الثلاثاء ٣ تموز (يوليو) ٢٠١٢

قراءة في قصيدة «راقصة التنغو»

صبري مسلم

ليس ثمة إيقاع شعري أنسب من بحر الخبب وتفعيلته السريعة القصيرة (فعلن) لقصيدة “راقصة التنغو” للشاعر الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي المنشورة في صحيفة “المدينة” بتاريخ 21 مارس 2012.

ولكي يضفي الشاعر على القصيدة بصمته الإيقاعية فإنه يختم تفعيلات الخبب الأربع في الشطر الثاني بتفعيلة الخبب المرفلة (فعلان)، وكأن هذه التفعيلة المرفلة وسادة تستقر عليها التفعيلات التي تسبقها فضلا عن كسر رتابة الإيقاع الراقص السريع لتفعيلة الخبب. ومثل ذلك تماما يمكن أن يقال بشأن انتقاء قافية الراء الساكنة التي تضيف بترددها وبالتكرار الكامن فيها واستقرارها عبر التسكين تنغيما مضافا إلى البيت الشعري داخل القصيدة. تأمل استهلالة القصيدة:

أَغْمِضْ عَيْنَيْـكَ، تَعَـالَ نَطِيْـر//
في غَيْمٍ في إغْمَـاءِ حَرِيْرْ
شــــَلاَّلٍ مِـنْ عِطْـــرٍ غــافٍ//
لا شَـيْءَ لَـهُ بِرُؤَايَ نَظِيـْرْ
هَتَفَتْ.. أَخَذَتْ بِيَدِيْ.. هَيَّا،//
هَـلاَّ للرَّقْـصَ دَعَوْتَ أَثِيْرْ؟

فنغمض أعيننا استجابة لهذا العالم الحريري الذي تدعونا الاستهلالة إلى أن ننغمر فيه مع الشاعر، لاسيما أن النص ينسب هذه الاستهلالة إلى حوار بدأته راقصة التنغو مستدعيا أصداء الأسلوب القصصي وقدرته الفائقة على التشويق. إذ ننتظر ما سيحدثه خطاب راقصة التنغو من تأثير على الشاعرالذي يردف استهلالته بقوله:

كَبَقايا مِنْ فُرْسَـانٍ فـي//
صَدْرِيْ وعلى كَتِفَـيَّ تَسِيْـرْ
ضَجَّـتُ، كَــلاَّ! لا أَلْـوَانَ،//
لا مُوْسِيْقَى.. اغْتِيْلَ التَعْبِيْرْ
لا أُحْسِنُ هذا الرَّقْصَ أنـا//
ومَعَارِكُ في قَدَمَـيَّ تَـدُوْرْ
لا أَدْرِيْ ما رَقْصُ التَّنْغُوْ//
أو حتـى ما رَقْصُ العُصْفُوْرْ

فنندهش مع راقصة التنغو من رد فعل الشاعر، وهو ما قصده من استثارة الدهشة تمهيدا لتأسيس جديد يتبناه، وعلى النحو الذي وصفه في أبياته السابقة، وكأن الشاعر هنا يرسم صورة آدم جديد لا ينصاع لنداء حوائه هذه المرة، وفي إطار هذا الإيقاع المنساب من تدفق تفعيلة الخبب الراقصة.

ولا يكتفي الشاعر بهذا الإيقاع الذي يمكن أن يصطلح عليه بالإيقاع الخارجي، وأعني به تفعيلة الخبب وقافية الراء بل يردفه بإيقاع آخر ينبع من داخل النص يكون بطانة إيقاعية مضافة تخلق مزيدا من التشكيل النغمي للقصيدة. تأمل توالي النونات في “شلال من عطر غاف” إذ يتكرر صوت النون أربع مرات في شطر واحد، أو تتابع حرف الهاء في “هتفت، هيا، هلا” الداعي إلى الحركة باتجاه هدف راقصة التنغو أو تكرار اللاءات في “كلا، لا ألوان، لا موسيقى، لا أحسن، لا أدري” ذلك التكرار الذي يكرس الجانبين الدلالي والإيقاعي على حد سواء. وتهدأ نبرة الشاعر في المقطع الشعري اللاحق الذي يقول فيه:

يـا سَيِّدَتِـيْ، مُـوْرِيْ فِيـْكِ،//
والأَرْضُ دَعِيْها فـِيَّ تَمـُوْرْ
هذا القَصْرُ الكِيْرِسْتَالِيُّ (م) //
فَـرَاغٌ فَنـيٌّ وخُصُوْرْ
ونُهُـوْدُ “السِّيْلِيْكُوْنَ” جـِرَا//
رٌ، لا تـُرْوِيْ ظَمـَأَ الجُمْهـُوْرْ
وقواريـرُ الشَّبَـقِ العـاريْ//
تَنْداحُ على شَفَـةِ المَخْمُوْرْ
حَمَلَتْ نُطَفَ الزَّيْتِ الأُوْلَى//
مِنْ قَلْبِ النِّفْطِ إلـى التَّنُّـوْرْ
لَهَبٌ، بُرْكانٌ، لا عَقـْلَ،//
فالعَقْلُ كُوًى والناسُ طُيُـوْرْ
والإنسانُ الأَعْدَى أَبَدًا//
للإنسـانِ، الأَدْعَى للـزُّوْرْ

حيث يبدأ الشاعر بالكشف عن دخيلة نفسه وقناعاته بما يرى مبتدئا بخطابه لراقصة التنغو (يا سيدتي) تمهيدا لخطابه المضاد دلاليا لخطاب راقصة التنغو. بعد ذلك يرسي الشاعر قاعدة لمفهومه الراسخ في ذهنه عن المرأة، وهو مفهوم ذو طابع إنساني ورؤية حميمة ذات جذور موغلة في تاريخ الإنسان ، تأمل قوله:

يا لَلأُنْثَى، كَمْ شَادَتْ مِنْ//
مُدُنٍ، ولَكَمْ هَدَّتْ مِنْ دُوْرْ
يالَلأُنْثَى، الأُمِّ، الأُخْتِ، الـ//
حُبِّ، الكَنْزِ، المَعْنَى المَهْدُوْرْ
كَمْ عَزَّتْ مِنْ أُمَمٍ بالأُنْـثَى،//
كَمْ ذَلَّتْ حِقَبٌ وعُصُوْرْ
يا راقصتيْ، الأُنْثَى: أَمْنٌ//
وسَلامٌ، أو جَيْشٌ وعُبُوْرْ
كُلُّ الدُّنيا الأُنْثَى، وعَلَيْـها//
كُلُّ الأُخْرَى سَوْفَ تَدُوْرْ
مَنْ قال: “الأُنْثَى شيطانٌ”؟//
فابنُ الشيطانِ هُوَ المَغْرُوْرْ
مَنْ قالَ “المرأةُ عارٌ” فهـوَ//
وَلِيْدُ. العَارِ أتاك يَخُوْرْ
ويتسامى الشاعر بصورة الأنثى حين يقول:
المرأةُ.. مَنْزِلَـةٌ.. عُلْيـا//
بَيْـنَ الإنســانِ وبَيْـنَ النـُّوْرْ
وُئِدَتْ في بَحْرِ غِيَابٍ،//
وابْـتُزَّتْ دَجَلًا في بَرِّ حُضُوْرْ

ومرة أخرى يستثير أنغاما مضافة منبعثة من القصيدة ذاتها في تكراره للألفاظ (الأنثى، الشيطان، المرأة، الإنسان، كم، حرف النداء يا). وهو قد يجانس بين الألفاظ ومن نمط الجناس الناقص في (الأعدى والأدعى). ويكشف الشاعر عن مهاده الثقافي الغزير دفاعا عن المرأة التي ابتزت عبر التاريخ الإنساني وكما عبر النص عن هذا، تأمل قوله:

سَلْ (لَيْلَى) لُو أندرياسَ//
ما ذنبُهُما إنْ جُنَّ صُقُوْرْ
مَنْ كُلُّ المرأةِ صيدُهُمُ//
جِنْسًا، أو مُلْكَ يَدٍ، وبَخُوْرْ
مُذْ (قَيْسٍ) حتى (نِتْشَةَ)//
والسَّـوْطُ الضَّارِيْ بَرْقٌ مَسْطُوْرْ
وكذا يحكيْ.. زارادشت//
في جَهْلٍ نِسْبِيٍّ مَشْهُوْرْ
كَتَبُوا: هِيَ حَيَّةُ آدمَ، أو//
قالُوا: مَوْتُ الرَّجُلِ المَغْدُوْرْ

ويؤكد الشاعر رؤيته الإنسانية هذه بما يراه من أن الكائن البشري واحد سواء أكان ذكرا أم أنثى، مع استثماره الواعي لإيقاعية التكرار:

أُنْثَى.. ذَكَرٌ.. ذَكَرٌ.. أُنْثَى،//
لا فَرْقَ ضَحايا هُمْ ونُذُوْرْ

ويختم الشاعر قصيدته بأن يعود إلى حيث بدأ وبحركة دائرية تبدأ بتلك الدعوة السافرة إلى رقص روحي سام وتنتهي به، وفي أجواء هذا المفهوم النابض للمرأة:

لا تُغْمِضْ عَيْنًا، وافْتَـحْ بِـيْ//
في الشمسِ نَهارًا جَنَّةَ حُوْرْ
وارقُصْ قالتْ رَقْصَ التَّنْغُوْ//
بِـيْ مُلْتَحِمـًا وبِـلا مَحْظُوْرْ
تَرَ (مَرْيَمَ) في عَيْنِيْ تَصْحُوْ//
و(خَديجةَ) مِنْ شَفَتَيَّ تَفُوْرْ
فالمرأةُ مَعْدِنُــكَ الأَرْقـى//
وبِمَعْدِنِـكَ الأَرْقَى سَتَثُــوْرْ

فيكون الشاعر أميل إلى ضفة راقصة التنغو، وكأنه اقتنع بخطابها، وعبر عن ذلك بأن عرض على قارئه نقيضين اثنين. أوحى لنا في بدء القصيدة بأنه الضد بيد أنه تبنى رؤية بطلة القصيدة في خاتمتها، فهي أي راقصة التنغو من صنع يدي الشاعر، وقد بث فيها الحياة وأنطقها بما يلائم رؤيته الإنسانية، وأفكاره النابضة عن المرأة الإنسانة، ومن منظور شاعر مرهف ومثقف مستنير، أطر أفكاره عن المرأة في إطار يقترب من نسق القصيدة القصصية ذات الطابع الشيق، وانتقى لها مهادا إيقاعيا وثيرا يلائم طبيعة القصيدة وموضوعها، وانطلق في رحاب الرمز الفسيح كي يعبر عن أفكاره شعرا ينأى عن المباشرة والوضوح الشديدين.

المصدر:

http://www.alittihad.ae/details.php?id=60258&y=2012&article=full
القصيدة:

http://www.khayma.com/faify/index348.html

صبري مسلم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى