الاثنين ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢
بقلم فتحي العابد

المشهد الثقافي في تونس بعد الثورة

الثورة في تونس غيرت فقط نظام الحكم ولم تغير الإنسان بعد، ولذلك مازلت محنة المهتم بالشأن الثقافي التونسي متواصلة بعد الثورة. مازالت ثورتنا لم تطح بعقلية وثقافة سلطوية منتشرة في المجتمع بقدر ماأسقطت نظام سياسي معين. ومن هذا المنظور يمكن القول بأن النتائج الثقافية للثورة التونسية لا يمكن رؤيتها بوضوح إلا إذا ركزنا أنظارنا فقط على الحراك السياسي في مرحلة الثورة وما بعدها، وهو حراك تمثله بشكل أساسي الديناميكيات الحزبية والعقليات الدستورية. أما إنجازات الثورة في ثقافة المجتمع فهي غير ملموسة، لأنه حسب اعتقادي أن الأحزاب الفاعلة في الساحة خاصة حزب النهضة الإسلامي الحاكم الذي عقدت عليه آمالها الشريحة الكبرى من المجتمع وتنتظر منه الكثير، لم يبذل جهدا في هذا المجال، ولم يراهن على الثقافة ولا يبالي بالعاملين فيها، ليس تنكرا لها، إنما تراخيا خوفا من أن يشوهها ذاك السواد الأعظم والظاهر اليوم من مثقفي تونس الذين تمعشوا بحرية قذرة في ظل نظام بن علي، وورثوا عنه عدم القدرة على التعايش مع اختلاف الرأي وإن ادعوا القطع معه، وهي كذلك لم تستطع ضم المثقفين الموجودين خارج حدود الوطن إلى صفها ليخطف منهم الساسة وحدهم زمام تلك المكانة، ولم تستخدم سلاح المثقفين لدعم مواقفها السياسية، والدليل على ذلك أن منابرها في الخارج لم تشهد صدى ولا حبرا للنخبة المثقفة، وبالتالي غدت أغراض السياسة ثابتة ومبادئ الثقافة متقلبة.. على غير العادة.
من الناحية الأخرى ألاحظ أن هناك فتور اليوم من جهة المثقف التونسي الموجود خارج حدود الوطن، ربما لأن الغمة التي كانت تهيمن على صدره انقشعت، وأن التغيير المرجو الذي كان يستمد منه استمراره في الإنتاج المعرفي المنطقي الآن أصبح يراه حقيقة وأنه أمر لامفر منه، أو أنه بدأ يركن إلى الراحة لأنه اعتقد أنه قاد أو ساهم في الثورة.

لقد أقرت الثورة بعجز المثقف عن قيادتها، وأن تهميش الثقافة وتسييسها والتغني من خلالها بصاحب الجلالة خلال عهدي بورقيبة وبن علي يجهض إنشاء حركة ثقافية نشطة ومستقلة، فاستحق كثير من المثقفين الذين عاشوا داخل تونس في حقبة المخلوع البطالة بعيدا عن عقول وقلوب جمهورهم، لغلبة السلطة الأمية على عقولهم الذكية في لمحة عين، وجعلتهم يخشون من إحتمال فقدانهم منصب ثقافي ما، يتبع البلاط أو يرأس اتحادا مثلا، بالرغم أنها مناصب لا ينافسهم عليها أحد بمثل وزنهم الثقافي والشعبي. فهؤلاء خلقوا منتجا ثقافيا مسطحا ترفيهيا في أبعاده، بعيد الصلة عن الواقع، لا يطرح أسئلة الوعي والهوية، مما جعلهم يفشلون في تحمل مشروع تنموي توعوي وطني يتطلع باستقلال الثقافة عن الأفعال السياسية، وقيادة جمهورهم لتنوير المجتمع نحو التحرر والتطور عندما أخضعوا وظيفتهم الإنسانية للغرض السياسي الشخصي وإن من موقع المتغيب وقت الضرورة، ليتحول كثير منهم ضمن الأغلبية الصامتة، وليتحول الجزء الآخر نحو إجهاض الثقافة النقدية وإضاعة فرصة ثمينة لتنمية الفعل المعرفي، وبذلك تسقطت عنهم ورقة التوت التي تغطي عورتهم ذات الطبيعة الإنتقائية الساعية إلى حماية مكتسباتهم الضيقة.

بعد حوالي سنتين من الثورة لا يسعنا القول إلا أن تونس امرأة حبلى، وإن كان المخاض يبدو عسيرا فإن سنوات العقم التي سبقته تجعل من الولادة لحظة تستحق العناء.

هناك محاولات لكل طرف من الأطراف والإتجاهات السياسية والإديولوجية لفرض وجوده في الوقت الحالي، بما في ذلك أحزاب الترويكا التي أعيب عليها أنها مازالت لم تلتفت إلى تلك المجموعة من مثقفي تونس في الغرب، التي بادرت بجدية في دورها الجديد من تقييم وتصويب، ولم تتحول بكتاباتها للثورات العربية دون مجتمعها كما فعل الكثير، وهربت من واجبها للتعبير عن مشاعر المجتمع وحاجاته ومناصرة مستلزمات تغييره.

بمعنى آخر أن الثقافة في تونس لم تخرج بعد من سجن النخبة، ولن يكون الرقي بالثقافة في بلدنا ممكنا مالم يتمكن الإنسان التونسي من جميع المعارف. بل تكوينه على أساس القدرة على استنباطها بحسب الظرف، وإعادة الإعتبار للمثقفين الحقيقيين بتقريب أصحاب الأعمال الجديدة اعتمادا على الأعمال التي أبدعوها في الزمن الصعب، سواء داخل الوطن أو خارجه، وعلى نزاهتهم، واحترامهم للمبادئ الثقافية في معناها العميق.

الثورة التونسية تتقدم في انجاز مشروعها السياسي وتعيد بناء أسس الدولة على أسس شرعية وديمقراطية، ونتفهم أن يصير الشاغل السياسي الآني والعملي مركز اهتمام الجميع، فيصبح غالب المتكلمين أما سياسيا يعرض نفسه، أو محللا يستنقص ويستزيد.. ويغفل في الخضم السؤال الثقافي أو يكاد إلا من جملة هنا وأخرى هناك، وفي جمل كثيرة رغبة في ملء شغور أو سد ذريعة، وهو توقع مستقبل الثقافة التونسية في فجر الألفية الثالثة. هل تنتهي الثورة التونسية إلى إنتاج ثورتها الثقافية المنتظرة والمأمولة؟ وهل تقود أو تساهم في توجيه روح الثقافة بعيدا عن التجاذبات الحزبية الضيقة؟

وعلينا أن لا ننسى أن مستقبل ثقافتنا مرهون بإعادة النظر في العديد من مؤسساتنا الثقافية والفنية والفكرية، وأن قائمة موضوعات الفعل الثقافي المستقبلي في تونس لا يمكنها ألا تتضمن عناصر القيم، والزمن، والهوية، كعناصر لم يعد الفصل القديم بين الإرادة والأداة يحميها من شيء، خاصة أنه بفضلها يتجلى جمال ثقافتنا ويظهر صدقها وعفويتها التي تجـعل من المحبة والصداقة والحرية، واحترام الاختلاف بين المثــقفين، عنصرا أساسيا من شأنه أن يعمق الحسّ النقدي لدينا، ويبعــدنا عن كل محاولات إذكاء الصراعات الفـكرية والــعقائدية، وعن الضغائن والأحـقاد التي بدأت تظهر الآن.

الثورة في تونس غيرت نظرة التونسي لوطنه وأدرك حقيقة أنه لم يعرفها من خلال معرفة رجالها، وغيرت نظرة العالم لتونس. تونس اليوم أصبحت مدرسة، بل هي دائما مدرسةٌ عبر تاريخها، وتاريخها تاريخ تمدرُس من العالم "ماوغون" إلى الإمام "سُحنون"، ومن "أوغسطيس" إلى "مقديش"، وبين البرادي وابن خلدون، وغيرهم كثير في القدامى والمحدثين.
لذلك لابد من منابر ثقافية تلتزم بمبادئ الثورة لا تحيد عنها، وتنشر قيمها. عندها فقط قد يجد هؤلاء المتملقين الذين أكلوا على جميع الموائد أنفسهم خارج المسار.

وباختصار، فإن الثورة، أية ثورة، لن تكتمل دون ثورة ثقافية، وأتمنى أن لا يطول انتظارنا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى