الأربعاء ١٣ حزيران (يونيو) ٢٠١٢

إنطباعات ليست نقدية

عباس عواد موسى

ولد الشاعر النابغة رادوفان بافلوفسكي من الأم دوستانا والأب بافلِةْ في مدينة نيش الصربية في الثالث والعشرين من نوفمبر قبل قبل أربعة وثمانين عاماً. عاد به أبواه إلى مسقط رأسيهما (قرية جيليزنا ريكا) وتعني النهر الحديديّ بعد بلوغه الأعوام الثلاثة عام 1940, وفيها أنهى دراسته التمهيدية عام النكبتين الفلسطينية والمقدونية بتقدير ممتاز. نشر أولى قصائده الشعرية عام 1952. لينهي دراسته الثانوية في العام التالي.

كانت قريته (جيليزنا ريكا) قد احتضنت موسم الشعر الصيفي عام 1955 عندما ألقى قصائده (حفلات), لتبدأ صحيفة الشباب المناضل التي كانت تصدر في العاصمة (اًسْكوبيِةْ) بنشر قصائده, وفي عام 1956 إلتحق بكلية الحقوق في جامعة كيريل وميتودي وبدأ عمله مترجما لوكالة الأنباء اليوغوسلافية (تانيوغ) وبعد ثلاث سنين أصبح مترجما وصحفياَ في جريدة (نوفا مقدونيا) التي تعني مقدونيا الجديدة, وأصبحت قصائده تنشر في مجلة (رازغليدي) وهي ثقافية تُعْنى بالنشر لكبار كتاب وشعراء البلقان وفي عام 1960 أصدر أول دواوينه الشعرية.
جال كبير شعراء مقدونيا بلدان الشرق الأوسط في نفس السنة, تجوَّل في قبرص ورافقه في لبنان السفير اليوغوسلافي وقتئذٍ (فلادو ماليسكي) ويُقِِرُّ شاعرنا بأن العرب الفينيقيون هم الذين أشادوا مدينة أوخريد أشهر المدن السياحية في مقدونيا, وكانت اللاذقية أكثر المدن السورية التي أعجبته , وكان لمصر أثر كبير في أشعاره فهي بلد الحضارات القديمة وترك له خطوات في الصحراء الليبية.

مقالته الطويلة (فرعون) أدَّت لحصوله على جائزة (ملادوست) عام 1961واعتبر النقاد أن قصائده أضْحت بداية جديدة للشعر البلقاني.

قال لي: إنه الشرق العربي وقد أثرى موهبته الشعرية. فسألته عن قصيدته (عربٌ سُمْرٌ في غزوة) فأبى أن تكون امتداداً لصورة العربي القاتمة في الأدب السلافي ورفض تسييس القصيدة وطالبني بقراءة القصائد العشر لمعلقته (القصيدة المحاصرة).

إنتقل إلى (نوفا كابيلا) بجمهورية كرواتيا عام 1964 وتزوج من (مايا شتيفاناتس) التي أنجبت له طفلة وبعد زواجه بعام حصل على جائزة ( بْراكّا ميلادينوفتسي ) التي يمنحها مهرجان اُسْتروغا الشعري العالمي وأصبح مأواه في بلدة (فيبروفا) بكرواتيا أيضاً.

نقلت معظم اللغات الأوروبية قصائده إليها عام 1966 وفي سنة النكسة الفلسطينية كما يُحِبُّ هو الحديث حصل على جائزة 11 أُكتوبر ألعليا للشعر وفي عام 1973 منحته يوغوسلافيا السابقة جائزتها (اُزْلاتنا اُسْتْرونا).

قرر الرّحيل إلى بلغراد عام 1982 مُحْتَجّاً على صمت العالم المروع إزاء مجازر الصهاينة في لبنان , ومُنْتقداً سياسة عدم الإنحياز التي كانت تقودها يوغوسلافيا.

في عام 1985 ترجم الأسترالي (ريجيناد دي بريي) ديوانه (ألسَّيْر في وُعورة الجبال) فاعتمدته الحكومة الأسترالية منهجاً ومُقَرّراً تعليمياً في مدارسها. وفي نفس العام حصل على جائزة (كوتشو راتسين) للشعر ونُقِلَتْ قصائده لأربعين لغة في العالم.

حذّر الولايات المتحدة من ضرب العراق مطلع التسعينيات وهاجم الأوروبيين المتحالفين معها, وأبلغهم إن الثأر العربي قادم. وأعلن من قريته النهر الحديدي (جمهورية الشعر العالمية) واصطحبني إلى هناك ليهديني حجراَ من قريته وليؤكد لي أن الشعوب ضد الصليبيين الجدد وحلفائهم الصهاينة, ودعا الساسة المناوئين للسياسات الأمريكية إلى الإصطفاف خلف الشعراء لأنهم وحدهم يُحِسّون بآلام الشعوب المُضطهدة.

إلتقيته في زيارتي الأخيرة وسألته عن رُؤيته للربيع العربي فقال لي كلمات شعرية:

عليك أن تتسلَّقَ حتّى تصل قمة الجبل
وهناك في الأعلى كَرِّرْ رفضك للحزن
ولكي تُزيله
عليك أن تهبط لِقاع الأرض السُّفْلِيّ
وأنْ تقتلع السِّرَّ من الجذور
وتُعْلنه أمام الشمس.

كان الشاعر المقدوني الكبير رادوفان بافلوفسكي (عضو المجلس الأكاديمي الأعلى لجمهورية مقدونيا) قد اصطحبني إلى قريته جيليزنا ريكا والتي يعني إسمها (ألنهر الحديدي). عندما أعلن منها جمهورية الشعر العالمية. ولأنه رفض أن يرأس بلاده عقب الإستقلال عن يوغوسلافيا, أطلق عليه الشعب المقدوني لقب (رئيس جمهورية الشعر العالمية). سألته عن سرّ رفضه لترؤس بلاده فأجابني: إنها السياسة الحقيرة التي أسمعتنا عن النظام العالمي الجديد ولن نشهد إلا فوضىً عالمية جديدة. وأعرب لي عن نيته استمرارية شاعريته في الإنحياز للشعب. ولمّا قلت له عشية انهيار الفيدرالية اليوغوسلافية وبزوغ أحزابٍ جديدة إن المثقفين الذين أشاروا عليّ بضرورة اللقاء بك إنخرطوا في الأحزاب الناشئة , فقال لي مبتسماً: لا أستطيع مساعدتهم, دعهم وشأنهم. في قريته أنشد على مسامعي قصيدته التي عَنْوَنَها باسم مسقط رأسه:

جيليزنا ريكا
أنْ تتسلَّقَ الجبالَ
لتسمع الرّعود المدويّة
وجاهي مُنْكسرٌ
أُعْطيك ماءاً, ناراً وحديداً
لتطبخ وتتدفّأ في الأصقاع
في جيليزنا ريكا
ألجبال خلفنا والسهول أمامنا
ألبيوت, ألحدائق والأزهار
في العيون, رَسَمَ القلبُ
الجنود والحافلات
لحظة تلو لحظة وقرناً بعد قرن
لا أحد عاصر العهودَ
لكنه شرب من ينابيعها

قلت له أوليستْ قصيدتك ( عرب سُمْرٌ في غزوة ) مناقضة لمشاعرك الجياشة التي ظهرت في قصيدتك المحاصرة. لم يدعني أُكملُ وأسمعني قصيدته (غزوة):

ليس غير كسيحٍ رومانيٍّ
يرتدي اللباس العسكري
ثَرِيٌّ بحكايات الجاه
يعتلي الحصان
فهل تبقّى جاهٌ بعد غزوة الخبز؟
أتنفَّسُ الصعداء في جيليزنا ريكا
دفنه العبيد كما أَوْصى
رأسه لجهة الشرق ظَنّاً بأن الميّت
سيعود ليكمل
عملاً لم ينته
في إمبراطورية الشرق
أولئك الذين قُتلوا في غزوة
وانتَمَوْا للغرب في إحدى الغزوات
كثير منهم سلافيّون
إستراحوا, غير مُبالين بالأرجوان
وخدوش الجراح من تَلَمُّظِ السكاكين
يحيطون بالجسور القمرية
ليملأوا فراغات الأفئدة

رادوفان بافلوفسكي ليس عصيّا على الترجمة , لكن التاريخ يلاصق قصائده فهو شرب من ينابيع العهود. سألته عمّا يراه جيداً في مقدونيا بعد رفضه لجميع المناصب التي عُرِضَتْ عليه فأجابني على الفور: ألشيء الجيد الوحيد في مقدونيا هو الشعب المقدوني, ولا أرى سُلطة جيّدة في العالم أجمع. فعندما شاهدت الحصار الصهيوني في بيروت جاشت أحاسيسي لقصيدتي المحاصرة. وسيظلُّ الحصار قائماً ما دامت الإمبريالية قائمة. ها هي الحرب في بلادنا تندلع والساسة يتحدثون عن السلام. إنهم كذابون وسياساتهم منحرفة. ورغم أنَّ حديثي هذا معه كان قبل إثنتين وعشرين سنة إلا أنه نبّهني إلى أن القضية الفلسطينية لن تُحلَّ في ظِلِّ بقاء الأنظمة العربية الرّاهنة وأردف: إنَّ التغيير لَقادمْ.

أستسمح القاريء العربي في ترجمتي للقصيدة الأولى من قصيدته المحاصرة فترجمتها عصيّة:

ميزان
لم تتوازن كفّتا العسكر
فاحترقت , حتى الأطلال
وظلَّ حبل المشنقة يتأهب
حتى الطيور في أعشاشها
أعدمها
لم تتوازن كفّتا الميزان العسكريّ
ولا أجنحة لجيش الطيور المُهَجَّرَةِ
تمكنه من التحليق جوّاً
أحد الطيور
وضع بيضاً
بين العينين والشمس
كي يقرأ الألم
في خارطة تحرّكات الجنود
التي افتقدت اللون الأبيض
وفي قشور البيض
استدارت الظلال.
ألقصيدة المحاصرة
 
(إلى الفلسطينيين في بيروت)
ليس من مكانٍ إليه يذهبون
أبعد من شرف الحرية
ودوران الليل والنهار والتدريبات العسكرية
والسماء محاصَرَةٌ
حقّاً ليس من مكانٍ إليه يذهبون
ألبحر هنا
وجريان الماء يعيقهم
ألطريق إلى الموت مفتوحة
حقّاً إنهم
خلال تسع تلالٍ ووديان
لاجئون عطشى
يُغنّون أُنْشودَةَ الحريّة
لا يريدون الذهاب لأيّ مكان
يتشبَّثون بالجذر
بالدم والحُبِّ يُغذونه
بمقدور أعدائهم تفجير المدينة
والبحر يغمره الطوفان

لكن ليس بإمكانهم إقتلاع جذور قصيدتهم.

أطفال فلسطين
 
أطفال فلسطين, ألمقاتلون من أجلها
لا يريدون أن يتخَلَّوا عن حريتهم
يترعرعون كالنبات
أطفال فلسطين يشُبّون في كل الأمكنة
من الرُّعب والفزع انطلقوا
ضد الإحتلال والجيش البغيض
نصبوا خيمة تقيهم من الرياح
ألأطفال في أنفسهم يحملون الحرية
لا يريدون تَرْكَها وحيدة
يعاضدونها
ألحرية تعلمهم أن يشبّوا قبل الوقت
ليحموها من الطُّغاة
ألحرية - أطفال فلسطين
لماذا يقتلونهم؟
ألأنهم يكبرون؟!
 
حزام البحر
أفخاخ الصيادين في البحر
أغصان الأجِنَّة في البحر
فوهات البنادق في البحر
نار القصيدة في البحر
ألعاب الأطفال في البحر
مفقود هناك هو البحر
قد جذبوه
في فضاءات حزام
 
ألف ليلة وليلة
ألف ليلة وليلة
واحدة تلو أخرى
يُظْهِرْنَ جروحاً
ألف ليلة وليلة
تتنقل في موكب الحرية
ليعدن من الحرب
لأرضهنّ الفلسطينية
ألف ليلة وليلة
يحملن سهام الحرية
ألف ليلة وليلة
حكاية شهرزاد
تُؤَجِّلُ حُكْمَ الإعْدامْ
ألف طفل وطفل
ألف معركة ومجزرة
منذ ألف ليلة وليلة
يُلَوِّحون بشُعْلات الحرية.
 
أللاجئون
خلال معالجة المُصابين
في إحدى الليالي الفسفورية
أثناء موجات اللاجئين اللبنانيين
المُراقَبَة
ولو اختَبَأْتَ في نملة
فَسَيَطالُكَ الدَمار
أللاجئون يسبحون في مياه البحر
ألماء يريد أن يخبئهم في الماء
ألجمر في النار, ألسهم في الرماد
في الجانب الآخر للجسر
ألقبطان والقارب, ألملابس والأحذية
ألخوف واليقظة
تُرْمى في أعماق البحر
ألأغنياء يذبحون اللاجئين
المذعورين الجوعى
بَدَلَ الروح يُحْصون الدولارات
في القبضات المشدودة
يندلع بصيص
لحظة الجَزْرِ
فضاءٌ طليقٌ
للحرية المضطهدة.
 
طابق من علب الكبريت
رؤوسٌ فوسفورِيَّةٌ مصفوفة
ألقنابل مربوطة بالحزام
يُشْعِلُ الحزام الجسد
 
في فراغه رَمَيْتُ قطرة من مياه البحر
وبذرة لهب
لأنقذه من الإنفجار
أفزعني صوت لاجئة
تبيع طوابق من علب الكبريت
 
لمن فقدوا مآويهم
ألفساتين البيضاء ممزقة في البحر
يريدها عارية
ألمساجد ترفض العقيقة
أطلال المدينة ترتفع فوق البحر
ألمرأة ذات الجسر الرَّمْلِيْ
ومأواها الطابق الكبريتيّ
في إحدي عينيها - ألصحراء
وفي الأخرى - ألبحر
 
صيدا
بعيدة هي صيدا
ولا تستجيب.
بين المدن الحيّة , مدينة جميلة
وشعب متجذِّرْ
لها من البحر أثر وكذلك من الصحراء
قادها الموت فأضحت غريقة
فتركت الأطلال والليّالِكْ للأثير.
لم يترنح سماء لبنان فوق صيدا
ولم تهتز الأرض اللبنانية تحتها.
 
ألدّامور
شمس تحيا
بظلال الشهداء
تستقر في الدامور.
لا أحد يستجيب للنداءات
وليس من مساكن تأوي أهلها
والأماني الحزينة
تطير في سمائها.
 
صور
وصور
قبل العهد الجديد
بالنار والرّمح
كانت موقَظَةْ
والآن
في العهد الجديد
ظلَّتْ كما هي.

عندما نشر قصيدته هذه عام الخروج الفلسطيني من بيروت قبل ثلاثين عاما , حاصرها الصهاينة فعلاً فقد بذلوا كل ما بوسعهم لعدم نشرها على النطاق الواسع الذي حظيت به قصائده الأخرى. وقتها: قلت له , كان عنوانها لصورة المُحاَصَرين وها هم الصهاينة يحاصرون القصيدة فقال: لكن هناك من سيأتي ويشرب من ينابيع عهدٍ سيُنْهي عهد المجرمين الصهاينة.

عباس عواد موسى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى