الاثنين ٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٢
بقلم مصطفى أدمين

بعض مظاهر الذل

حفل الولاء أم حفل البيعة؛ تعددت الأسماء والظاهرة واحدة: رجل يمتطي صهوة حصان وعلى رأسه مظلة ثقيلة يحملها خادم؛ وصفوف من الناس باللباس الرسمي للصلاة تتقدم نحو الفارس بالركوع والتسبيح. أسئلة تفرض نفسها على المتفرِّج: هل الله نزل من السماء إلى الأرض؟ هل ما أشاهده تعبير عن الاحترام والتقدير الواجبين في حق الحاكم، أم تكريس للذل والعبودية؟ هل ما أشاهده سلوك سياسي يقبل المناقشة ويخضع للتغيير، أم سلوكٌ ديني منزه عن أيّ اعتراض ومعارضة؟ وهل سبق لشعب مّا أن أقام حفلا بمناسبة إذلاله واستعباده؟

ظاهرة تقبيل يد الحاكم لا تقلّ أهمية من وجهة نظر سياسية وإن كان الحاكم «لا يفرضها» على المواطنين والشخصيات السامية، ولكنها تكتسب دلالة عسكرية قوية عندما يتعلق الأمر بالجيش وحملة السلاح؛ هولاء لا يكتفون بتقبيل اليد الشريفة وقوفاً، بل يركعون لها في ذل واضح.

نحن نعرف العلاقة التي كانت بين الملك الحسن الثاني والمؤسسة العسكرية، وكنّا «نتفهّم» ركوع الضباط السامين له عند تقبيلهم ليده، بعد المحاولتين الانقلابيتين. حدث هذا في زمن الجنرالات والكولونيلات، أي في زمن الحروب العالمية وبعدها. ولكننا لم نعُد «نتفهّم» مثل هذا الركوع المذل في زمن «العهد الجديد» و«دولة الحق والقانون» و«الربيع العربي»، و«ثورة الملك»، و«الدستور الجديد».

نحن لا نريد أن ينتقص المواطنون والشخصيات السامية من قدر الملك الجديد، ولا من قدر الوزراء وأصحاب القرار والنفوذ؛ ولكننا ننبه هولاء إلى خطورة الانتقاص من قدر أنفسهم بتعاليهم على القوانين وعدم احترام إرادة الشعب. ولسان حالنا يقول:«كن ابن من شئت ولكن احترم تحترم».

ومن مظاهر الذل والإذلال مخاطبة الشعب بالرعية وكأن الشعب مجرد قطيع لا يقدر أن يفكر أو يقرر.
الحسن الثاني كان يخاطبنا بهذه الصفة، وكان مقتنعا بالحديث القائل «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته». الملك الجديد لم يفه أبدا بهذه الكلمة المحقرة للإنسان. زمن كنّا مثل الأغنام و «البـﮔـر» مضى، ولكن ما زالت بعض مظاهر الذل والإذلال قائمة في بلدنا. ونحن نأمل أن يبادر الملك محمد السادس إلى إلغاء هذه المظاهر لثلاث أسباب بسيطة: لأن ذلك سيزيد من احترام الشعب له وسيسد الباب في وجه أعداء الوطن (نذكر واقعة تدخل سفير حكم بشار الأسد في مجلس الأمم المتحدة عندما تطاول على وزير خارجية المغرب سعد الدين العثماني وغمز له بوجود الاستعباد في المغرب ردّا على سحب المغرب لسفارته من حكم بشار ومساندته للشعب السوري)؛ ولأن إلغاء حفل البيعة أو الولاء أو الوفاء سيكسب المغرب أصدقاء وحلفاء جدد، وسيخلق فرصا للاستثمار والعمل من دون أن ينقص تقدير المغاربة لملكهم.
ـ سؤال:هل الملك قادر على التطور في المنحى الإيجابي لصالح وطنه وشعبه؟
الجواب: نعم. غير أن الكثير من المشاكل الداخلية (الأمية والفقر والرشوة والتطرّف بمختلف أشكاله...) والجوارية (الجزائر وإسبانيا مثلا) والدولية (تنظيم القاعدة ومافيات أسواق الحروب...) تفرض عليه الأخذ بمبدأ الحذر والسير خطوة خطوة نحو التغيير الذي يرضاه لنفسه ولوطنه ولشعبه. والأمر أبسط مما يتصور: يكفي الملك أن يشطب مظاهر الذل والإذلال بكلمة، ولسوف يكتشف مدى تشبث الشعب بالنظام الملكي الذي يريد له أن يكون نظاما ملكيا تقدميا. أجل. ليس في هذا الاختيار أي تناقض مع مبدأ الديموقراطية، وعلى الفئة المثقفة أن تستوعب هذا الطرح وكفى من الغضب الصبياني الذي نراه عند البعض والذي ليس سوى ردّة فعل نفسية تجاه رمز «الأب».

أذكر أنني قبّلت يد والدي حتى التاسعة عشر من عمري، وعندما حصلت على شهادة الباكالوريا بميزة حسن؛ انحنيتُ على يده لتقبيلها شكرا وتقديرا واعترافا له بما ضحى لأجلي، فكان أن جرّ يده وقال لي:«لقد صرت رجلا متعلّماً فلا تقبّل يد رجل بعد اليوم» فهل انتقص موقفه ذاك من امتناني له؟ العكس هو ما حدث؛ فلقد زادت محبّتي له.

«ثورة الملك والشعب» ضدّ الأعداء جميلة، وأجمل منها أن يثور الملك على نفسه، والشعب على جميع الوضعيات والسلوكات المذلة، والملك والشعب ضدّ «كلّ ما من شأنه» أن يجعلنا نبدو كدولة متخلفة. وكان الملك محمد السادس قد ثار على بعض تقاليد أسرته عندما تزوج من خارجها، وأظهر لشعبه المرأة التي اختارها قلبه وقلدها بمهام إنسانية. يجب علينا ألا نستهين بهذا الاختيار الملكي وألا نغرض في تأويله بطريقة «سياسوية» فهو إشارة لامعة تفيد بأن الملك قادر على تجاوز بعض المظاهر الموروثة والتي لم يعد لها أي مبرر في المناخ الأخلاقي الجديد.

توقيفُ حركة السير ومنعُ المواطنين من الالتحاق بمقرات عملهم وأولادهم خلال مرور الموكب الملكي أو إجبارُهم على مشاهدته؛ مظهر آخر من مظاهر الإذلال تمارسه المؤسسة المخزنية اعتقادا منها بأن ذلك يزيد من «هيبة» الملك، ومن نفوذه في لاشعور المغاربة، وعملا بالمبدأ الميكيافلي القائل بـ«أفضلية أن يهابَ الشعبُ الأميرَ بدَلا من أن يُحِبّوه»، وتمهيدا لنقل «الهيبة» الملكية للعناصر المخزنية ليبلغوا بها مصالحهم الخاصة ضدّا على كرامة الشعب.

نحن لا نقول بأن الملك هو من يعطي أوامره بهذا الشأن، ولكن الظاهرة موجودة ولا تخدم مصلحة الوطن.
كما أننا على علم بأن الملك أعطى أوامره بعدم المبالغة في مثل هذه السلوكات بُعيد جلوسه على العرش؛ والظاهر هو أنّ العناصر المخزنية لا تريد التخلّي عن هذه السلوكات، وهي تتفنّن في إيجاد جميع أنواع المبررات لجعلها تستمر (ضمان الأمن لشخص الملك، انتزاع مظاهر الولاء والوفاء، احترام التقاليد، تربية الشعب على حب الملك وآله وصحبه، «تقطيع» الشعب وتدجينه...) وهذا تفكير قروسطي متخلف لا يخدم شعار [الله، الوطن، الملك].

مظاهر أخرى من الإذلال موجودة ولا أريد في هذه المقالة التطرق إليها بتفصيل؛ ومنها: لجم فم الصحافة المستقلة الملتزمة، محاكمة بعض الشباب بسبب عدم اقتناعهم بصوم رمضان، فرض تقديم جواز السفر بالنسبة للأجانب عند رغبتهم في اقتناء الخمور خلال شهر رمضان، تزويج القاصرات بمغتصبيهم، تجريم الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات، إكراه الأطفال على حفظ القرآن في تعليم الكتاتيب وفي المدرسة العمومية، التساهل مع لصوص المال العام والمتعالين على القانون، عدم السماح باستقلالية القضاء... أجل! السلبيات عديدة ولكن الإصلاح ممكن بالجرأة في اتخاذ القرار...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى