الاثنين ١٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٢
رُؤى ثقافيّة «21»
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

فضيحة نقدنا!

إنْ تَعْجَبْ، فعَجَبٌ زعمُ مَن كان مطَّلعًا على التراث النثريّ العربيّ: بأن قصيدة النثر تجربةٌ جديدةٌ وُلدت في القرن العشرين! كأنه لم يقرأ لدى المتصوِّفة، مثلًا، أو لدى غيرهم، ما كانوا يسمُّونه: المواقف، أو المخاطبات، أو المناجيات، أو الخواطر، أو الإشراقات! وهي قِطَع من الكتابات أروع أدبيَّةً، وأعمق رمزيَّةً، وأشعَر نسجًا، وأبلغ لغةً، بما لا يقاس، من كتاباتِ كثيرٍ من هؤلاء المتهوِّكين الجُدد، التي تغلب عليها الركاكة، والجهل بأبجديَّات اللغة والتعبير العربيّ السليم. إن جديدهم لا يعدو، إذن، الجرأة على الادِّعاء، ونزق التخليط في المصطلح، والاستخفاف الذهنيّ والفنِّي معًا، زعمًا بأن النثر قد بات تجديدًا في الشِّعر!

وإلى جانب هذه المغالطات التي تستهدف إلغاء معنى كلمة «نثر» من هذا المصطلح (قصيدة النثر)؛ للقول إن ما كان يُسمَّى- سابقًا- «نثرًا» قد أصبح اليوم يعني في اللغة والأدب: «شِعرًا»، فإن التساؤل لمَن يقول بهذا هو عن القسم الآخر أيضًا من هذا المصطلح الأكذوبة، وهو كلمة «قصيدة».. أين «القصيدة» أصلًا في تلك النصوص؟ هل فَكَّر هؤلاء في معنى كلمة «قصيدة» هاهنا؟ لو فعلوا، لأدركوا أن ما يُسمَّى «قصيدة النثر» لا يمكن أن يُسمَّى «قصيدة» أصلاً، لا لغةً ولا اصطلاحًا؛ لأن معنى «قصيدة» منتفٍ عنه لغويًّا، ناهيك عن انتفائه فنِّيًّا. فـ«القصيدة» لم تُسَمَّ بهذا الاسم في اللغة العربيَّة- ولغير العربيَّة ما لها- إلَّا لأن النصّ «مُقَصَّدٌ»، أي: مُنَغَّم، مُنظَّم، مُرتَّل في وحدات موسيقيَّة، وفي وزن مستقيم، أو ما أَطْلَقَ عليه الخليلُ: (بحر). وذلك ما فصَّلناه حول «مفهوم القصيدة» في مقاربة سابقة.

ولذا سيظلّ مصطلح (قصيدة النثر) متضاربًا، متناقضًا، مريضًا في ذاته، فضلًا عن طبيعة النصّ نفسه الذي سُمِّي به. وهو صورة لاضطرابٍ ذهنيٍّ، ومفاهيميٍّ، وذوقيٍّ، ولغويٍّ، ولاختلالٍ رؤيويٍّ، ولوثةٍ معرفيَّة، بدأتْ منذ تلك النصوص الفرنسيَّة التخريبيَّة الأُولى لأبنية الأدب، لغويَّةً ونوعيَّة. وقد كانت هذه «البكتيريا» النوعيّة بالأمس كامنةً في قطاعٍ هامشيٍّ من الأدب، ذي أبعاد فوضويَّة تدميريَّة، كما تحدثت (سوزان برنار) في كتابها "قصيدة النثر"، الذي تخلص- في آخر سطرٍ منه- إلى أن قصيدة النثر ليست بتجديدٍ للشكل الشِّعريّ، بمقدار ما هي ثورة احتجاجٍ ونضالٍ فكريَّة للإنسان ضدّ مصيره. [يُنظر: (1993)، قصيدة النثر من بودلير إلى أيَّامنا، ترجمة: زهير مجيد مغامس، مراجعة: علي جواد الطاهر (بغداد: دار المأمون)، ص288]. ثم نَفَشَتْ غنمُ القوم، حتى بَلغَتْ إلى جسد النقد الأدبيّ، فاكتسبت الشرعيَّة، بل راحت تُقصي أيَّ مقاومةٍ، أو ممانعةٍ، أو بقايا مناعةٍ مكتسبة.

وبناءً على مفهوم العرب لـ«قصيدة»، فإن صفة «قصيدة» تنتفي عن قصيدة النثر، فيغدو استخدام هذه الكلمة فيها محض لغوٍ، لا يعني شيئًا. وأمَّا الاتِّكاء على المجازات التعبيريَّة والتهويمات الدلاليَّة، فمتروكٌ لحالات الشِّعريَّة، ولا موقع له من النقد. غير أن بلوانا أن قد أصبح النقَّاد شعراء، والشعراء نُقَّادًا. ولا عيب في هذا، من حيث هو، لو وعَى كُلٌّ مجاله ووظيفته. بل العيب في الخلط العابث- الذي يحول بين حلم النقد الأدبيّ في أن يقترب من العِلم، وأن تكون له محدِّداته- وذلك حين يتحوَّل النقد بدوره إلى شِعر منثور، أو عاطفيَّات، وتحزُّبات، ينفر من منطق العقل، وقوانين اللغة، ومعايير العِلم؛ لأنها تَحْرِمه الأهواء، ونعمة المجاملات، وتحاصر أمزجته، وتَحُوْل دون ميولاته.

على أن الأَفَن الأكبر في هذا المخاض كلِّه هو أن يُحصَر الإبداع في قمقم جنسٍ أدبيٍّ عتيقٍ واحد، هو «الشِّعر»، ولا شيء غير الشِّعر، وأن تُحشر كلّ شِعريَّة، وكلّ موهبةٍ خلَّابة، في قائمةٍ واحدة وحيدة، هي: (قائمة الشُّعراء). هذا هو التصنيف القاتل للمواهب والإنجازات الإبداعيَّة. وعشّاق قصيدة النثر يَتَّهمون عادةً مَن يُخرجها مِن الشِّعر: بالتصنيف، وهم أرباب التصنيف، والتحجير، على أنفسهم بأنفسهم، وعلى أحبَّتهم، وبامتيازٍ لا تتمتَّع به إلَّا أكثر العقول انغلاقًا، حين يسوقون تلك النصوص سوقًا، ويسوقون كُتَّابها، إلى حظيرة الشِّعر وقطعان الشعراء. ذلك أن من إنصاف قصيدة النثر- وبقطع النظر عن دلالة المصطلح- أن تنماز عن الشِّعر، لا أن تنحبس فيه. ولكن ما العمل في عقلية القطيع الأزليَّة؟! لن يطمئن كُتَّاب قصيدة النثر إلَّا إذا انضمُّوا إلى قافلة الشعراء، وانضووا تحت لوائهم القديم، ومُنِحوا هويَّتهم الفاتنة، وحُشِروا معهم يوم القيامة، ظانِّين أن في ذلك تحقّقهم! وما هو في الواقع إلَّا ضياع هويَّتهم النوعيَّة، وبَيْع منجزهم بَخْسًا في وادي الغاوين. وقبول ذاك هو فضيحة نقدنا، بعد فضيحة شِعرنا!

إن مَن لا علاقة له بالشِّعر، أصلًا، لا موهبةً، ولا حتى اكتسابًا، لا يكلِّفه الله إلَّا وسعه، وليس حتمًا أن يكون الناس جميعًا شعراء، ولا أن يسمَّى كل خاطرٍ شِعرًا، وكلَّ خاطرة قصيدة نثر. ثم يتوافد المنظِّرون لذلك من بعض أصدقاء المرضى بقصيدة النثر؛ للزعم بحتميَّةٍ تاريخيَّةٍ بأن النثر قد صار في آخر الزمان شِعرًا، والشِّعر قد آضَ نثرًا، إلى آخر هذا العبث اللفظيّ، واللعب الفنّي، والتلهِّي بالأفكار المائيَّة. فحينما يأتينا السيِّد المبدع (أُنسي الحاج، (1960)، لن، (دار مجلَّة شِعر)، ص19)، على سبيل النموذج، ليقول لنا، منظِّرًا لقصيدة النثر: «ليس في الشِّعر ما هو نهائيّ، وما دام صنيع الشاعر خاضعًا أبدًا لتجربة الشاعر الداخليَّة، فمن المستحيل الاعتقاد أن شروطًا ما وقوانين ما، أو حتى أُسسًا شكليَّة ما، هي شروط وقوانين وأُسس خالدة، مهما يكن نصيبها من الرحابة والجمال»، فإن لنا أن نقف مليًّا على أطلال هذا الكلام الستِّيني المغالط. وأصحابنا من طبائعهم الجميلة أن يقولوا- حينما تُراجع مقولاتهم المتسرنمة بلا معنى-: «أوووه... هذا كلام ستِّيني تجاوزه الزمن، وها هي قصيدة النثر قد أثبتت وجودها، واستوت على الجودي، والحمد لله رب العالمين!» لكأن الحقائق- حسب هذا المنطق الساذج- تَسقط بالتقادم، والهراء ينهض بالسنين، وكأن التفشِّي المجَّاني لمادةٍ ما هو الدليل على صلاحيَّتها لكلِّ زمانٍ ومكان، ومشروعيَّتها، وأبديَّتها! وبذا يبدو أن قصيدة النثر- وفق هذا الخطاب- قد باتت كبعض الأديان التي تكتسب شرعيَّتها بالتقادم؛ فلا يعود مقبولًا الشكّ فيها، أو مناقشتها. أجل، لقد باتت دِينًا، إذن، أو أيديولوجيا. أمَّا العِلم فلا يعترف بكلام كهذا، بل العِلم يبحث في الأفكار النمطيَّة المرسَّخة زمنيًّا أكثر ممَّا يبحث في سواها، من حيث هي، أي تلك الأفكار، جذور الجهل والتضليل، وفيها تكمن أُسس الغفلة التاريخيَّة. وما لم يقوِّضها البحث والدرس والجدل، ستبقَى مقدَّسة، وسيمضي الناس مستعبدين لها، وستنحجب الحقيقةُ بجريمة أكذوبةٍ بالية، ما كان ينبغي أن تُسقط مشروعيَّة محاكمتها بحجَّة التقادم. ولقد قال الفُطناء- وقبل منهجيَّة ديكارت بقرون-: إنَّ مَنْبِتَ العِلْم السليم الشكُّ، لا التسليم، ولا التوارث، و«الحزمَ سوءُ الظنّ»، لا «حُسن الظنّ». ثم لو سُلِّم، جدلًا، بشرعيَّة زمنيَّة، «سياسيَّة»، تحقَّقت لقصيدة النثر، فكم عُمْر ذلك الزمن؟ خمسون سنة؟ مئة سنة؟ وكم حظيتْ بالقبول خلال هذا العمر؟ وما مدَى قبولها، وحجم جماهيريَّتها؟ أليست فترة فقيرة جدًّا، زمنًا وجماهيرَ؟ فأيّ شرعيَّة اكتسبتها قصيدة النثر من هذا التاريخ (الخائب) الذي مَرَّ عليها؟! وأمرٌ آخر، يُدار، جدلًا، مع القائلين بشرعيَّةٍ زمنيَّةٍ لقصيدة النثر: ما عُمْر القصيدة العربيَّة في المقابل؟ وما حجم جماهيريَّتها، قياسًا إلى حالة قصيدة النثر المشار إليها؟ فأيّ القصيدتين أولى بأن تكتسب شرعيَّة البقاء والتطوير، وأيهما أَولى بشرعيَّة الاحتجاج، سواء بالبناء على الزمن أو على قبول الناس؟ إنْ هي إلَّا تشبُّثات يائسة، وبلا منطق، ولا وزن، حين توزن عقلًا، أو نقدًا، أو تاريخًا، أو حضورًا، تُدِيْن القائلَ وهو يحسب أنها حجَّته الدامغة. إلَّا أن أصحابنا ظالعون عن الاحتكام إلى ما يحفظ عليهم مصداقيَّةً واحدة من المصداقيَّات المحتملة. فما العمل؟ هاهم أولاء يقتاتون على التنظيرات الستينيَّة من القرن الماضي، في وقتٍ تجاوز العالم المبدع الحداثةَ إلى ما بعد الحداثة، وإنْ كنَّا في عالمنا العربي ما برحنا مغمورين في ما (قبل النهضة)، لا في ما (قبل الحداثة)! هذا، في وقتٍ انتقلتْ فيه قصيدة النثر إلى ما بعد قصيدة النثر؛ وتماهت الأجناس الأدبيَّة بعضها ببعض، مخلِّفةً التصنيفات العتيقة وراء ظهر التاريخ.-[الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: "فضيحة نقدنا!"، المصدر: صحيفة "الراي" الكويتية، العدد12122، السبت 8 سبتمبر 2012م، ص14]،


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى