الجمعة ٣١ آب (أغسطس) ٢٠١٢
ريتشل كوري في رواية صبحي فحماوي (حرمتان ومحرم)
بقلم صبحي فحماوي

الجرافة المجنونة!

تعود الحرمتان للمرّة الثانية مع محرمهما إلى معسكر الحصار المكتظ باللاجئين المعتّقين.. فتشاهدان حالة يرثى لها، التراب والنفايات تهاجم الحارات والشوارع، وجرافة كاتربلر عملاقة تنفلت من عقالها، وتجرف العمارات وتعتدي على قيعانها، وأطفال يتراكضون هنا وهناك، يرجمون الجرافة بالحجارة، وآخرون يحملون لافتة عريضة كتب عليها:(لا تُجرِّفونا، نريد أن نعيش) وامرأة شقراء من جماعات السلام العالمي وحقوق الإنسان ترفع علماً أبيض، وتتراجع أمام الجرافة المتقدمة، محذرة إياها من التمادي في تدمير البيئة، وإذلال الإنسان.... بعد ذلك ستعلن الصحف ووسائل الإعلام أن اسمها (راشيل كوري) وأنها أمريكية الجنسية، وأنها كانت مخطوبة لعشيقها وحبيب عمرها (تود)، وتنوي العودة لتتزوج منه، ولكنها كانت تفكر بأن تقدم مهرها لعريسها على شكل موقف، تستحق معه أن تعيش حياة زوجية سعيدة، إذا استطاعت أن تخفف من عذابات هؤلاء الفلسطينيين الذين جُرفت بيوتهم الطوبية المصابة بهشاشة العظام، وإذا عملت على وقف هذه الجبال الآلية المجنزرة المجنونة المتحركة نحوهم، والتي لا تبقي ولا تذر...وأنها كانت تدفع مهرها لحبيبها على شكل ضمة من السلام، وبعد تحقيقه، ستفرح بزواجها واستقرارها الأبدي، وتصنع جنة من السلام هناك عند حافة الجحيم. ولكن الجبل الحديدي المتقدم نحوها لا يمهلها، بل يأخذها في طريقه، ويرسلها إلى جنة خالية من السلام!

تصرخ راشيل كوري بالمجند السائق بصوت عالٍ: " الآليات جاءت لترسيخ حضارة الإنسان، وليس لتدمير بنيته التحتية، وإرجاعه إلى عصر الإنسان الأول!"... ولكن الرجل الآلي لا يسمع صراخها، بل يتقدم، والفتاة الجميلة تتراجع، وتواجه الجرافة بالعلم الأبيض، ولكنها تنتبه إلى أن ظهرها صار يستند على حائط العمارة التي جاء دورها في الهدم !

الناس يتصايحون، ويحملون الممكن من أمتعتهم، ويبتعدون، وامرأة تحمل طفلها الرضيع بكيس معلق على كتفها، وتجر بيديها الاثنتين طفلين آخرين، وبأسنانها تلتقط فم بقجة لا نعرف محتوياتها، وتنظر إلى كاميرات التصوير بتحدٍّ، مثل قطة تنقل أولادها، وتجري مع حمولتها وهي خائفة مرعوبة، والفتاة الشقراء تستصرخ الضمير الإنساني بأعلى صوتها، والجبل الحديدي يتقدم، والشابة الجميلة ترفع بيدها اليمنى علماً أبيض، وباليسرى ترفع شعرها الأشقر، وتصيح.. ارحمونا.. نريد أن نعيش.. والجرافة مستمرة بتقدمها..فتشتبك أصابع قدمي الصبيّة الشقراء الزهرية بأسنان حديد الجرافة المنطلقة من عقالها بكل عنفوان الآلة - المأخوذ اسمها من الإله - فتقع الشابة على الأرض، ويتكسّر الجسد الأفروديتي المتناسق الجمال والروعة، وتنشق الشمامة الزهرية إلى عدة فلقات، فتنساب منها دماء زهرية الحمرة..!

*****

يتحرك الناس في محيط سجنهم الكبير، ويأكلون فتات الأطعمة، ويشربون مياه المصارف الزراعية التي يتفضّل عليهم بها ذوو الحضارة الديمقراطية الحرة المتعددة الجنسيات المتحدة ضدهم.. والأطفال لا يجدون لهم حدائق يلعبون فيها، فيصرفون طاقاتهم الفتية برجم الجرافة المجنونة بالحجارة. والجرافة لا تلتفت إليهم، بل تواصل تقدمها بكل نشاط وجدّ واهتمام، والعرق يتصبب من جباهها الفولاذية الصفراء، بينما العمارات الكرتونية في حي "سلام الشجعان" وأحياء كثيرة محشوة باللاجئين المخضرمين تتهاوى بمن فيها. وبعض خيام صغيرة نصبت في الساحة الواسعة وسط المعسكر، وأطفال صغار وعجائز يدخلون ويخرجون من عقالها...

يحمل طفل قطعة خبز جافة، بينما ينساب مخاط أصفر من أنفه، والذباب يهاجم محيط فمه، وحمامته الصغيرة بحجم قرن البامياء الصغير تطل من بين فخذيه العاريتين، وهو يضحك لكاميرا الصحافة، ويرفع لها إصبعي يده اليمنى؛ الشاهد والسبابة، بعلامة النصر، ويمسك حمامته (قمع البامياء) بيده اليسرى، كل ذلك تحية للكاميرا التي تصور هذا الشعب الذي رُسم له أن يكون متخلِّفاً، بهدف عرض صوره، بصفته لا يستحق الحياة، فيجري تجريفه وطمره تحت التراب، واستبداله ب "شعب الله المختار"، شعب حضاري ديمقراطي تكنولوجي عولمي، يأكل بالشوكة والسكين، ويتبول في مراحيض من العاج، ويغتسل بمياه بكر مُنقّاة، تخرج من صنابير ذهبية، ويأكل الكافيار، في أرض اللبن والعسل!

*****


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى