الأحد ٢٢ تموز (يوليو) ٢٠١٢
بقلم فاتن رمضان

إبحار فى قصيدة «ثم ابدأ من جديد»

للأديب أحمد محمد عثمان ...

عبر ثمان لوحات نغوص بعمق ونبحر من شاطئ لآخر نأخذ من هذا مرجانه ومن هذا لؤلؤه ...

ثم ابدأ من جديد ... رسالة بحث عن الحبيبة الغائبة الحاضرة المبحرة فى دمه الراحلة منه وإليه ...

البدابة .... جملة تستحق الوقوف أمامها يبدأ بها الأديب قصدته " ثم ابدأ من جديد " ولا يخفى على القارئ أن استخدام حرف العطف " ثم " دليل على التراخى وكأنه يأبى النهايات ويتشبث ببدايات مكررة لا تنتهى وإلا لاستخدم أى حرف عطف آخر ..

" ثم أبدأ من جديد …..وبحبك أخيط أحزاني …..في جبين الصمت …..وأقذف بأحجار النبض ….
في بركة الخوف ….ارتعش …..رغم أني كلي ارتعاش ……وأتبع خطواتك ……في دمي ….في ذاكرتي .. أنفاسي وهي تزفر التنهيد ..."

بداية ممتعة بها مزيج عجيب من المشاعرالتى تجعلنا ننبهر ونقف صامتين فى صلاة كونية بديعة ... حزن ويأس ولهفة ووليد يرى النور لأول مرة ... يضع الأديب ذلك كله فى إطار رائع من التراكيب والصور والأخيلة ليصل بالقارئ لأقصى درجات النشوة ...

"ثم أبدأ من جديد ......الليل يتجاهل وجودي …..كلما دنوت منه ……يقذفني خلف حدودي ……أتبعثر …..أتجمع …..أتاؤه ……فأثير الجرح بطيشي ……فيزئر بالوعيد ..."

لوحة أخرى أكثر براعة يدخل فيها القارئ معه مدن التيه ويبدأ الخلق .. تبعثر تم تجمع ثم تأوه ... وحين الإكتمال ودون قصد يلمس جرحه فيئن ويثور ... ونحن معه نئن ونثور كل منا على جرح قديم ...

"ثم أبدأ من جديد ……وإلى جزرك الخضراء …..أبحث عن خرائط …..أفتشك نهراً موجعاً
أفتشكِ حروفاً أو قصائد ……فكم على الأحلام قد نقشت ملامحك …….وما كانت الأحلام حائط …..ثم أعود وأرتل الحرف القديم …….وأبعث اسمك للمراكب والشواطئ …….وأتساءل هل يفيد ... "

ولا ينتهى ليبدأ بل يبدأ ليبدأ فرحلته بهذه اللوحة أكثر إشراق عن ذى قبل , فهو راحل إليها وهى الموجودة بحروفه وقصائده وعلى جدران أحلامه ... ورغم ذلك يرسل للمراكب والشواطئ باسمها عل ذلك يفيد وينهى لوحته بسؤال مرير" هل يفيد؟ "... وحقا هل يفيد ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

"ثم أبدأ من جديد………والصبية يلعبون ويلقون بالأوراق …….يهدونها بعفوية إلى صدر السماء
تقرأك السماء …………!!وببساطة الأطفال …….يلهون بالأقدار ……فتسدل الأنين ستائر من سحب
تبكي الغياب جدائل الأمطار ………وي كأن الصبية يمرحون بالبكاء ……يا نجمة واثقة البريق
من يعيد النبض إلى قلبي …….من يعيد ..."

صورة أخرى يفاجأ القارى بها ... صورة محببة للنفوس ...مرت علينا بقطار الذاكرة ... هى صورة طفل يلهو ...فالأطفال ببراءتهم وقربهم للسماء يهدونها اسمها علها تقرأها فتسدل ستائر الأنين وربما يعود النبض للقلب الحزين ...

"ثم أبدأ من جيد ………..أطارد ظلي بابتسامتك داخلي …………وأجمع عثراته …..وأشتهي الشجار الكائن
بين بقاءك والرحيل ……وبينهما ……أروي الظمأ من وهج الأماني …….قد أعاني ……..قد يفضح المحراب قمصة المعاني ………….مهما تبشرني الريح عند نافذتي ……أن الحياة موجوعة الثواني ..
يظل شئ داخلي ……..يرددك ابتهالاً أو أغاني .. ….فرغم كل حوائط الحروف .. …..وأشباح السطور ……ودهاليز الجمل .. …لا أجيد الهروب منك لا أجيد ... "

ثم وثم .. بلا نهايات يبدأ ويبدأ ويكرر البدايات إلى مالا نهاية وندخل معه هذه المرة إلى دهاليز دواخله فهو يطارد ظله الهارب منه لها وهو يجمع عثراته فى رحلته إليها ونصل معه لذروة الصراع حين نتلذذ معه بالشجار العنيف بين البقاء والرحيل هذا الشجار الذى يروى ظمئه ويطفأ قليل من وجعه ورغم ذلك يرده إليها فيجد نفسه لا تسبح إلا فى محرابها فلا يجد مجالا للهروب ...

"ثم أبدأ من جديد ……أحمل بعض قرص الشمس في جيبي …..وأنسى أن بعضي فوق بعضي رفات
أمتطي صهوة الآمال ……..عل الربيع يعود بتلك الذكريات …….وأطوف حول أعناق المنى
وكأن شيئاً لم يكن ……..وكأنني لم أقبل العزاء في يوم الرحيل …….ولم أقيد بالحديد .. "

ويبدأ مرة أخرى ومعه الأمل هذه المرة ويتناسى كل أوجاعه وآلامه ويحلم بأن يهبه الربيع ما يتمنى وينكر صرخة الرحيل وينكر معه أنه كان مسلوب الحرية مجهض الجناح ...

"ثم أبدأ من جديد .......ألقم العصافير صبراً ………حين يشتعل الغروب …….فإن الأقدار قررت اللقاء
فلا مناص ولا هروب ………يا سجين الحب …….أين بعثرت الدروب ….يا سجين الحب
يا ليل تاجه كان……..السقامة والشحوب ………أنا لن أتوب …….وهمست في مخادع الوجع
أنا لن أتوب ………..أنا نسمة الأحرار في زمن العبيد "...

ومرة أخرى يبدأ من جديد ... يرفض مرارة الرحيل ويقتات على الصبر حين ينهكه الغروب ويهمس لنفسه المتألمة أن الأقدار ربما تحمل اللقاء كما حملت من قبله الرحيل ونحن فى هذا وذاك مسيرين بلا حيلة ويصعد سؤال نازف من أحشائه ( أين ؟؟؟؟؟) وهى أداة للسؤال عن المكان .... لكنه أديبنا هنا يحلق بها لتتخطى الزمان والمكان .... ويخرج عن المألوف فيجيب : هو لن يتوب ... لن يتوب ... وكيف لذلك من سبيل وهو نسمة حرية تعجز أمامها الجدران وينحنى لها الحديد والأسوار

"ثم أبدأ من جديد... يا ذات نفس الوجه..... يا دمع.... وسحائب من العطر.. تفرق العتمة... في بحر الضوء.... وأجساد النخيل.... كونية الوجود...ز الورود
كل شيء في غيابك أحمق.... لا شيء يشبهك.... يا روضة الأحلام.... وهل بعد موت الحلم عيد؟؟

اليوم أذكرك ......ِ اليوم أذكرك.... ولو أن الطريق مخيف.... الرعد فيه هو الصوت الوحيد.... اليوم أذكركِ.... وقلبي نارٌ من الشوق يحاصره الجليد... كيف بعد كل هذا؟

أبدأ من جديد؟!"

ويعود للبدايات ... لكنها بدايات مميزة هذه المرة , بدايات سيفاجأنا فيها بأمر أخر ... فحبيبته هى خلاصة الجمال على الارض فهى فسحة نور وبتلة أمل حويت كل شئ مميز واختصرت أبجدية الكون , فلاشئ يشبهها مع إنها كل شئ ...
ويكمل أديبنا أسئلته الموجعة فهل بعد وفاة الأحلام أى عيد ؟؟؟ فبرحيلها لم يبق إلا صوت الرعد ووحشة الطريق وجليد قلبه الحزين ..
ويدهشنا مرة أخرى ويهدم كل ما تعايشناه من قبل حين يسأل نفسه أبعد هذا الوجع والموت أملك البداية من جديد ؟؟ فهى البداية الوحيدة الممكنة له ..

رحلة موجعة وإبحار حزين خلال أبجدية مميزة تستحق الوقوف أمامها ردحا من الزمن ... كانت تلك قراءتى القاصرة لهذه التحفة الفنية التى تستحق وقفات ووقفات والتى لم تكتشف بعد .
وهاهى سفينتى عادت منادية بالرحيل ... لترسو على شواطئ أخرى بعضها حزين وبعضها سعيد , لكن ما يجمعها يربو على السعادة والحزن ... وهكذا نبدأمن جديد .

للأديب أحمد محمد عثمان ...

أحمد محمد عثمان: حائز على إحدى جوائز مهرجان القلم الحر للعام 2012 ... والذى أقيم على أرض الفيوم مسقط رأسى وحضره كوكبة من الأدباء من شتى بقاع الوطن العربى الحبيب ...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى