الجمعة ٣ آب (أغسطس) ٢٠١٢
بقلم حسن توفيق

حلمي سالم .. الشاعرالثائر الذي غنى للحرية

تلقيت نبأ رحيله عن عالمنا دون أن أنطق كلمة أو أذرف دمعة، فقد داهمني شرود مفاجيء، فقدت الكلمات فيه معانيها، ولم تعد الدموع- إذا انهمرت- قادرة على أن تخفف البلوى أو أن تمنح السلوى ... ها هو حلمي سالم يستسلم أخيرا – يوم السبت 28 يوليو 2012 - للطارق الفجائي المجهول الذي يمضي به إلى الديار التي لم يعد من الذاهبين إليها أحد.

كم من مرة، استطاع خلالها حلمي سالم أن يواجه المرض وأن ينتصر عليه على امتداد السنوات الأخيرة التي سبقت هذا الرحيل النهائي عن عالمنا، كم من مرة كان ينهض متجددا وعاشقا للحياة بكل تجلياتها وبكل مافيها ومن فيها، لكنه هذه المرة لم ينهض ولم يركض على طرقاتها المتشعبة والمتنوعة الاتجاهات.

عرفت حلمي سالم قبل أن يكمل العشرين من عمره، وكنت- وقتها - طالبا بالدراسات العليا بقسم اللغة العربية – آداب القاهرة، اما هو فكان طالبا بقسم الصحافة والإعلام بنفس الكلية وحصل على ليسانس الصحافة سنة 1974وهكذا كان هو مع زملائه الذين نجحوا معه أبناء آخر دفعة تتخرج من قسم الصحافة بآداب القاهرة،، وفي السنة التالية – 1975 – انتقل هذا القسم إلى كلية الإعلام ليصبح أحد أفسامها الرئيسية،وفي سنة 1974 ، قبل تخرجه، أصدرحلمي سالم ديوانه الأول الذي سماه حبيبتي مزروعة في دماء الأرض، وكم كانت فرحته وفرحتنا كبيرة بميلاد هذا المولود البكر، وكان من أصدقائه وزملائه وقتها عدد ممن أصبحوا شعراء وأدباء وإعلاميين، منهم رفعت سلام وأحمد السيد حسن ومحمد الشبة وأماني الفقي وسحر عبد الله الريماوي ومحمد فراج أبو النور، وقد عرفت هؤلاء جميعا وارتبطت بصداقات عمبقة معهم أو مع معظمهم، خلال اندلاع المظاهرات الطلابية المناوئة لأنور السادات، قبل حرب أكتوبر 1973 المجيدة، فقد كانت تلك المظاهرات تطالب بالخروج من حالة اللاسلم واللاحرب التي كانت سائدة في ذلك الزمان، والحق أني لا أستطيع تذكر تلك المظاهرات دون أن أتذكر رائعة أمل دنقل – الكعكة الحجرية، ففيها تصوير فني دقيق لأجواء تلك المظاهرا ت التي انطلقت من جامعات مصرلكي تصب في ميدان التحرير:

دقت الساعة القاسية
كان مذياع مقهى يذيع أحاديثه البالية
عن دعاة الشغب
وهمو يستديرون ..
يشتعلون – على الكعكة الحجرية – حول النصب
شمعدان غضب
يتوهج في الليل ، والصوت يكتسح العتمة الباقية
بتغنى لليلة ميلاد مصر الجديدة

هذا هو ميدان التحريركما صوره أمل دنقل خلال تلك المظاهرات الحاشدة التي شارك فيها حلمي سالم مع زملائه ورفاقه، وهو نفس الميدان الذي شهد ما شهد ابتداء من يوم 25 يناير 2011 ، وهذا ما يؤكد أن الشباب هم دائما وقود الثورات ضد الغزاة والطغاة على حد سواء، والشاهد على ما أقول هو تاريخ ميدان التحرير معهم رغم تعاقب أجيالهم ، وتاريخ كل منهم كذلك مع هذا الميدان الذي لم يعد شهيرا في مصر وحدها، وإنما في سائر أرجاء العالم، رغم كل ما جرى له من تشويه على أيدي البلطجية وراكبي موجات الثورات وسواهم من المتلونين والحربائيين!

حلمي سالم شاعر أصيل من الجيل الذي سماه النقاد جيل السبعينيات، وهو أكثرأبناء هذا الجيل عطاء، حيث أصدر خلال رحلته مع الحياة ومع الشعر مجموعة كبيرة من الدواوين تقارب العشرين ديوانا، ومن بينها: سكندريآ يكون الألم - الأبيض المتوسط -سيرة بيروت- -دهاليزى والصيف ذو الوطء - فقه اللذة - سراب التريكو- يوجد هنا عميان- تحيات الحجر الكريم - الغرام المسلح- عيد ميلاد سيدة النبع- مدائح جلطة المخ وهو الديوان الذي أصدره سنة 2006 عندما بدأ المرض يداهمه لكنه استطاع الانتصار عليه بشجاعته وفرط عشقه للحياة، وفي هذا السياق فإني أتمنى لو اهتم الباحثون والنقاد بدراسة قضية مواجهة الموت عند عدد من شعرائنا العرب، ممن خاضوا تلك المواجهة حياتيا أو فلسفيا، ومن هؤلاء بدرشاكر السياب وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل ومحمود درويش وحلمي سالم الذي أصدر بعد هذا الديوان المتميز والرائع ديوان حمامة على بنت جبيل، وديوان الثناء على الضعف ، فضلا عن ديوان كرسه لتصوير ما جرى في مصر ابتداء من يوم 25 يناير 2011

ما يميز حلمي سالم – في تقديري – أنه إنسان نبيل وجميل إلى جانب أنه شاعر أصيل، فقد ظل حريصا على تواصل الأجيال، وتشهد على ما أقول كتاباته الرائعة عن الناقد الكبير الدكتور عبد القادر القط، ومحبته الآسرة لكل من الشاعر العظيم صلاح عبد الصبور والناقد الكبير رجاء النقاش، وحتى الآن ما يزال صوت حلمي سالم يرن في أذني ليطربني ويبهجني وهو يلقي قصيدة أحلام الفارس القديم لصلاح عبد الصبور، وهي القصيدة التي كان يحفظها عن ظهر قلب منذ أن كان طالبا جامعيا، وظل يحرص على إلقائها – بأداء رائع – في كل المناسبات التي تتعلق باستعادة صلاح عبد الصبور.

كثيرون كتبوا أو يكتبون أو سيكتبون عن حلمي سالم – الشاعر، لكن من لم يعرفوه – على المستوى الإنساني – لن يستطيعوا الكتابة عن حلمي سالم – الإنسان النبيل والجميل الذي كان عف اللسان وشريف المقصد والتوجه، وكان يغني للحب وللحرية بكل ما أوتي من صدق ومن محبة للحياة،ومن أجمل قصائده التي أحبها قصيدة بعنوان البديل ، وفيها يقول:

لو شح الخبز سنأكل عشب حدائقنا
ونقاتل
لو شح الماء سنشرب عرق سواعدنا
ونواصل
لو قل الحبر سنكتب برصاص بنادقنا
أنقى كلمات قصائدنا
نضرب ، ونغازل
لو شح الضوء سنشعل شمع محبتنا
ونناضل
لو شح الشمع سنوقد نور الأعماق
ونكمل درب الأشواق
للوطن الطالع من وجع الأحداق
نحن الثوار ونحن العشاق...

وها أنا أكتب عن حلمي سالم ، هذا الشاعر الثائر والعاشق، دون أن تستطيع الدموع أن تخفف البلوى أو أن تمنح السلوى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى