الثلاثاء ٢١ آب (أغسطس) ٢٠١٢
بقلم ياسمين محمد عزيز مغيب

امْرأةٌ مِنْ أهْلِ الْجنةِ

جلستُ بجوار امرأة طاعنة في الكبر، لم يترك الزمن أي عضو من أعضائها إلا وقد ترك عليه بصمته، لا أبالغ إذا قلت أنها من نساء الجنة بل هذا أقل ما يقال في حقها، وإذا كانت الجنة تستعصى على مثل هذه فلمن سيفتح رضوان أبوابها؟!

بدأت قصتي معها حين انتقلت إلى منزلي الجديد، بحي راقٍ لا يسكنه سوى الأثرياء من علية القوم، الذين يعانون من أقل جهد قد يبذله إنسان، فتجد داخل أسوار "الفيلل" أسرار لا يعلمها إلا الله، والبيت يكتظ بالخدم من رجال ونساء، والكل يهرول لمساعدة ولي نعمتهم عند دخوله أو خروجه كي يرفعوا عن كاهله عناء العمل الشاق الذي يؤديه يومياً في سيارته " اللاند كروزر" أو الجيمس الفارهة" وربما كانت اللكزس"

فهذا هو الملل بعينه فكل يوم يفكر ماذا سيستقل اليوم من سيارة، ويا لهؤلاء الخدم مهما يفعل لهم فهم لا يقرون بالنعيم، دائما ما يخرج ليجد سياراته غير نظيفة رغم أنه أكثر من مرة قد لفت انتباهم بضرورة غسلها يومياً، حتى تتاح له حرية اختيار إحداهن.

أخذت جولة بالمكان فلفت انتباهي مسجد له مئذنة شاهقة الارتفاع خضراء اللون تنبعث منه رائحة البذخ، ويظهر فيه بديع صنع يد الإنسان، فلا تملك إلا أن تقول سبحان الله الذي ألهم البشر وعلمهم ما لا يعلمون.

كان انتقالي إلى هذا المكان يزامن دخول الشهر الكريم ففرحتُ جزلاً لأن بجواري مسجد، حتى لا أتكبد عناء البحث عن مسجد قريب في هذا الحر اللافح.

وكعادتي بعد الانتهاء من الأفطار توجهت إلى المسجد لأداء صلاة العشاء والتراويح، فدخلت مصلى النساء كانت قدماي تهرول رغبة في أن يكون لي السبق وشرف الحصول على الصف الأول طبقا لقول الرسول: صلى الله عليه وسلم " لو علمتم ما في الصف الأول لأستهمتم عليه"

ويا لفاجعتي عندما دفعت الباب الخشبي المزخرف بأبهى وأفخم أنواع الزخارف، والذي ما إن دفعته حتى دفعني بقوة تفوق قوة دفعي، ربما هزلت قوتي بعد امتلاء بيت الداء بما لذ وطاب، وتراءى إلى ملمس وجهي تيار هواء بارد ينبعث من المكيفات التي جعلت المصلى أشبه بالثلاجة، فكنت كلما بدأت الصلاة يرتجف جسدي، ولم أكن أدري سبب هذه الرجفة هل هي من رهبة لقاء الله أم من الترف والبذخ الذي تجاوز الحدود؟

وجدت امرأة قابعة في بداية المصلى في الصف الأول، ترتدي عباءة رأس ولا يوجد غيرها، ألقيتُ التحية، ابتسمت وقلت في نفسي: هل سبقتني هذه العجوز إلى المسجد، دعيها تفرح بأول يوم رمضان، فجهدها ضعيف وجسدها هزيل، وللشباب سطوة وقوة، والأيام دول فاليوم لها وغداً لي.

ثم بدأت النسوة تتوافد على المسجد واحدة تلو الأخرى إلى أن اكتمل المصلى بالنساء، وصلنا تقريبا للصف التاسع، وكان الإمام يطيل في قراءة آيات القرآن في كل ركعة، وعقب الانتهاء من كل ركعتين نجد بعض النسوة يتأففن، والبعض ينهين الصلاة لإحضار كرسي للجلوس عليه، وأخرى تأخذ مفتاح سيارتها وتنطلق لتسابق الريح، وما كدنا نصل لصلاة الشفع والوتر حتى كان المصلى قد خلا من النساء جميعهن سوى خمس.

طفقت ابتسم وشبه لي هذا المشهد بتهافت الفراش على النار، فالكل يرى إضاءتها المبهرة، فما إن وصل إليها حتى أدرك أنه لا يقوى على لهيبها، فإما أن يجلس ليحترق، أو يفر بنفسه من الهلاك.

انتهت الصلاة وخرجت النساء جميعهن إلا تلك العجوز، وجلست أنا بعد أن شعرت أن إحدى قدماي قد تجمع فيها الدم، ففقدتُ الشعور بها، وأخذت أفكر إن كان هذا تأثير مشقة الصلاة عليّ، فكيف بتأثيرها على هذه العجوز التي قد وهن جسدها، ونال منها الزمان!!

قمتُ من مكاني لأسألها إن كانت تريد أي مساعدة، وقبل أن أصل إليها إذا بها تقوم من مكانها لتبدأ الصلاة، فضحكت ضحكة خلتها وصلت إلى مرمى سمعها، وقلت لنفسي: أتيتُ لها كي أساعدها، فاتضح لي أنني أنا من أحتاج للمساعدة.

جلست أقرأ بعض آيات من القرآن الكريم حتى تنتهي هذه المرأة ذات الإرادة الإيمانية والهمة العالية التي لم أرَ مثلها بحياتي.

انتهت أخيراً من صلاتها وإذا بها تثب في قوة ونشاط وتستند بكلتا يديها على الجدار، يا لمصيبتي العجوز كفيفة لا ترى، شعرت بالخزي من داخلي كيف جاءت للمسجد؟ وكيف كان لها السبق في الوصول ومن أوصلها؟

اقتربت منها لأساعدها رفضت، وقالت: أنها تعرف طريقها جيداً، فمنذ سنين وهي تصلي بهذا المسجد، ولا تحتاج للمساعدة، سألتها لأقوم بتوصيلها لبيتها، شكرتني وقالت" إن ابنها بمصلى الرجال، ينهي صلاته وينتظرها حتى تخرج إليه.

فتحت لها الباب خوفاً من أن يصيبها ما أصابني، مع أنني أيقنت أن ما أصابني لم يكن ليصيبها، لأنها تملك من القوة ما لا يملكه أحد من البشر.

منذ ذلك اليوم وأنا التقيها وأجلس بجوار امرأة من أهل الجنة، وهي بنفس نشاطها، ولم تغير من عاداتها شيئاَ تنتهي من صلاة الجماعة، لتبدأ بمناجاة الله في صلاتها.

عندما بدأت العشر الأواخر توقعت عدم قدرتها على المجيء لصلاة التهجد ليلاً نظراً لكبرها، خصوصاً أن صلاة التراويح تنتهي في تمام العاشرة والنصف، وصلاة التهجد في تمام الثانية، لكنها خذلتني للمرة الثانية، جاءت وسبقتني كالعادة، وقتها فقط أدركت أن البناء الجسدي لا يعين على العبادة وحده، فالبناء الروحي والإرادة هما خير معين.

إن كانت هذه همة امرأة في الثمانينات من أرذل العمر، فما بال همة شبابنا قد باتت فاترة؟ أأمنوا مكر الله ؟ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الكافرون.

وإن كانت هذه عاداتها العبادية منذ سنين، ولم تكل أو تمل، فما بالنا ونحن حديثي العهد بالعبادة قد أُرهقنا، لذلك أدركت لماذا جعل الله عز وجل الجنة درجات والنار دركات، لأن الله ليس بظلام للعبيد.

تساءلت نفسي وهل لهذه المرأة الكفيفة ذنوب، وحتى وإن أصابت بعضها، ألم تُمحَ ذنوبها طيلة هذه السنوات من العبادة؟

فدار بذهني الحوار الذي حدث بين الرسول صلى الله عليه وسلم والسيدة عائشة- رضي الله عنه- عندما تورمت قدماه من كثرة الصلاة، فقالت له السيدة عائشة: " هون عليك يا رسول الله لقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فرد صلوات الله وسلامه عليه: " يا عائشة أفلا أكون عبداً شكورا ".

كنتُ أحادثُ نفسي: إن هذه المرأة جعلتني أدرك زمن الصحابة في آخر الزمان، نعم هي امرأة من أهل الجنة تملك من الإرادة الإيمانية ما لا يملكه الرجال، وقتها سألت الله أن يجعلني من رفقائها في الفردوس الأعلى...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى