الثلاثاء ٢١ آب (أغسطس) ٢٠١٢
بقلم عبد الجبار الحمدي

رؤى حزقليه

كان يوما غامضا، صعبا وحارا كعادة أيامه المنسية في سجلات الزمن جلس من نومه المتقلب في ذلك المكان المقرف الذي اعتاد ان ينام فيه قرب حاوية النفايات القديمة المتهالكة من عصف الوقت فيها رافعا جسده المتراخي بصعوبة شاقة وكأنه يرفع سنين عمره من على الأرض التي اعتادت على جسده والرصيف، بعد ان كتب عهدا لا ينام عليه سواه فالتصق به واخذ من أضلعه وظهره مساحة كبقعة على خارطة الأيام المملة البائدة... تطلع الى مكانه وقد وفد عليه الذباب الذي لم يحرك ساكنا حين رمى بقاذوراته عليه لقد أعتاد ذلك فأدخل أصابع يديه فاركاً شعره الطويل الكث الأشعث وحكه وكأنه يحرث أرضا أمست بورا حتى اشتكت جلدة رأسه ألما ناهيك عن القمل الساكن فيها بلا دفع إيجار للمكان أما لحيته فقد طالت حتى أصبحت ملاذا لكل أفات الضياع.. تثاءب فأخذ نفسا كره ان يخرجه خوفا من قتل الذباب الذي أستوطن وجهه متمطعا جسمه مطقطقا عظامه الكهفية العمر، قام وقد بزغت الشمس عليه مرتديا ذلك المعطف الشتوي صاحب الرقع المتعددة وكل رقعة لها حكاية عانى بها من ارتدائه له ولبس جلد قدمه نعلا والذي أكتسب مناعة من الأرض وحرارة الصيف ومن برودة وأمطار الشتاء... سلك طريقه المعتاد بذلك الشارع القديم كقدم عمره ودائما يتذكر طفولته والشارع وكم من سنين مضت كان فيها لعبه يضيف رونقا للشارع وساكنيه من بيوتات ومحلات وحتى الباعة المتجولين منهم ومحتلي الأرصفة الكل يبيع والكل على باب الله، هو معروف لديهم.. وكثيرا حين يغيب فترة ما ويعود يفتقدونه أنه من علامات منطقتهم وشارعهم والعديد يتذكر قصته وغالبا ما يرووها لبعضهم أ و للجدد من الناس ساعة يروه وحاله هذا يؤلم القلب للحظات ولكن... سرعان ما تأتي عجلة المعيشة فيكون تذكره على قدر مروره من أمامهم وقد يجود البعض منهم عليه بعطاء أو طعام لسد رمق يومه وجوعه... وحين تشح الأيدي عن العطاء يلجأ الى حاوية النفايات تلك للبحث عن ما يمكن ان يأكله من بقايا طعام رمي فيها، لا يتحدث كثيرا والزمن في يوما ما منحه عقلا جعله ينتقد كل العبارات والأخلاقيات في وقت كان المتاجرة بالمفردات عملة رائجة تدر أموالا وجاها لمتشدقيها لكن أخلاقه ومبادئه أبت أن يكون طبلا وبلبلا بزي غراب ينعق في كل المناسبات.

وذات يوم كان في عزلته على النهر راميا بأمنياته وكل طموحات الحياة طعاما للأسماك علها تنشئ أملا ترنو أليه في عالمها النهري البعيد عن ترهات الحياة القاسية وإذا باثنين يقفان وراءه وقد قدما ملقين التحية عليه وعن احو اله وجلسا بقربه وقد بان أن أحدا منهم كان قاسي الوجه رسم تعابيرا تنم عن الحقد والكبر أما الأخر فكانت تقاطيع وجهه مرسومة عليها الخبث والدهاء وهم الثاني بالحديث وسؤاله عن أحواله وعن عمله في الجامعة وعن تلك المحاضرات المجانية التي يلقيها على طلاب الكلية والتي لا تخلو من تذمر عن المعاناة وعن قسوة النظام في بسط الآراء وازدواجية المعيار وقتل القيم وتسيير العقول لخدمته في كل المجالات.... لم يكن خائفا من ذلك الموقف ولم يعلق كثيرا، وعلم ان الاستضافة عندهم واجبة فقال مقاطعا الحديث والآن أين نذهب.. فقال الثاني معنا لبعض الوقت لاستبيان بعض الأمور الغير واضحة لا تخف مجرد ساعات قليلة... ابتسم بسخرية بانت واضحة لهم وكان الأول منهم قد استشاط غضبا لبرودة أعصاب الرجل ولم تبين عليه سمات استغراب او تمنع او حتى شيء من الفضول عما يريدونه فيه قام معهم طواعية وركب السيارة،أخذوه..

مرت السنين عليه ورفاقه الجدران الأربعة وفي كل مرة يتسلق جدارا عله ينقله الى ضفة أخرى وحين يكتشف انه لا يتسلق سوى ألام القهر والضرب المبرح ليسقط مرة أخرى في هوة مظلمة ويعود ليخط على تلك الجدران مسافات قطعها رغما عنه لا لشيء سوى التفكير بالحرية... خرج في غفلة من زمن بعد أن أرتشف الجنون عقله وسار في دمائه الخنوع والخوف من البوح بالحقيقة.... يقف أحيانا ليلقي خطبة مجنونة في شارعه كما يسميه ويعبر عن مكنونات عقله في ظل الاستهجان بالبشر وبأسلوب هزلي يستطيع العاقل ان يدرك ما بين السطور، لم يعر أحدا من أصحاب النظام اهمية له لأنه مصنف بالمجنون... خرج حتى من انتمائه تحت مظلة العائلة كان صعبا عليه.. نعم وفي فترة ما تذوق البعض الكثير من عدم وجود الكابوس في أحلامهم لفترة ولكن حين عاد كان نمرودا متوحش يسحق كل من أبتسم في داخله أمنية لزوال الجبروت.... وهتك ستر عقله فبات مجرد التفكير عارا عليه فأمتطى الخبل والجنون بابا للهروب الى الموت في داخل الحياة... وأثناء فكرة وحلم... وجد أبواب الحرية تفتح على مصراعيها وكذا الديمقراطية لقد أكتسح الكابوس وتطايرت بقايا الرماد المتقد هنا وهناك، وأحس ان نفسا جديدا في حياة الآخرين قد تجسد وأراد الخوض من جديد في عقل قضى والقيد سنينا عجاف حتى ذابت كل خلاياه وجفت من شحة اللا تفكير وارتأى من تجربة مريرة الانتظار في محطة الحياة الجديدة... في ذلك اليوم... نعم... تغير كل شيء فالحرية موجودة والديمقراطية بمفهومها الجديد والطموحات المستقبلية ذات القفزة نحو الأعلى بعيدا عن القيم الكل كان مدافعا عن الحريات الكل مكافح ومناضل وسقطت كل البراقع والمسميات فبانت أسماء ذات وجوه جديدة في صفحه مياه بكر لم يركبها احد... اغترفوا من صفاء مياهها ولغطت الأيادي من كل جهة فيها لم يصن بكارتها أحد فالكل يريد الركوب والفوز بفض بكارتها اغتصبت بشكل ديمقراطي وألبست ثوب الحرية عنوة لم يستطيع أهلها ان يدركوا ان الحرية تنبع من الذات لا تأتي من الخارج كان الثوب عنكبوتيا يفضح من يتستر ورائه ولذلك الاغتصاب وسالت دماء بكارة مياهها حتى تلوث معنى القيم الإنسانية و المبادئ الأخلاقية... صعد في ذات يوم خاطبا بعد ان وقف صائحا يا لها من حرية جعلتنا ننسى من نكون وجعلت كل الرؤى لدينا متشابهة لقد خلق الله الاعتدال في كل شيء لماذا تسحق القيم في وقت أصبح كل شيء ممكنا للإصلاح إنا بحاجة للرجوع للدين كدستور الله الذي كرم به الإنسان.. لا بضعة أمتار ترتدي فيطبق من خلالها الدين، إننا بحاجة لوجوه معروفة لا جوه نمت مساماتها وناموسها بعيدا عن حضن الوطن، إننا بحاجة لشعارات جديدة لا ترهات كلامية، إنا بحاجة لقلوب شربت صافي المياه ولم تلوث عقولها دهاليز الظلام وسهر المجون الليلي في أروقة المحرمات، ألا يكفي يا قساة القلوب قتلا للأحلام، ألا يكفي يا عصاة الله في أرضه ان ترتكب المحرمات تحت غطاء إسلامي، ألا يكفي إنا كنا حيوانات في حظيرة عربية والآن أمسينا في حظيرة غربية، ألا يكفي أننا لم نكن بشرا والآن أصبحا رعاع البشر.. أين العدل أين السلام أين الأحلام أين الطفولة المذبوحة بأيدي وطني على أعتاب غربية.. الى متى تغض الطرف يا الله.. الى متى تبقي بعيدا عنا يا الله.. الى متى تبقى غاضبا علينا يا الله..

تجمد الناس في الشارع رغم حرارة الشمس لقد خطب اليوم حتى نحب لقد تفجرت أوردة جسده حتى جحظت عيناه وسالت دما.. الكل مؤيدا لكلامه والكل عرف انه ليس مجنونا والكل قال كلمة حق بقوة حين سمعوه والكل بكى على ظلم أحسه في زمن الحرية لم يتغير شيء فالفقير لازال فقيرا والفاسد ازداد قوة وجاها وفسادا والقادم الجديد أزداد ثراء وكل الناس ازدادوا إرهاب مغطى باسم الإسلام ليكونوا نذورا لأرض عانت من طواغيت العصر الحديث..... والكل عاد الى عمله منشغلا بقوت يومه ناسيا... ما كان معتادا على سماع رؤى وخطب الوقت الجديد.. ونزل هو عائدا الى حاوية نفايته ليتوسد الأرض وذبابه الذي أعتاد عليه حيث رمى بدوره عقله فيها الى الأبد...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى