الأحد ٣ حزيران (يونيو) ٢٠١٢

قراءة في مجموعة "حفنات" لعايدة نصرالله

الدكتورة إيمان يونس

أصدرت الكاتبة عايدة نصرالله مجموعتها القصصية الأولى لهذا العام، تحت عنوان "حفنات". و"حفناتها" هذه عبارة عن مجموعة قصص قصيرة جدا كانت قد كتبتها نصرالله قبل خمس سنوات تقريبا، لكنها أبت أن تخرجها إلى النور آنذاك، وآثرت أن تبقيها في درج مكتبها فترة من الزمن لتتأكد أنها قد اختمرت بما يكفي، فتقدمها إلى قرائها نبيذا معتقا أُشبِع رائحة ونكهة.

وبالفعل، فإن هذه الحفنات تعبق بروائح التجارب الإنسانية على اختلاف أنواعها، مما يعبر عن عمق التجربة الحياتية للكاتبة نفسها. فقد لملمت نصرالله حفناتها من شتى مجالات الحياة ونفحتها بنقد لاذع لا يخلو من سخرية وتهكم. فركزت على شخصية المرأة الشرقية المقهورة، والمضطهدة، المسخرة قلبا وقالبا لمتعة رجل أناني لا يرى فيها غير صورة الجسد، والمرأة المحرومة من ممارسة أنوثتها طوعا أو كرها، وتلك التي سلبت منها الأنوثة عنوة. وفي المقابل، عرضت لشخصية الرجل، فهناك حضور قوي للرجل الشرقي بكل وجوهه وأقنعته وزيفه، فهو الرجل الزوج، الأخ، العشيق، الحاكم، السياسي، أو حتى رجل الدين. وهو بجميع وجوهه هذه رجل سلبي يمارس دعارته سرًا وعلانية، وينفث رجولته كما السم القاتل حيثما يحل، وهو منافق تارة، وخائن تارة، وبليد تارة.

وعليه، تلعب هاتان الشخصيتان (المرأة والرجل)، الدور الرئيسي في معظم حفنات الكاتبة، فهما القطبان الرئيسان للمجموعة، ومن خلال أدوارهما المتنوعة استطاعت نصرالله أن تقدم صورا واقعية تعبر من خلالها عن الفساد الذي يتفشى في مجتمعاتنا العربية سواء كان ذلك على الصعيد الاجتماعي، أو السياسي، أو الديني.
وفي منطقة وسطى بين هذين القطبين، لم تنس الكاتبة أن تتحدث عن الأطفال والشباب، وإن لم تمنحمها نفس القدر من العناية التي منحتها للرجل وللمرأة.

فأما الأطفال الحاضرون في المجموعة، فهم أولئك المحرومون من الطفولة، أولئك الذين فرضت عليهم قسوة الحياة ظروفا غير طبيعية، ليعيشوا تحت وطأة الاحتلال دون أمن أو استقرار، يحلق فوق رؤوسهم شبح الموت مهددا إياهم بالخطف في أي لحظة ودون سابق إنذار.
وأما الشباب، فهم أولئك المولعون بالعولمة وما تقدمه لهم من "خيرات"، فيعيشونها بالكامل، يقطفون ثمارها مستمتعين بعالمهم الافتراضي الذي يصوغونه ويشكلونه كما يحلو لهم بعيدا عن واقعهم الأليم.

على الرغم من هذه النظرة السلبية للكاتبة تجاه مجتمعها عامة، وموقفها السلبي من الرجل خاصة، إلا أن القارئ يجد في المجموعة بعض الحفنات الخارجة عن السرب. ففي قصتي "خيانة" و"رحمة" مثلا، تلعب المرأة دورا سلبيا، في حين يظهر الرجل بصورة إيجابية أكثر، فهو المضحي والمخلص أما هي فقاسية وخائنة. وهناك بعض الحفنات التي ظهرت فيها المرأة متمردة، ناقمة على المجتمع، ورافضة لجميع أشكال الذل، غير مذعنة لسلطة الرجل. ومن هذه الحفنات أيضا، حفنة "قرقر"، التي صورت من خلالها الكاتبة قسوة الجنود الإسرائليين في تعاملهم مع الأطفال والسكان، لكنها سرعان ما تستدرك الأمر في نهاية القصة، فتصور أحد الجنود بعد مقتل الأم، وقد احتنق ألما لقسوة المشهد.

إن وجود مثل هذه الحفنات "الشاذة" داخل مجموعة متجانسة ومتناغمة في إطارها العام، يدل على وعي الكاتبة وإدراكها لوجود استثناءات تمنعها من التعميم، وتعطي للقارئ من خلالها بصيص أمل يبشر بمستقبل أفضل، وبإمكانية تغيير قد يقلب الموازين.
وقفت حتى الآن على المضامين الرئيسة التي تطرقت لها المجموعة بشكل عام، وسأقف فيما يلي عند جانب آخر، هو الأسلوب الذي اتبعته الكاتبة في التعبير عن هذه المضمامين باختلاف أنواعها، وذلك بشكل أكثر تفصيلا.

ذكرنا من قبل، أن هذه المجموعة عبارة عن قصص قصيرة جدا، والقصة القصيرة جدا هي جنس أدبي له خصائص أسلوبية عامة تميزه عن غيره من الأجناس الأدبية، كالتكثيف، والإضمار، والتسريع، وقصر الحجم، والإرباك، والإدهاش، وتنويع الاستهلال والاختتام. من هنا، فالكاتب يجب أن يكون على دراية تامة بخصوصية هذا الجنس الأدبي، وأن يكون شديد الحساسية للتقنيات السردية التي يوظفها حتى يتمكن من تقديم عمله ضمن إطار محدد دون أن يخرج عنه، وهذا ليس بالعمل البسيط أو السهل كما قد يبدو للوهلة الأولى. ومع ذلك، فلست أريد هنا أن أقف عند الخصائص الأسلوبية العامة لهذا الجنس، لأنها لا تكشف عن خصوصية العمل الذي نحن بصدده، بل أتغيأ الوقوف عند الخصائص الأسلوبية والتقنيات السردية الخاصة بالكاتبة وبالمجموعة نفسها، والتي من شأنها أن تكشف عن تميزهما معا. أما هذه الخصائص، فهي:

 استحضار النص البصري: على الرغم من أن التكثيف والاختزال من أهم مقومات هذا اللون الأدبي، وعلى الرغم من أن الكاتبة قد اختزلت بالفعل الكثير من التفاصيل في حفناتها، إلا أن القارئ يستطيع أن يسترجع هذه التفاصيل المختزلة وأن يستحضرها من جديد في مخيلته مشكلا مشهدا بصريا متكاملا. وخير مثال على ذلك قصة "أنشودة"، فهي رغم تكثيفها الشديد لا تمنع القارئ من استحضار عملية هدم البيوت وانهيارها فوق الأطفال لتحولهم إلى جثث هامدة في ثوان معدودة، وبذلك يتحول النص السردي القصير إلى نص بصري ممنتج في ذهن المتلقي، أو إلى لقطة سينيمائية بكامل تفاصيلها، مما يدل على استخدام مدروس لتقنية التكثيف في معظم الحفنات، وعلى أن عملية الاختزال قد تمت بعناية شديدة بحيث لا تعيق استحضار المشهد.
  السخرية والتهكم: السخرية والتهكم خاصتان حاضرتان في معظم حفنات المجموعة، فالكاتبة تكاد لا تصف موقفا إلا وتبث في ثناياه شيئا من السخرية المبطنة تارة والمعلنة تارة أخرى، أو السخرية المرتبطة بالمفارقة وجدلية المتناقضات. وقد تجلت هذه السخرية على مستويات المضمون واللغة والوصف. ففي قصة "مناورة" مثلا، ترى أن ضرب الأطفال من قبل الجنود هو أمر طبيعي، فتعلق على ذلك بقولها ساخرة: "عادي جدا". وفي قصة "مصافحة" تسخر من رجال الدين الذين يرفضون مصافحة النساء قبل الصلاة كي لا يُنقض وضوؤهم، في حين أنهم يمارسون الدعارة بعد ذلك مباشرة. وفي قصة "تسبيح" تصف ساخرة رد فعل الشيخ الورع حين تمر امرأة من أمامه، إذ تخرج عيناه من مكانهما لتصبحا بحجم كرة قدم. مما لا شك فيه، فإن توظيف السخرية في النص في المكان المناسب، يحقق ما سماه بارت بـ "لذة النص"، فتتحول القراءة إلى متعة، وهذه المتعة ليست وسيلة وإنما هي غاية النص الإبداعي.
 الفكاهة: استعملت الكاتبة أسلوب الفكاهة في أكثر من موضع، لكنها جعلت من بعض حفناتها لقطات كوميدية مضحكة، الأمر الذي قد لا يحسب لها بل عليها. إذ يتفق النقاد على أن هيمنة الفكاهة على النص؛ تخرجه من دائرة الأدب الرسمي إلى دائرة الأدب غير الرسمي، كما هو الحال في بعض قصص "ألف ليلة وليلة" وحكايات "أشعب"، إذ يتحول النص في هذه الحالة إلى طرفة أو نكتة، ولا يرقى إلى رتبة الأدب الرسمي. وقد برز هذا الأسلوب لدى الكاتبة في أكثر من نص، مثل: "بلادة" و "نزول".

 الإيروتيكا: تعج مجموعتنا بحفنات "إيروتيكية" صرفة، وبمشاهد جنسية جريئة. ولعل توظيف الأسلوب الإيروتي في بعض النصوص جاء لخدمة الفكرة أو المضمون، إذ عبرت الكاتبة من خلال أسلوبها هذا عن موضوعة الجنس كهاجس يعشش في عقول أبناء المجتمع رجالا وشبابا ونساء، وكأنما هو دافعهم وغايتهم ومرادهم الوحيد في كل مكان وزمان. وبذلك تكون الكاتبة قد مست أحد المحظورات أو التابوهات في الأدب، ولكن بأسلوب لا يخدش الحياء العام، ولا ينفر القارئ كما هو الحال لدى بعض الكتاب الكاتبات في عالمنا العربي، حيث غدا موضوع الجنس "موضة" رائجة في فن الرواية أو القصة.

 الرمز: تتضمن بعض الحفنات صورا رمزية وعلامات موحية تحمل في طياتها رسائل مباشرة وغير مباشرة. ومن الملفت للانتباه لدى الكاتبة في هذا السياق، استعمالها للحيوانات كرموز مختلفة. فعلى سبيل المثال استعملت لفظة "القطة" كرمز إلى شخصية المرأة الذكية المتمردة في قصة "قطة"، وكرمز إلى المرأة الشبقة في قصة "عزاء"، كذلك استعملت لفظة "القطط" كرمز إلى الأطفال في براءتهم ووداعتهم في قصة "قرقر". أما لفظة "الكلب" فقد استعملتها كرمز إلى الرجل الحقير مهما كان منصبه أو مكانته الاجتماعية. وأما لفظة "أفعى" فرمزت بها إلى المرأة في دهائها وحنكتها مرة، وإلى العضو الذكري مرة أخرى. ومن الرموز الشائعة في هذه المجموعة أيضا "اللون الأبيض" الذي استعملته الكاتبة في سياقات مختلفة لترمز به إلى الكفن تارة كما في قصة "منام"، وإلى النقاء تارة أخرى كما في قصة "ورقة بيضاء".

 الأسطورة والتراث: وظفت الكاتبة في هذه المجموعة الكثير من العانصر التي استوحتها من قصص التراث والأساطير العربية والعالمية، مثل: "روميو"، أراغون"، "إلزا"، "بئر يوسف"، "بيرسيئوس"، وغيرها. وهذه العناصر تدل على اطلاع واسع للكاتبة على الثقافتين العربية والغربية من ناحية، وعلى نوعية المتلقين الذين استهدفتهم في هذه المجموعة من ناحية أخرى. فالكاتبة توجه عملها إلى قراء محددين، تتوقع منهم التمتع بحد أدنى من الثقافة بحيث تمكنهم من فك شيفرة حفناتها والوصول إلى قصديتها، وهو أمر يتعذر على قارئ عادي، أو قارئ غير مثقف.
 النهايات المفاجئة: تلعب النهايات دورا أساسيا في كل عمل أدبي، إذ يتواصل القارئ مع النص بغية الكشف عن النهاية، وكلما كانت هذه النهاية بعيدة عن أفق توقعاته كان النص أكثر إرباكا للقارئ، وبالتالي أكثر تشويقا. وهذا ما تتميز به مجموعة "حفنات"، فنهاياتها مبتورة حينا، وغير متوقعة حينا آخر، شديدة التكثيف من ناحية، ومربكة من ناحية أخرى. وقد جاءت النهايات في بعض الحفنات كجمل مستقلة بعيدة عن النص فيزيائيا ومعنويا، فكانت أشبه بتعليق أو بتوقيع من قبل الكاتبة نفسها، وهذه نهايات غير مألوفة في النص الأدبي، وبرزت هنا كسمة خاصة أكسبت نصوص هذه المجموعة فرادة وتميزا.

وقفت حتى الآن على مواطن الجمال والقوة في مضامين وأساليب السرد لهذه المجموعة، وحتى أكون موضوعية أكثر في تناولي لها، لا بد لي من الإشارة إلى وجود بعض مواطن الضعف أو بعض المواضع التي أخفقت فيها الكاتبة بشكل شوش النص والتلقي معا. ومثال على ذلك، لجوء الكاتبة إلى التكثيف المبالغ به أحيانا في بعض الحفنات، مما جعل بعض حفناتها جملا مستقلة غير متماسكة، ولجأت إلى استعمال علامات الحذف عوضا عن الكلمات، وبهذا فقد امتلأت بعض حفناتها بالفجوات بدلا من التعبير الكلامي، وهو أمر غير مستحب في القصص القصيرة جدا، لأنها ليست بحاجة إلى مزيد من التكثيف، ونجد ذلك في "قارورة" و"جريمة" و"احتضار".
ومن المآخذ التي يمكن أن تؤخذ على الكاتبة في هذه المجموعة أيضا، إيراد الشرح والتعليل لبعض المواقف في القصة، فكأن الكاتبة لا تثق بذكاء المتلقي، فتبرر وتوضح وتعلل وتشرح، وهذا كله يضعف النص مضمونا وأسلوبا، وقد برز ذلك في قصة "تسبيح" على سبيل المثال.

وخلاصة القول، فإن هذا الاستعراض السريع لمجموعة "حفنات" باعتبارها باكورة أعمال الكاتبة، يبشر بولادة كاتبة متميزة، ستقدم لنا نصوصا جامحة، متوثبة، جريئة، أصيلة..... نصوصا تشبهها هي إلى حد كبير.

الدكتورة إيمان يونس

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى