الاثنين ٢ تموز (يوليو) ٢٠١٢
بقلم سلمان ناطور

النكبة في قلب تل أبيب

إنسانيتك هي أن تعترف أولا بلا إنسانيتك

بيت من ثلاثة طوابق في جادة روتشيلد (روتشيلد إياه، الثري الفرنسي الذي اشترى أراضي فلسطين وأقام مستوطنات ومهّد للنكبة)، وفي هذه الجادة انطلقت حركة الاحتجاج في العام الماضي والتي رفعت شعار الخبز والجبنة، ورفضت العودة إلى ما هو أساس أزمة الخبز، أي ما صار في النكبة وبعدها، في هذا البيت الذي أطلقت عليه حركة الاحتجاج “بيت الشعب” بعد أن استقرّت فيه وفيه انطفأت أيضًا، وفي هذا البيت الذي يقع على الحدّ الذي يفصل/ لا يفصل بين يافا وتل أبيب، نظم ملتقى دراسي ثقافي عن النكبة الفلسطينية في الأدب والسينما الإسرائيليين.

حدث غير عادي في قلب هذه المدينة التي يبدو فيها كلّ شيء عاديا تماما، الجيد عادي والعاطل عادي. الناس تتشمس على شاطئ البحر والمقاهي تغصّ بمن لا يبقى لهم وقت سوى للنوم. مدينة بلا استراحة ولا تكل ولا تمل ولم تتوقف يومًا عن قضم المدينة التي سبقتها إلى الوجود بآلاف السنين، يافا التي أكلت تل أبيب ساحلها وبحرها وذاكرتها وشوّهت خلقتها حتى صار أهلها يمقتونها ويؤرقهم قلق مضن أن يعود إليها أهلها المشردون ويجدوها على هذه الحال. وسبحان مغير الأحوال.

أكاديميان متنوران كانا وراء هذا الحدث؛ البروفيسور حنان حيفر، رئيس قسم الأدب العبري في الجامعة العبرية والبروفيسور يهودا شنهاف، أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة تل أبيب. لم يعقد المؤتمر في إحدى هاتين الجامعتين رغم أنه أكاديمي بكل المقاييس: الموضوع وعناوين الجلسات والمحاضرون، لأنّ سيف “قانون النكبة” مُسلّط على رقاب المؤسّسات التي قد تفكر بأن تطرح النكبة الفلسطينية عنوانا لنشاط، فعقد خارج أسوار الجامعة.

كان الحديث عن النكبة أولا، واختلف عن لقاءات سابقة في أن جميع المتحدثين في هذا اللقاء ميّزوا بين الضحية والمعتدي وهم يملكون ما يكفي من الجرأة ليقولوا إنّ الأدب الإسرائيلي والسينما اللذين تطرقا لما حدث العام 1948 خلطا بين الحق والباطل وبين المعتدي والمعتدى عليه لدرجة أنّ الإسرائيلي يصور وكأنه هو الضحية والفلسطيني متخلف في أحسن الأحوال. هؤلاء يملكون من الجرأة والاستقامة ما يكفي لأن يقولوا لمجتمعهم: اعترفوا بالخطيئة وأعلنوا مسؤوليتكم عنها!

ما الذي يعنيه البروفيسور حيفر بقوله: إنّ هذا النشاط يندرج ضمن جهود مثقفين يهود لوضع النكبة الفلسطينية على الأجندة العامة?

وضع النكبة الفلسطينية على الأجندة الإسرائيلية العامة يعني أول ما يعني تقويض الرواية الإسرائيلية ، ليس فقط حول النكبة بل حول مجرد قيام الدولة اليهودية. فالرواية الإسرائيلية التي صورت هذه البلاد صحراء قاحلة، متخلفة وخالية من السكان الحضاريين، حاولت ونجحت إلى حد بعيد، في أن تقنع العالم بأن قيامها هو حدث طبيعي وشرعي وأخلاقي وإذا ارتكبت جرائم، فهي صغيرة ولا تعدو كونها تجاوزات سلوكية لأفراد شواذ (بن غوريون استنكر مذبحة دير ياسين ووصفها بأنها تشبه أعمالا نازية وفي الوقت ذاته ارتكب هو وقوات الهاجاناة جرائم لا تقل بشاعة)، والمؤرخ بيني موريس الذي كشف عن جرائم حرب، لا حصر لها ولا عد، نفى في البداية، أن تكون هذه سياسة مبرمجة ونفذت بأوامر من قيادات عليا تطبيقا لخطط عسكرية وسياسية مرسومة مسبقا لتطهير البلاد من سكانها العرب.

طرح موضوع النكبة الفلسطينية في محفل أكاديمي إسرائيلي يعني أن يوضع الإسرائيلي بعد ستين عاما وأكثر وجها لوجه أمام مسؤوليته التاريخية والأخلاقية عمّا حدث في ذلك العام. هذا الكلام قيل في هذا الملتقى ولذلك فإنه يختلف عن كل ما سبقه. وإذا وصلت الرسالة إلى أوساط تربوية فلا بد أن يطرح السؤال: أين جهاز التعليم القيّم على تنشئة الأجيال الاسرائيلية من هذه المسألة الأخلاقية؟ مواصلة الانكار هي فعل لا أخلاقي ولا تربوي فكيف تكون في صلب الجهاز التربوي لدولة تدعي أنها ديمقراطية؟ وكيف سيكون رد هذه الأجيال عندما تكتشف الحقيقة؟

لقد راهنت القيادة الصهيونية على فكرة أن “الآباء يموتون والأبناء ينسون” وأن ذاكرة الناس قصيرة، أو يمكن أن يجعلوها قصيرة رغما عنهم، لأنّ متطلبات الحياة اليومية تشغلهم عن ماضيهم وتاريخهم أو خلق واقع يضطرهم إلى هذا الانشغال وأن الزمن كفيل بتطبيع حياة الذين تعرضوا للمأساة كما ألم الموت الذي يبدأ كبيرا ثم يصغر خلافا لكل مظاهر الحياة التي تبدأ صغيرة ثم تكبر، هذا بالنسبة للضحية وماذا عن أبناء الذين ارتكبوا الجريمة؟

لم ولن ينسى أبناء الضحية ما حدث لأهلهم، وكلما مرّ وقت يجدد الفلسطيني ارتباطه بوطنه الذي فقده ويحيي ذاكرته ويعيد إلى الأرض أسماءها ونكهتها وحكاياته معها، ويربك أبناء القتلة والجلادين أن شيئا ما يهتز في الرواية التي كبروا عليها، وأن كيانهم السياسي الذي يسمونه الدولة العبرية لم ينشا في فراغ ولم يكن رخيص الثمن ولا هوفعل بطولة وتجسيد حق بل جريمة بكل ما تعنيه هذه الكلمة، وفيه يمكن أن يحضر كل شيء إلا الأخلاق، فكيف يتعايش معها بعد أن مات الآباء الذين ارتكبوها؟

هل يستطيع الإسرائيلي الذي ولد بعد النكبة ان يقول للفلسطيني الذي “يأبى النسيان”: ماذا تطلب مني؟ أنا لم أشردك وبأي حق يحمل الأبناء خطايا الآباء؟

لو كانت النكبة حدثا تاريخيا عابرا لكان الابن الإسرائيلي على حق، فلا يجوز أخلاقيا أن يلقى وزر خطايا الآباء على أبنائهم الذين لم يكونوا على قيد الحياة عندما ارتكبت الجريمة، ولكن في الحالة الإسرائيلية الفلسطينية فإنّ هذه المسألة محسومة لأنّ الإسرائيلي الابن والحفيد ما زالا يرتكبان الجريمة نفسها والأبناء كما أحفادهم يستفيدون من غنائم النكبة ، فهم شركاء بما فعله أهلهم، لا بل هم المطالبون بالاعتراف وبتصحيح الغبن وبدفع الثمن،ولا شك في أن الذين التقوا في تل أبيب لحوار حول النكبة يدركون عمق المأساة التي يعيشونها وهي أن التعبير عن انسانيتك، أيها الاسرائيلي، هو أن تعترف بلا انسانيتك أولا، هذا هو الشرط الأول لأيّ مصالحة لكي تبدأ عملية طويلة ومعقدة لتسوية الغبن التاريخي وما نجم عنه من أضرار فادحة لضحية هذا الغبن وهو الفلسطيني، ولأنّ هذه المقولة ليست مجرد مسألة فلسفية تطرح في محفل أكاديمي فقد أصغيت باهتمام كبير إلى أصوات هؤلاء الاسرائيليين وسمعت فيها نداءات للخلاص، فهل تعين الضحية جلادها على الخلاص من ظلمه؟

في عيد استقلال اسرائيل يرفع الذين يأبون النسيان شعار: استقلالكم هو نكبتنا. وفي هذا اليوم يرقص معظم الإسرائيليين ويغنون، ولكن بينهم من يحزن لأن لسان حاله يقول لنا: نكبتكم هي نكبتنا أيضا.

هذا الإدراك الواعي لكون اليهودي ضحية إسرائيليته، لا بد أن يقوده إلى مواقع نضالية للخلاص، وهذا ما يحرره من مأزقه الأخلاقي.

هؤلاء كانوا في تل أبيب في يومين دراسيين عن النكبة وتحدثوا بألم عن واقع لم يعد يحمل.

إنسانيتك هي أن تعترف أولا بلا إنسانيتك

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى