السبت ٢٣ حزيران (يونيو) ٢٠١٢
بقلم أحمد الخميسي

في ذكرى رحيل سعاد حسني

يوافق 21 يونيو ذكرى رحيل سندريلا الشاشة العربية سعاد حسني، وقد رأيت سعاد وأنا في العاشرة من عمري . كانت في الخامسة عشرة أو أكثر بقليل، فتاة نحيفة عليها فستان متواضع جدا، ويشع من وجهها نور هاديء مثل شمس من خلف سحابة. كان ذلك عام 1958، وكان والدي الشاعر الفنان عبد الرحمن الخميسي قد أنشأ في ذلك الوقت فرقة مسرحية باسمه، وكنتُ عنده في مكتبه بشارع الجمهورية حين دعاه زوج والدة سعاد حسني لزيارتهم، ولم تكن تلك الفتاة النحيفة على البال . سألني والدي: أتأتي معي؟. هززت رأسي أن نعم. وذهبنا. كان البيت يقع غير بعيد في حي "الفوالة" الشعبي. منزل بسيط تماما كذلك الذي تظهر فيه الأسر الأقرب للفقر في الأفلام المصرية. ولم يكن هناك أحد سوى أمها السيدة "جوهرة" التي تشبهها سعاد كثيرا وزوج أمها. وبعد قليل دخلت علينا فتاة صغيرة بصينية عليها أكواب شاي، وقدمتها إلينا والدتها بقولها "سعاد". قلبت لنا السكر في الأكواب ثم جلست صامتة على طرف كرسي. لا أذكر الآن ما الذي قالته بالتحديد إن كانت قد قالت شيئا، أذكر فقط حضورها الطيب اللطيف الذي يأسر القلب بدون كلام . أذكر أيضا قلقا غريبا كان يومض في عينيها من وقت لآخر كأنما هي طفل وحيد حرم من الحنان والطمأنينة طويلا ولم يجد من يفضي إليه بعذابه. بعد قليل تأملها والدي وقال "هذه الفتاة نجمة"!. دهشت مما قاله، وكنت أعرفه مجاملا يغدق على الآخرين أفضل الصفات. وما إن انصرفنا من عندهم حتى سألته "تقول نجمة؟ حقا أم هي مجاملة؟ "هز رأسه وهو شارد وغمغم" لا والله يا إبني هذه البنت نجمة حقيقية كبيرة".

فيما بعد شرعت سعاد تتردد على مكتب والدي، وتحضر بروفات مسرحية "هاملت" التي كان يعدها لفرقته واستقر رأيه على أن يمنحها دور" أوفيليا " في العمل. في تلك الفترة التقيت بها أكثر من مرة في مكتب والدي وكنت أقوم بتوصيلها أحيانا إلي بيتهم في الفوالة ونحن نثرثر طيلة الطريق، وأحس وأنا أتكلم معها بتلك الحيرة العميقة والحزن الساكن في روحها برغم ابتساماتها اللطيفة. لم تكن هي النجمة بعد، ولم أكن أنا سوى صبي صغير، أقل منها بخمس سنوات كاملة! وبعد عام واحد، سنة 1959 قدمها والدي في فيلمها الأول "حسن ونعيمة" وكان منتجه الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب الذي أصر على رفض تمويل فيلم ببطلين جديدين حينذاك هما سعاد حسني ومحرم فؤاد، لولا تدخل المخرج هنري بركات الذي أقنع عبد الوهاب بأن قصة حسن ونعيمة كانت مسلسلا إذاعيا أنصتت إليه مصر كلها مما سيضمن نجاح الفيلم! وتمسك عبد الوهاب بفاتن حمامة، وتمسك والدي بسعاد، إلي أن وافق الموسيقار العنيد أخيرا، فارتفعت سندريلا الشاشة نجمة مشعة إلي سماء الفن . وظلت سعاد حسني تردد في كل مكان أن الخميسي هو صاحب الفضل الأول في ظهورها وسجلت ذلك في موقعها الرسمي. وحين غادرنا مصر، أنا ووالدي عام 1972، ذهبت سعاد بعد سفرنا إلي الشقة التي كانت تسكن فيها والدتي . جلست بجوارها وفتحت حقيبة يدها وكانت عامرة بالنقود، وقالت لوالدتي "تفضلي يا ماما كل ما تريدين".

الانطباع الأول بأن ثمة حزنا عميقا يسكن روح الفتاة التي التقيت بها قبل أن تكون نجمة، هو الانطباع الأخير الذي جعل سعاد حسني تلقى بنفسها من شرفة منزلها في لندن في يونيو 2001، لم يستطع لا المجد، ولا المال، أن يمنحها الطمأنينة والحب ولا أن يداوي قلق الطفولة المحرومة من الحنان. وظل في صوتها الذي كان يشبه القطيفة خيط يرتجف حتى النهاية. وفي الغربة توفي الاثنان: والدي أولا عام 1987،وبعده بأربعة عشر عاما سعاد حسني، في الغربة توفي المكتشف، وتوفيت في الغربة من بعده الجوهرة التي ما أن شاهدها حتى قال "هذه الفتاة نجمة"!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى