الجمعة ٣١ آب (أغسطس) ٢٠١٢
مصافحة
بقلم بلقاسم بن عبد الله

ربيعة جلطي عاشقة الشعر والرواية

وهل يستطيع الشعر باعتباره ديوان العرب وقنديلهم الأخضر أن يصمد ويستحوذ على السمع والوجدان في عصر البرابول والأنترنيت والبلوتوت بالهاتف النقال؟.. هكذا رن التساؤل في أذني، وأنا أمد يدي لتهنئة ومصافحة شاعرتنا الأنيقة المتألقة: ربيعة جلطي، عقب صدور روايتها الجديدة: نادي الصنوبر، تتويجا لمسار أدبي حافل، نقلت عشقها من واحة الشعر إلى دنيا الرواية .

بعيدا عن حساسية التواريخ المهمشة والأرقام المهشمة، يمكن أن نتكلم عنها بلغة المختصر المفيد، فهي من مواليد برج الأسد بمدينة ندرومة التابعة لولاية تلمسان. تنقلت في دراستها عبر عدة مدن،من وهران إلى دمشق ثم باريس، تحمل شهادة الدكتوراه في الأدب الحديث، وتشتغل أستاذة في جامعة وهران وحاليا بالجزائر العاصمة. هي أديبة تجيد العربية والفرنسية والإسبانية. لها ثمانية كتب شعرية هي: تضاريس لوجه غير باريسي، التهمة، شجر الكلام، كيف الحال، حديث في السر، من التي في المرآة ، بحار ليست تنام، حجر حائر.. ترجمت بعض أشعارها إلى الفرنسية. بعد هذه المسيرة الشعرية الزاخرة تفاجئنا ربيعة بإصدار رواية: الذروة. عن دار الآداب ببيروت في سبتمبر 2010 لتدخل بها عالم الرواية.

مهما إختلفت معها ، تظل جاذبية كتبها التي تتربع في شموخ وبهاء مزينة رفوف مكتبتي الخاصة تغريني بإعادة القراءة. أتصفح اليوم قصائد مجموعتها الشعرية: كيف الحال؟. الصادرة سنة 1996 بدمشق ، لأجدها حساسة شفافة عابرة لتضاريس الأمكنة وبحار الأزمنة. أفتح أبواب القلب والعقل لأستمع وأستمتع بشعرها المموسق الرنان: آه يا بلد ، إلى ما نداوي شمسك بالبرد ، ينبغي أن ترد ، ما عاد في القلب جلد ، سلمت خصور نهاراتنا للرماد ، وسلمنا متسع العين للرمد..

أعود إلى شريط الذكريات، كم هي رائعة تلك اللحظات البنفسجية، والفعاليات المنعشة وسط دفء النادي الأدبي.. كيف الحال؟. وهل تغيرت الأحوال؟.. لي مع شاعرتنا المتأنقة ربيعة وزوجها المحبوب: أمين الزاوي رحلة شيقة وشائكة تزيد عن ربع قرن من الصداقة والمحبة، واللقاءات الثقافية والمسامرات الأدبية والفنية التي لا تنسى ولا تمحى .

أتذكر صوتها الفيروزي عبر إذاعة وهران وهي تقدم حصتها الأسبوعية: حواء والدنيا. منتصف الثمانينات، ولا زلت أذكر تلك الحوارات الإذاعية التي أجريتها معها في برنامج دنيا الأدب ، وفي الصحافة الأدبية حيث سألتها ذات مرة عن كيفية تعاملها مع اللغة في إبداعها الأدبي ، فأجابت بتلقائية وعفوية بكلمتها الرزينة كما وردت حرفيا بملحق النادي الأدبي لجريدة الجمهورية بتاريخ 16 جوان 1986: المبدع الذي يتعامل مع اللغة، عليه أن ينفرد، وهو بتفرده لا يلغي شعر أسلافه، أو سيكتب بالضرورة أحسن مما كتبوا، ولكنه بتعبيره عن تجربته الخاصة المغايرة ضمن "زمكانية" مختلفة، سوف يثري هذا التراث ويخدم اللغة..

وأتذكر جلسة ثقافية جمعتني مع ربيعة جلطي في بداية عهد التعددية الحزبية، حيث سألتها عن رأيها في مسألة حرية التعبير وتعميق ممارسة الحوار الديمقراطي، فأجابت ضمن ندوة مفتوحة نشرتها بصحيفة المجاهد الأسبوعية مطلع ماي 1989 حيث قالت حرفيا: الحوار الديمقراطي هو الذي يمكنه أن يحمي سيرورة التطور، وأن يعجل بإنتاج الأفكار الكبيرة التي تقود المجتمع نحو التحضر، إن القيود التي تكبل المثقف، تعبير عن خوف السلطة من التغيير، وهو سعي منها إلى الإطمئنان للسكون غير المنتج وغير المزعج.

بعد تجربة طويلة تمتد عبر ثلاثين سنة،ها هي ربيعتنا تنقل عشقها من واحة الشعر إلى دنيا الرواية ، من خلال أول مولودة أطلقت عليها إسم: الذروة. صدرت لها عن دار الآداب في بيروت شهر سبتمبر 2010 وأثارت إهتمام النقاد والقراء . وعن إختيارها لهذا الجنس الأدبي بعد ثمانية كتب شعرية، تقول ربيعة جلطي في حوارها المطول مع الأديبة الإعلامية جميلة طلباوي المنشور بموقع أصوات الشمال بتاريخ 12 ديسمبر 2010
رواية الذروة جاءت بشكل طبيعي بعد ثمانية كتب شعرية كانت الحكاية فيها تلبس شفافية الشعر، إلا أنني في هذه الرواية وبوعي مني استعملت وسائل السرد الأخرى المؤسسة لشروط الرواية و التقنيات التي تمكن من استعمال التاريخ والفلاش باك، والتحكم في مصائر الشخصيات ،واللعب بالأزمنة و شطرنج الأمكنة، والسخرية السوداء والترميز والكناية. الشعر الحديث مغر للكتابة إنه ينحو نحو التكثيف ، يمكن من خلال بيت أو جملة شعرية تخيل عالم متكامل، بل ملحمة تهجم أسرارها ومعانيها على قارئها المفترض الذكي المثقف مثل بحر من الجمال والأفكار ، أعتقد أن عصر التفسيرية والتبسيطية في الشعر قد انتهى ، إن الشعر اليوم لا يخاطب الأيدي للتصفيق إنه يتوجه نحو العقل والذوق والتصوف. لذلك يصعب التواصل به لقول كل شيء نظرا لنخبويته . فالرواية هي البديل الآخر للقول بالتفاصيل. بالنسبة لي إذا كان الشعر الحديث يشبه الركوب على صهوة حصان مروض هادئ بطيء الخطو، فإن الرواية مثل عربة تجرها مجموعة من الأحصنة قلقة و نزقة.

وأعود اليوم إلى أديبتنا المتميزة لأفرح معها بميلاد روايتها الجديدة: نادي الصنوبر. التي ظهرت مؤخرا ضمن منشورات الإختلاف بالجزائر، والدار العربية للعلوم في بيروت. وهي عبارة عن لوحة فنية بديعة الألوان متعددة الأصوات ، من عمق منطقة التوارق بصحرائنا المترامية الأطراف، حيث الدهشة والروعة والمتعة.

وتحرص ربيعتنا الأديبة في هذه الرواية على إبراز تميز ثقافة التوارق اللغوية والموسيقية والإجتماعية، من خلال شخصية الحاجة عذرا حيث تبدع في وصف جمالها الجذاب وجلساتها الحميمية وحكاياتها عن عالم النساء والرجال.لنقرأ ونستمتع معا بهذا النص الأدبي البديع الجميل من فصل واقعة الوسيم:

منذ أن أقمت في بيت الحاجة عذرا، وأنا لا أزداد إلا رهبة من هذه المرأة المدهشة الغامضة الضخمة، ذات الوجه ذي الجمال النادر بملامحه المنسجمة في تناسق غريب ، الآتية من الجنوب البعيد الحار. في صوتها حشرجة وكأن بقايا الرمل لا يبرح حنجرتها القوية، يتململ مع كل جملة تنطقها. لا أدري لماذا آخذ كل ما تقوله على مأخذ الجد، على الرغم أنها لا تتكلم إلا وهي هازئة ساخرة ، فلا تعرف هل أن ما تقوله حدث فعلا، أم أنها تطعّمه بخيالها الخصب الواسع وسع الصحراء التي جاءت منها. يبدو لي أن الحاجة عذرا سرب خيام متراصة من أسرار ملونة متينة الأوتاد.

الحاجة عذرا، لا يأسرها شرب الشاي كثيرا ، بقدر ما تعشق طقوس إعداده ، وتوزيع كؤوسه، والتمتع برؤية راشفيه و ببهجة المتمتعين بلذته. تأخذ الكأس الصغير المذهبة أطرافه بعد أن توزع علينا مثله. إلا أن الكؤوس الشفافة الهشة الرقيقة تلك، تتدافع رغوة فضية حتى أطراف رؤوسها.

لنترك رواية نادي الصنوبر مؤقتا إلى حين، وأطوي الآن أوراقي الملونة وأضعها في ملفها البنفسجي، ورنين التساؤل المثير للجدل لا يزال في أذني: وهل تستطيع الرواية أن تصمد وتستحوذ على العقل والقلب في عالم متغير وفي عصر البارابول والأنترنيت والبلوتوت بالهاتف النقال؟..
‏radiojour2001@yahoo.fr


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى