت المرأة الفلسطينية من المواطنة إلى اللجوء، وباتت تكتوي بنار التشريد, وقد رصدت الشاعرة عنصر الطفولة بكل ما فيه من براءة وجمال وطهر، تفقد الأمل والأمان بمفارقة الوطن، ويحمل النص مفردات اللجوء من: خيمة، قفر، التشرد، الحمي، الذل، الديار، النار، وقد تضافرت تلك الدوال في رسم مشهد مليء بالحزن والرعب في نسيج واعٍ؛ لتعبر عن معاناة المرأة اللاجئة وتشردها وضياعها. إنها ترى في ابنها اليتيم رمزاً لجيل قادم تعمّقت فيه روح الفداء، وهو يرتشف حليب الأم المشبع بمرارة المأساة وحرقتها(#):

وغمغم: أمّ وراحت يداه
تعيثان ما بين نحر وخدْ
فأهوت على الطفل تشتم فيه
روائح فردوسها المُفتقد

وفي مشهد آخر من مشاهد اللجوء ترسم الشاعرة صورة قاتمة محزنة من صور النكبة تمزج فيها البعد الوطني بالبعد الاجتماعي، وذلك عندما تصور نموذجاً بشرياً لامرأة فلسطينية لاجئة تعيش مع صغيرها تحت ألواح الصفيح، وقد منحت طفلها اليتيم عطفها وحنانها، ممهدة لقصتها الشعرية بوصف مظاهر البؤس والشقاء التي كان يعانيها هذا الطفل اليتيم، تقول في قصيدة "يتيم وأم"(#):

وا حنـــــــــــاناه لأمٍ أيّـــــــــــمٍ
طوت النفس على خوف وغمْ
فنضّت عنها الثياب السود ؛ لا
لا تظنوا جرحها الدامي التأمْ
بل لدفع الشؤم عن واحدها
يا لقلب الأم إن أشعر هـــــم!
وبدت في البيض من أثوابها
من رأى إحدى حمامات الحرمْ
نظر الطفل إليـها صامتا
وبعينيــه حديــث وكلم...
قال يا أمي. تـرى أين أبي
لم لا يرجع من حيــث اعتزمْ
ضمت الطفل إليـــها بيدٍ
وبأخرى مسحت دمـــعا سجمْ
عز ما يطلبــه، يا رحمتا
كيــف تاتي بــرفات ورمم!؟

تنبض هذه الأبيات بمشاعر الأسى والحسرة والحزن الممزوجة بأحاسيس المذلة والهوان، إذ صورت الشاعرة المصير الذي آل إليه الشعب الفلسطيني بعد نزوحه وتشرده وهيامه في كل اتجاه، وقد جاء ذلك في لقطات متتابعة من الأسى والألم؛ لتجسد فداحة الظلم الذي حلّ بهذه اللاجئة الفلسطينية التي تعد رمزاً للشعب الفلسطيني المشرد.

وتقدم الشاعرة نموذجاً إنسانياً ثالثاً تصور فيه المأساة وضخامتها وفداحة أهوالها، فتتألم لعيشة الذل والهوان التي يحياها اللاجئون في خيامهم البالية، ففي قصيدة" لاجئة في العيد"، تعرض مشهداً مأساوياً لما تعانيه لاجئة فلسطينية من شقاء وألم وحنين إلى الديار، في حين أن الفتيات من حولها يمرحن في حبور وسعادة والعيد يملأ الجو بالمرح تقول:

أختاه هذا العيد رفّ سناه في روح الوجود
أختاه، هذا العيد رفَّ سناه في روح الوجودْ
وأشاع في قلب الحياة بشاشة الفجر السعيدْ
وأراك ما بين الخيام قبعتِ تمثالاً شقيًّــا
متهالكاً, يطوي وراء جموده ألماً عتيّــًا

يلحظ المتلقي أن الشاعرة جسدت أثر المأساة على اللاجئة التي تعد نموذجاً للاجئات الفلسطينيات، إذ تُشاركها همَّها ومأساتها، إن في استدعاء صورة الخيمة تجسيداً للمعاناة التي ذاقها المشرد الفلسطيني؛ لأنها تختصر النكبة وفقدان الوطن، وهي رمز للذل والعار والمهانة، وهول المأساة التي يعانيها تحت سمع العالم والضمير الإنساني.
ثالثاً - المجازر والإرهاب الصهيوني:

صَوّرت الشاعرة المذابح والدمار والمجازر البشعة وفظائع الأعمال الوحشية التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحق أبناء شعبها المسالم الوادع بقصد إجباره على ترك أرضه، وإحلال الصهاينة الغرباء مكانه، وربما كانت الجرائم والفظائع الرهيبة التي اقترفتها العصابات الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني هي الدافع القوي الذي فجر في نفس الشاعرة ينابيع الشعر الوطني الإنساني، وحفزها على تجسيد مسيرة جهاد شعبها ومقاومتهم لهذا المحتل الغاصب.

ففي قصيدتها( حلم الذكرى) التي أهدتها إلى روح أخيها إبراهيم واستلهمتها من وحي مجزرة "قبية"عام 1953 م، تقول بأسلوب وصفيٍّ عن آثار المجزرة ومظاهرها(#):

وأبصرت أشلاء قــومــي هــنــا وهنـــاك عـــلــى طُـــرق الــســابـلـهْ
عُـيون مُــفـــقّـأة بُـــعثِـــــــــرت عــلــى الأرض حــبـاتـهـا الـسـائـله
وأيـــد مـُقــــطَّــــعـــة ووجــوه غـــزا الـــتـــرب ألــوانــهـا الـحـائره
وكان هنــــاك وراء الدخان قطيــــــــع تشتـــــــت في كل بيــــــــــــــد
قطيـــــــــع وديـــــــع... بقيـــــــة قومي فهذا شريـــــد وهذا طريــــد
... قصــــــارى مطامحـــهم لقمـــــــــة مغمسة بــــــــــهوان العبيــد
تجــــود بـــــــها كف جلادهم لتخديــــــــــــرهم كل صبــــــاح جديــــد

تبدت في هذه الأبيات صور مأساوية للمجازر الوحشية التي اقترفها الصهاينة بحق اللاجئين الذين أصبحوا أشلاء مبعثرة، وطوردوا كالقطعان الضالة بعد أن اقتلعوا من أرضهم، ورصدت الأثر الذي أحدثته هذه الفظائع والدمار في بنية الشعب الفلسطيني.

أوحت هذه الصور الدموية بحجم المذبحة وهول المجزرة التي ارتكبت بحق أناس أبرياء من نساء وأطفال وشيوخ، وقد وظفت في رسم لوحتها الفنية أساليب تعبيرية متنوعة من: صور نابضة بالحياة، وألفاظ موحية مثل: أشلاء، عيون مفقأة، أيد مقطعة، وجوه معفرة، الدخان، القطيع، التشتت، الشريد، الطريد، وعمدت إلى رسم تفاصيل المشهد وجزئياته: عيون مُفقأة، وأيد مقطعة؛ ليكون التأثير في نفس المتلقي أعمق، وقد تآزرت الصور وتآلفت لتشكل لوحة ذات إيحاءات ثرة قادرة على تصوير بشاعة الجريمة وفظاظة المشهد، وجاءت الدوال في مجملها متماهية مع المغزى الكامن وراء هذه الدلالات الشعرية التي أرادت التعبير عنه.

ومن يدقق في ممارسات الكيان الفلسطيني وجرائمه تجاه اللاجئين المشردين، يجدها تنهض على سياسات مبنية على الموت والاغتيال لكل لاجئ يفكر في العودة إلى وطنه بأي وسيلة كانت سلمية أو مسلحة، وقد صورت الشاعرة مشهداً للاجئ فلسطيني فكّر في العودة إلى وطنه، وتجاوز الحدود إلى قريته، فكان مصيره القتل، تقول(#):

وكانت عيــون العدو اللئيـــم على خطوتيــتنْ
رمته بنظرة حقد ونقمة كما يرشــق المتوحش سهمه
ومزق جوف السكون المهيــب صدى طلقتيـــن
........................................................
بدا الفجر مرتعشاً بالندى يذر ذره في الربـى والسفوح
ومرّ بطيء الخطى فوق أرضٍ مضمخة بنجيـع نفوح
تلفّ ذراعين مشتاقتين على جسدٍ هامدٍ مستريـــح

عمدت الشاعرة إلى استثمار تقنية الفراغ الطباعي(...) في وسط المقاطع؛ لما لها من دور مهم في جعل المتلقي يتابع الحدث وتطوره، وهي تقنية "تحفز المتلقي للمشاركة باجتهادات خاصة به ويعلن أن ثمة جزءاً يصعب البوح به وسكوتا عنه مما يعطي المتلقي فرصة لكي يتحرك تعبيريا لمعرفة النقص في كل سطر"(#).

وقد حاولت الشاعرة أن ترصد المجازر البشعة التي ارتكبها الأخوة العرب بحق اللاجئين الفلسطينيين في أيلول الأسود عام 1970م، إذ إنه من المنطقي أن يمارس المحتلون نهج القتل وارتكاب الجرائم بحق الفلسطينيين، ولكن ليس من المنطقي أن تُقترف المجازر والمذابح بأيدي الأخوة العرب الذين يفترض أن يكونوا العضد المساند لاستعادة الوطن، فقد صورت الشاعرة مشهد الحرب التي شنها النظام الأردني بحق اللاجئين في المخيمات، فتقول(#):

قابيل الأحمر منتصبٌ في كل مكان
قابيل يدقُّ على الأبواب/ على الشرفات/ على الجدران
يتسلّق يقفز يزحف ثعباناً ويفحُّ / بألف لسان
قابيل يعربد في الساحات / يلف يدور مع الإعصار، يسد/ مسالك
ويشرّع أبوابا لمهالك
يحمل في كفّيه غسول الدم / توابيت النيران
قابيل إله مجنون يحرق روما
والموت كبير يتنامى/ صفصافة بللورٍ أحمر
يسقيها القابع في (المخفر).

استغلت الشاعرة في هذا المشهد شخصية "قابيل" الدينية؛ لتعبر عن تجربتها الشعرية وتكسبها دلالات إيحائية معاصرة، فشخصية قابيل من الشخصيات الدينية المنبوذة التي ترمز لكل سفاح، وهي تجعل منها معادلاً تراثياً للخيانة الأخوية، وقد استُثمرت لتكون رمزاً للسلطات الأردنية التي ارتكبت جريمة القتل بحق أبناء الشعب الفلسطيني في مخيمات اللاجئين، وقد وظف اللون الأحمر وما يحمل من طاقات إيحائية غنية توحي بكثرة ما ارتكب قابيل من مجازر دموية.

ومن أبشع أساليب التنكيل والإرهاب التي مارستها العصابات الصهيونية جريمة نسف البيوت وتدميرها؛ بهدف إجبار أهلها على ترك الوطن والنزوح عنه، والانضمام إلى قوافل اللاجئين، وقد صورت الشاعرة ذلك في قصيدة " حمزة "(#):

طوّق الجند حواشي الدار
والأفعى تلوت / وأتمت ببراعة /اكتمال الدائرة
وتعالت طرقات آمرة:
" اتركوا الدار" ! وجادوا بعطاء /ساعة أو بعض ساعة

وظفت الشاعرة ما تحمله الرموز الجزئية من طاقات إيحائية وإمكانات دلالية؛ لتثري المعنى وتعمقه في ذهن المتلقي، فشخصية حمزة ترمز للإنسان الفلسطيني الصامد في الأرض الفلسطينية المحتلة ضد محاولات اقتلاع المواطنين من أرضهم. ورمزت للعدو بصورة الأفعى؛ لتوحي بأفعالهم التي تتسم بالحنث والغدر والقتل، ولا يمكن النقاش معهم ولا يمكن العبث مع الحية؛ ولإبراز خطرها وسرعة زحفها، فهي تحفر القبور، وتنشر الموت، و تحمل معنى الامتداد والانتشار والزحف(#).

إن التشبث بالأرض، والتعلق بها، والبقاء فوق ترابها هو الرد الطبيعي على محاولات العدو تفريغ الأرض من أصحابها تطبيقاً للحجة الصهيونية المزعومة" أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض"(#).وقد استثمرت القيم الصوتية لصوت التاء الذي تكرر غير مرة، هو صوت مهموس يوحي بالحركة البطيئة التي تحدث من تلوي الأفعى، وإحاطتها بالبيت؛ الأمر الذي يعمق أثر الجريمة التي اقترفت بحق حمزة وداره.

إن البقاء في الوطن والانغراس في ترابه والتشبث بالأرض يقابل في رؤية الشاعرة الهجرة والرحيل عن الوطن، فقضية اللاجئين عندها مرتبطة بالأرض، ذلك أن العامل الأساسي للصراع بين العرب واليهود هو السيطرة على أكبر مساحة من الأرض وطرد أهلها، تقول مجسدة هذه الرؤية(#).

هذه الأرض امرأة
في الأخاديد في الأرحام / سر الخصب واحد
قوة السر التي تنبت نخل/ وسنابل
تُنبت الشعب المقاتل.

حمزة اللاجئ الفلسطيني تهدمت داره بفعل الاحتلال فانضم إلى قافلة اللاجئين يبحث عن مأوى ولكنه لم يضعف أو يستسلم، بل ظل صامداً مرفوع الجبين، لم يغادر أرضه، عمدت الشاعرة إلى تصوير مشهد درامي مأساوي لهمجية الاحتلال وما يفعلونه بأرض فلسطين وأبنائها، فجسدت عملية هدم منزل حمزة وتشتيت أسرته.

يتجلى في هذا المقطع التلازم والامتزاج بين الإنسان الفلسطيني وأرضه للتعبير عن علاقة مستمرة غير منبتة، وكان هدف الصهاينة هزّ العلاقة بقتل الفلسطيني وتدمير بيته، فأرض فلسطين في رؤية الشاعرة امرأة تلد المقاتلين هذه الأرض المباركة تنبت نخلا رمز الأصالة العربية، وسنابل رمز الخير وعيش الإنسان، "إن المرأة عند الشاعرة مساوية للأرض؛ لأن المرأة تلد، وكذا الأرض فهي رمز الخصب والعطاء".

إن اغتيال اللاجئ المشرد في المنافي وعلى أرصفة الغربة هو- في رؤية الشاعرة - عودة حقيقية لهذا الغائب الغريب إلى الوطن؛ من أجل أن يعانق الأرض، ويحتضن كل ذرة من ذراتها؛ ويفترش حقول القمح وبيارات البرتقال؛ ويعانق هامات جبلي:(عيبال)و(جرزيم) و(قبة الصخرة)، تقول الشاعرة في استشهاد الشهيد وائل زعيتر الذي اغتالته العصابات الصهيونية في إيطاليا(#):

يا بعيداً، يا قريباً نمْ على الصدر الذي
يفتحه"عيبال" من أجلك، أسند
رأسك الشامخة اليوم إلى "القبة"
فالصخرة في القدس احتوتك الآن حين الموت أعطاك الحياة.

المتصفح لأشعار فدوى طوقان الأخيرة، يكتشف أنها لم تترك مناسبة إلا وتطرقت فيها إلى وحشية الاحتلال وأساليبه الدموية التي اقترفها بحق المشردين من أبناء شعبها الفلسطيني، ومنها أسلوب الاغتيال، إذ اغتال العدو المحتل ثلاثة من قادة الفلسطينيين في منازلهم في بيروت وهم: كمال ناصر وكمال عدوان ومحمد يوسف النجار، وقد رسمت لاستشهادهم صورة شعرية أثيرة، تقول(#):

نسراً فنسراً غالهم وحشُ الظلام
سرقَ السمّو من الأعالي.. آه يا وطني
عليك من الدم الغالي سلام
من أجلك انفرطت عقود دمائهم
ؤحبّــاتِ مرجانٍ، كنـــوز لآلئٍ،
ذهب الذين نحبهم..

والواقع إن مَنْ كان ذا معرفة بفلسطين ونضال شعبها وصراعها مع الاحتلال الصهيوني، سينصرف ذهنه إلى تذكر شهداء فلسطين من المشردين عن أوطانهم، والذين سقطوا دفاعاً عن الأرض والمقدسات، وينصرف ذهنه أيضاً إلى تحديد فضاء الاستشهاد على أنه ليس فوق تراب فلسطين المحتلة، وإنما في أرض الشتات والمنافي في بيروت، وفي هذا ما يعمق من حجم المأساة، وهول المصاب، ويزيد من وقعه في وجدان المتلقي، فيشارك هؤلاء المشردين مصيبتهم الفاجعة، وفقدهم المؤلم.

رابعاً - الحنين والذكريات وهاجس العودة إلى الوطن:

الحنين عاطفة إنسانية أصيلة، فما من إنسان إلا ويحن إلى ديار بلاده إذا ما ابتعد عنها أو غاب، ويزداد الحنين عند الفلسطيني شدة؛ لأنه الإنسان الوحيد الذي لا يستطيع العودة إلى دياره، لقد طُرد من أرضه ودياره، وجاء قوم آخرون غرباء وسكنوا مكانه، ولجأ هو إلى معسكرات اللاجئين في الوطن وخارجه.

ومن يراجع ما كتبه الشعراء الفلسطينيين، يجد أن الحنين الدائم إلى الوطن غدا ملمحاً بارزاً من الملامح التي تتسم بها شخصية اللاجئ، فبقاء اللاجئ في أرض الشتات والمنافي أشعل في قلبه نيران الشوق الجارف، وأضحى هاجس العودة وتراً يعزف عليه آلامه وأشواقه إلى وطنه، وأصبح الوقوف على أطلال الديار ومغانيها التي أراد العدو تدميرها وطمس معالمها معلماً رئيساً من معالم شخصيته هذا اللاجئ

اكتسبت تجربة الشاعرة فدوى طوقان الوطنية قيمتها من قدرتها على التنبؤ واستشراف المستقبل، وغرس أمل العودة في نفس الشعب الفلسطيني، فصورت عودة اللاجئ إلى أرضه عودة سلمية، وقد دفع حياته ثمناً لحب الأرض، فكانت صورة هذا اللاجئ البطل "هي الجنين الحقيقي لصورة الفدائي بعد نكبة حزيران".

وفي موضع آخر من خطابها الشعري تصور الشاعرة شوق الفلسطيني وحنينه الدافق إلى موطنه الذي طرده منه العدو المحتل، تقول في قصيدتها" لن أبكي" التي أهدتها إلى شعراء المقاومة في الأرض المحتلة سنة 1968 م في حيفا إثر تمكنها من زيارتها بعد الاحتلال الإسرائيلي لبقية فلسطين:

على أبوابِ يافا يا أحِبائي
وفي فوضى حُطامِ الدُّورِ، بين الرَّدْمِ والشَّوْكِ
وقفْتُ وقلتُ للعينين: /يا عينين قِفا نبكِ
على أطلالِ مَنْ رحلوا وفاتوها
تُنادي مَنْ بناها الدارْ
وتَنعى مَنْ بناها الدارْ
وأنَّ القلبُ مُنسحقاً/ وقال القلبُ:
ما فَعَلَتْ بِكِ الأيامُ يا دارُ ؟
وأينَ القاطنونَ هُنا ؟ / وهلْ جاءَتْكِ بعدَ النأي، هل جاءَتْكِ أخبارُ ؟

وعلى الرغم من أن كلا الشاعرين يقف على بقايا الأحبة الذين رحلوا، فإن المتلقي يلحظ فرقاً بين الوقفتين، فقد وقف الجاهليون على أطلال أحبتهم الذين رحلوا طلبا للكلأ والماء، أو سعيا للرفعة والمجد، وقلما كان رحيلهم هروباً من عدو أو نتيجة لمعركة هزموا فيها، كما حدث للفلسطينيين، وكما جاءت لُغة الشاعرة مُستقاة من المعجم الدلالي للغة الشعراء الجاهليين، فإنها استلهمت أيضاً تجربة شعراء الأندلس الذين بكوا بكاء مراً ما ضاع من مدنهم التي سقطت في أيدي الصليبين الأسبان، وتفجعوا على ضياعها تفجعاً حاراً.

اختارت الشاعرة أشهر المدن الفلسطينية على شاطئ البحر المتوسط وهي مدينة" يافا" المعروفة بحدائق البرتقال؛ لتجعلها مدخلاً للكلام عن القضية الفلسطينية، ومدنها التي ضاعت، وطرد أهلها، فأخذت تبكي هذه المدينة وأهلها الذين شردهم العدوان الصهيوني والانهيار العربي، وأجبروا على تركها ما بين قتيل وطريد.

صَوّرت الشاعرة في هذا المشهد صورةَ الفلسطيني الذي ظل في ترحاله وظعنه يجتر ذكريات وطنه الذي طرد منه، وسكنه أقوام غرباء فلم يعد يملك إلا الوقوف على الأطلال، ونعي أهل الدار، وذم الأيام وصروف الدهر، وجاء التصوير بلغة سهلة واضحة وعاطفة رقيقة مشعة؛ ليكون أقوى تعبيراً عن الإحساس بالفقد.

توسلت الشاعرة للتعبير عن حالتها الشعورية الإيقاع النغمي الذي أدى دوره في التجسيد الحي لأحاسيسها المفجوعة في وطنها، فاستثمرت الإمكانات الصوتية للمدات الطويلة في ألفاظ(أبواب، يافا، يا أحبائي فوضى، حطام)؛ لتكون وسيلة تنفيس عن عواطفها المكبوتة،وتصبغ الإيقاع بصبغة حزينة ملتاعة، واستغلت أيضاً ما يكتنزه حرفا ( القاف- الكاف)، وهما ذا إيقاع صاخب يشبه الطرق، طرق أبواب من ناموا عن الحق العربي وتطلب من كل إنسان أن يستنقذها، فضلاً عن استخدام الأصوات اللينة الرقيقة الهامسة التي تناسب صوت الدمع مثل صوت النون الذي يعبر عن الحزن والنواح، وصوت "الدال" الرخو الذي يتساوق مع قطرات الدمع.

وفي لوحة مترعة بالحزن والألم والذكريات، تصور الشاعر موقف الفلسطيني من أرضه التي هُجّر عنها، إنها تقف لتبكي شعباً بأسره يُرحّل عن وطنه قسراً ثم يُرحّل ويُرحّل، ويترك دوره أطلالاً يقطنها الغرباء الغزاة بعد أن انقطعت أخبار بناة الدور، وأصحاب البساتين والقصور(#):

هُنا كانوا، هُنا حلموا
هُنا رَسموا مشاريعَ الغدِ الآتي
فأينَ الحُلْمُ والآتي؟ وأيْنَ هُمُو؟
وأيْنَ هُمُو؟

إن إنعام النظر في الأشعار التي صورت فيها اللاجئين المشردين، تهدي إلى القول بأن الحنين إلى مدن فلسطين والشوق العارم إلى أهلها لا يفارق الفلسطيني في حياة التشرد والنفي، وهل ينسى الإنسان مباهج العيد في المدينة؟ وهل يغيب عن ناظريه ذلك المنظر الذي اعتاد أن يرى الحساسين تغرد والأطفال تمرح وتلعب؟

وعلى الرغم من أن فترة اللجوء قد طالت، وخابت آمال اللاجئين في عودة سريعة إلى ارض الوطن، وتعمقت آلامهم ومعاناتهم في المنافي والشتات، فإن الحنين والشوق إلى الوطن لم يفارقهم، وأن الأمل في العودة لم تخبُ جذوته. فقد صورت الشاعرة في غير مكان من شعرها حنين اللاجئ إلى مدن الوطن السليب، فأخذت تذكر يافا وحيفا وبيسان والقدس، وطوباس، وغيرها من المدن، وجسدت شوقه العارم إليها، إنه يشتاق لعودة هذه المدن إلى عروبتها وإلى أهلها الفلسطينيين الأصليين وتخليصها من براثن الاحتلال الصهيوني الجاثم على صدورهن ليل نهار.

الله يا بيسان!/ كانت لنا أرض هناك،
بيّارة، حقول قمح ترتمي مد البصر
تعطي أبي خيراتها / القمح والثمرْ/ كان أبي يحبها يحبها.

استمدت الشاعرة مفردات خطابها الشعري وتراكيبه من الواقع اليومي للشعب الفلسطيني، وصاغتها بلغة حياته اليومية، وقد استخدمت لفظة (بيّارة)، وهي لهجة فلسطينية محلية، وأدخلتها في سياق شعري أكسبها دلالات شعرية موحية، فأخذت تشع في مكانها في النسيج اللغوي معاني وأحاسيس ثرة، وأثارت ذكريات وشجوناً وحزناً جعلت المتلقي يتساءل بحيرة أين هي بياراتنا؟ هل ستعود يوماً؟، فيزداد ارتباطه بالأرض، وتصميمه على تحريرها.

إن المعاناة وآلام التشرد والعيش في المخيمات البالية والمعاملة السيئة التي لقيها اللاجئون في مخيمات الشتات قد جعلت الحنين إلى العودة في حنايا اللاجئ جارفاً، والشوق إلى دياره قوياً، إنه يقرر العودة إلى وطنه ولو كلفه ذلك حياته:

أتغصب أرضي؟ أيسلب حقي وأبقى أنــا
حليف التشرد أصحب ذلة عاري هنـــا؟
أأبقى هنا لأموت غريباً بأرض غريبــة؟
أأبقى ومن قالها؟ سأعود لأرضي الحبيبة
بلى سأعود، هناك سيطوف كتاب حياتي
سيحفر على ثراها الكريم ويؤوي رفاتي
سأرجع لا بد من عودتي
سأرجع مهما بدت محنتي
وقصة عاري بغير نهاية
سأنهي بنفسيَ هذي الرواية
فلا بــد لا بـد من عودتي.

صورت الشاعرة مشاعر القلق والغربة التي كانت تعتمل داخل هذا اللاجئ المشرد، ومع ذلك فإن الأمل في العودة ما زال حلماً يراوده، ويسيطر على نفسه وفكره، وقد سعت للتعبير عن هذه المشاعر إلى استغلال القيم النغمية المنبعثة تكرار بعض الجمل والعبارات" سأرجع لا بد من عودتي"، التي اتخذت منها نقطة ارتكاز لتصوير حالة اللاجئ النفسية وتأزمه من المحن والأزمات التي حلت به وجعلته يردد هذه العبارة؛ وهكذا تجلت وظيفة الحوار الداخلي في رسم أبعاد شخصية اللاجئ من الداخل، بحيث تناسق الحوار مع الحالة النفسية لتلك الشخصية، وما تشعر به من وقلق وحصار واضطراب، إلى جانب كشفه للبعد النفسي للشخصية وصراعها الداخلي الذي يأتي موازياً لما يحدث في الخارج، ويبدو أن الشاعرة قد وجدت في أسلوب الحوار الداخلي عوناً لها في بناء خطابها الشعري بناء سرديا، وذلك لأن الحوار" يوضح أبعاد القضية المطروحة أو الموضوع المثار على نحو يزيده ثراء وتكثيفاً.

خامساً - الحث والتحريض:

لا شك في أن الشاعر في كل زمان ومكان هو مشعل حرية ومصباح تنوير؛ لما أتاه الله من بصيرة مستنيرة، وقدرة على إدراك حقائق الأمور، وكشف أغوار الواقع وسبرها، ومنحه موهبة قادرة على الإبداع والخلق.

لم تقف الشاعرة عند رصد المعاناة والآلام والأوصاب في حياة اللاجئين، وإنما أدركت المسئولية الملقاة على عاتقها في تحريض اللاجئين على مقاومة المحتل، والدعوة للتشبث بالأرض، وبث الأمل والروح في نفوس اللاجئين في العودة إلى أرض الوطن، إن رسالتها كشاعرة تنطلق من مشاركتها المجتمع مشاركة صحيحة وفاعلة، تنطلق فيها من رؤية واقعية شاملة، تستوحي عناصرها من روح الشعب، ومن ثمرة إحساسها ونتيجة تفكيرها، تقول في وصفها لإحدى المشردات الفلسطينيات وابنها اليتيم(#):

تململ في حضنها فرخها فضمّته محمومة ثائره
ومالت عليه وفي صدرها مشاعر وحشية هادره
لترضعه من لظى حقدها ونار ضغائنها الغائره

جسدت الشاعرة في هذا المقطع ما يعتمل في نفس الفلسطيني المشرد من حقد وكراهية على ذلك العدو الذي جعل الأم أرملة والابن البريء يتيماً، ولم يكن هذا الحقد إلا ردّة فعل مشروع، واعتمال لمشاعر الأخذ بالثأر واستعادة الوطن السليب، ذلك أن المشرد الفلسطيني برغم فداحة المأساة وعظم المصاب، لم تكن مُمارسته النضالية في يوم من الأيام ذات حقد أعمى، وأنه لو قُدِّر له أن يستعيد حقوقه، ويسترجع وطنه دون أن يُريق قطرة دمٍ واحدة لما قصَّر عن ذلك.

وفي موطن آخر جسدت الشاعرة صورة اللاجئين وهم يواجهون الهجمة الصهيونية، وقد سقط منهم كثير من الشهداء في إبان طردهم عن ديارهم وبيوتهم عام 1948م. ففي لوحة إنسانية رسمت صورة إحدى المشردات وهي تتذكر ذلك اليوم الأسود يوم الخروج والتشريد والفقد، فقد الوطن والزوج، تقول في قصيدة رقية(#):

وطالعها في رؤى الذكريات
فتاها نجيّ العلي والطمــاح
إباء الرجولة في بردتيـه
وزهو البطولة ملء الوشـاح
يشدّ على الغاضب المستبد
ويضرب دون الحمى المستباح
فيا من رأى النسر تجتاحه
وتلوي به بفتات الريــــاح
تهاوى صريــعاً وأرخى على
حطام أمانيــــه ريش الجنـــاح

المتأمل في النص السابق، يدرك أن رسالة الشاعرة تمثلت في دحضّ ادعاء الصهاينة بأن الفلسطينيين اللاجئين تركوا أرضهم وديارهم بمحض إرادتهم ورغبتهم، دون قتال أو دفاع، بيد أن الحقيقة التي لا تقبل جدال أن اللاجئين قاوموا ما استطاعوا، وشردوا غير مرة داخل وطنهم، إلى أن ألقت بهم قوة الصهاينة الغاشمة إلى المنافي والشتات، فاقترنت في هذا المشهد" صورة الشهيد بعنفوان النسر، واجتمعت فيه صفات من الفروسية المجيدة في نبل الكفاح والإباء، وإجابة الداعي، وفداء الحمى، وفي ظل واقع التشرد صار على المرأة اللاجئة مواجهة الواقع الجديد القاسي فصار المخيم مصنع الرجال الذين لا يديرون ظهورهم للوطن وتشاركهم المرأة في ذلك"(#).

وعلى الرغم من الهزائم والإحباطات التي حلت بالعرب في تاريخهم المعاصر، وخلفت في بعض النفوس الضعيفة شيئاً من اليأس والإحباط والقنوط، وفقدان الثقة والأمل، فإن الشاعرة كانت لها رؤية مخالفة لذلك الموقف، فهي لم تتشاءم، ولم تفقد الأمل في قدرة أمتها على النهوض من هذه الكبوة، وظلت متفائلة بالنصر القريب الذي سيحققه شباب المقاومة الفلسطينية البواسل، إنها تخاطب وطنها بعد حدوث النكبة الأولى عام 1948 م قائلة(#):

ستنجلي الغمرة يا موطني ويمسح الفجر غواشي الظلم
والأمل الظامئ مهما ذوى لسوف يروى بلهيــب ودم
فالجوهر الكامن في أمتـي ما يأتي يحمل معنى الضرم
هو الشباب الحر ذخر الحمى اليقظ المستــوفر المنتقم
لن يقعد الأحرار عن ثأرهم وفي دم الأحرار تغلي النـقم

جسدت الشاعرة في هذه الأبيات تصميم اللاجئين الفلسطينيين على الثأر لوطنهم في صور شعرية موحية، موظفة بعض الدال التي تكتنز بطاقات إيحائية غنيةمثل: الفجر، والأمل، ومن هنا تكمن روعة الصورة الشعرية" بما فيها من تفاؤل وأمل في المستقبل، حيث يشرق الأمل، ويتبدد اليأس، ويضيء الغد، علاوة على روعة خيال الشاعرة في الصورة، ودقة اختيارها للألفاظ"(#).

وتعود الشاعرة في موطن آخر من شعرها؛ لترسخ في ذهن المتلقي ثيمة الأمل الذي ينبثق من دال "الفجر"، فقد عبرت عن تفجعها وألمها لمأساة استشهاد أبناء شعبها من المنفين المشردين من أمثال:( الكمالين والنجار)، إذ تقول متأوة(#):

أواه يا وطني الحزين
كم ذا شربتَ وكم شربنا
في مهرجانات الأسى والموت كاسات العصير المر
لا أنتَ ارتويتَ ولا ارتوينا.
إنا سنبقى ظامئين/ عند الينابيع الحزينة سوف نبقى / ظامئين
حتى قيامتهم مع الفجر الذي/ حضنوه لا تموت ولا يذوب لها حنين.

عبرت الشاعرة عن إصرار الفلسطيني على مواصلة الطريق حتى الوصول إلى إحقاق الحق في الحياة والوجود بلغة شفيقة محملة بدلالات غنية بالمعاني، وصور شعرية مترعة بالإيحاءات، وإيقاع نغمي حزين، وعلى الرغم من هذا الإيقاع الحزين، فالشاعرة لا تلبث أن تتحد – حتى وهي داخل بوتقة "الرحيل"– مع رؤيا الفجر، وقيامة الفرسان، ولا تلبث أن تسترد القدرة على المسير، ومواصلة الطريق، حتى صيرورة الغد الآتي، والفجر الذي يلوح في الأفق...إنها القيامة التي ستأتي بالأمن والعزة والحب والسلام(#).

وفي قصيدة أخرى تتساءل الشاعرة في مرارة وألم عمن يثأر لكرامة اللاجئ المهدورة، فلم تجد سوى الجيل الصاعد من أبناء شعبها، تقول(#):

متى يشتفي الثأر؟ يا للضحايا
أتهدر تلك الدماء الطاهره
ويا للحمى! من يجيـب النداء
نداء جراحاتــه النافره

وظلت الشاعرة- انطلاقها من رسالتها السامية - تحرض اللاجئ الفلسطيني وتحثه على مقاومة المحتل، وتستصرخ أبناء العروبة وتستنهض هممهم لنصرة شعبها، والانتقام من القتلة الذين استباحوا الوطن وقتلوا أبناءه(#):

آه، وامعتصماه!
آه يا ثار العشيره

وبرغم الأسى واشتداد الألم والمعاناة النفسية وتزايد الهموم والمحن، فإن اللاجئ انطلاقاً من رؤية الشاعرة الإنسانية لم ييأس، ولم يسيطر عليه الحزن والكآبة، إنه لم يفقد الأمل في العودة إلى الوطن، فالغد محمل بالنصر والأمل، لقد رفضّ الهزيمة، ودعا للمقاومة والنضال والثورة على الظلم والطغيان من أجل طرد المحتل وتحرير البلاد. ومن هنا فإن الشاعرة بعد النكسة عام 1976 م تتطلع إلى ميلاد جديد، ويقظة عربية تبشر بالنصر وعودة الحياة إلى اللاجئين من أهل فلسطين(#):

ستقوم الشجرة
ستقوم الشجرة والأغصان
ستنمو في الِشمس وتخضر
وستورق ضحكات الشجرة في وجه الشمس
وسيأتي الطير.لابُدّ سيأتي الطير.. سيأتي الطير

تنهض القصيدة برمتها على فكرة محورية هي الصراع بين الخير والشر، بين الحق والباطل، وقد لجأت الشاعرة للتعبير عن هذه الثيمة إلى توظيف الرمز الذي يرتكز على رمزين أساسين هما الطوفان رمز لقوى العدوان والاحتلال الصهيوني، والشجرة رمز للأمة العربية، ويدور الصراع بين الطوفان والشجرة وتنتصر الشجرة في نهاية المطاف، وتصمد أمام الطوفان، وتعود إليها الحياة من جديد، وقد تضافر الرمزان الجزئيان في هذه القصيدة لتدعيم بناء الصورة الكلية، وتآزرت مع بقية أدوات التعبير الأخرى من صور ولغة مفعمة بالإيحاءات، كما أسهم إيقاع بحر المتدارك ذي النغمات السريعة في سرعة قيام الشجرة ونموها وسرعة عودة الطير إليها، فضلاً عن إسهام التقنيات الأخرى من تكرار وحوار ومفارقات تصويرية في تأكيد رفض فكرة الاحتلال وتحديه وفي إبراز روح التفاؤل والأمل بالنصر.

أدركت الشاعرة من خلال تجربتها المريرة مع المحتل الغاصب، ومن خلال خبرتها العميقة بتجربة شعبها المكافح المناضل؛ أن عودة اللاجئين إلى ديارهم لن تكون إلا باستمرار الكفاح والنضال، وأن طرد هذا العدو واسترداد المقدسات وتطهيرها لن يتأتى إلا عن طريق المقاومة والجهاد، وقد عبرت عن رؤيتها هذه بطريق موح شفيف غني بالدلالات الخصبة، تقول مخاطبة طفلين لاجئين في الضفة الشرقية - وهما رمز جيل المستقبل من الشباب-، وهما اللذان سيحملان عبء تحرير الوطن، ويأخذان دورهما في قصة الكفاح الطويلة؛ لتخليص الوطن من دنس المحتلين، (#):

طويلةٌ قصتُنا / طويلةٌ / حكايةُ الكفاح
ويومها يا كنزنا المنذور/ ستعرفون
متى وأين يلتقي المشتتونْ
وكيف تنتهي حكاية الشتاتِ / والضياعْ.

الدارس المتفحص لصورة اللاجئ في تجربة الشاعرة فدوى طوقان يرصد تطوراً واضحاً في رؤيتها الشعرية، وفي طرائق بناء صورها الشعرية، فقد تطورت تلك الرؤية وأصبحت أكثر عمقاً وتوهجاً، إذ اختفت في أشعارها صورة اللاجئ الحزين اليائس الباكي القلق، وحلت محلها صورة اللاجئ المتمرد الثائر الرافض للذل والهوان، الساعي إلى استعادة وطنه بالمقاومة والجهاد، المستعد لتقديم الشهداء حتى يتحرر الوطن من الاحتلال، وقد ملأ الأمل والتفاؤل والإرادة حنايا قلبه، أما على الجانب الفني، فقد حققت صورة اللاجئ قدراً من النضج والاكتمال، واتجهت في تجسيد صور اللاجئ إلى الصور الكلية النامية والعضوية المتآزرة مع بقية أجزاء النص الشعري، والمحملة بالطاقات الإيحائية التي تخدم رؤيتها الشعرية، مع استخدام موفق للتعبيرات الموحية، وتوظيف للوسائل التعبيرية المستوحاة من الفنون الأخرى؛ لتعبر عن تجربة إنسانية تماهت فيها الأبعاد الذاتية مع الأبعاد الجمعية.
استلهمت الشاعرة فدوى طوقان مادتها من مأساة اللاجئين، التي أوحت إليها بصور دامية من واقعهم الأليم: من تشريد وتوزع في المنافي والشتات، ومزجت صورها برؤيتها الذاتية وتجربتها الإنسانية، وتفاعلت معها وفق قدرتها وموهبتها.

امتاحت الشاعرة صورها الشعرية وخيالها من واقع المأساة، فجاءت صورها صادقة نابضة بالحركة والصوت والإيحاء، نابضة بعمق المأساة التي نزلت بالشعب الفلسطيني وما تولد عنها من معاناة حسية ونفسية. كذلك حتمت طبيعة الموضوع الذي عالجته الشاعرة انتهاج سبيل السهولة والبساطة والوضوح في اللغة الشعرية: ألفاظاً وتراكيب، دون الخروج على المألوف في لغتنا العذبة.

تنوعت صورة اللاجئ في شعرها، وشملت أنماطاُ متعددة من اللاجئين، فثمة المرأة اللاجئة التي أولتها اهتماماً خاصاً، وأفردت لها قصائد مستقلة، وهناك الرجل اللاجئ الذي قدم روحه فداء للوطن والعودة إليه، ورسمت أيضاً صوراً فردية للاجئ المشرد تجلت فيها ملامحه المادية والمعنوية، إلى جانب رسمها صوراً جماعية للاجئين بخاصة أولئك الذين مارست العصابات الصهيونية بحقهم القتل والاغتيال.

لم تأت صورة اللاجئ عند الشاعرة صوراً فردية، وإنما جاءت في مجملها صوراً جماعية لشعب طُرد قسراً عن أرض آبائه وأجداده، وانتزع من دياره ليلقى بعيداً عن وطنه، وجسدت إصرارهم على العودة إليه. وأن غربتهم مهما طالت فلا بد أن تنتهي بالعودة، وكشفت هذه الصور للمتلقي ما تزخر به من حزن وأسى، وما تنبض به من شوق عارم، وحنين جارف إلى الوطن، إدراكاً منها بأن الشعر يظل من أهم وسائل التعبير عن خلجات النفوس، وتصوير آمال الإنسان وتطلعاته.

كشفت الدراسة أيضاً عن أن مستوى التوظيف الفني لصورة اللاجئ الفلسطيني في تجربة الشاعرة فدوى طوقان قد جاء بدرجات متفاوتة، فإذا كانت قد مالت في تجسيد بعض صورها إلى استعمال الأسلوب التقريري المباشر، وما يتبعه من أساليب الوعظ والإرشاد، فإنها سلكت في مواطن أخرى طريقة التعبير بالصورة، وإثرائها بالانفعال الصادق، والعاطفة الجياشة، والإيقاع النغمي الملائم للموضوع، مع المحافظة على الوحدة العضوية للقصيدة، إلى جانب توظيف الأسلوب الدرامي وأدواته من حوار، واسترجاع وتقطيع وتناص وغيرها؛ الأمر الذي أثرى التجربة لديها وزادها عمقا وثراء.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى