الاثنين ٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٢
بقلم فيصل سليم التلاوي

الخريف

كان الحاج حسن قد أمضى سحابة نهاره يقلم أشجار الزيتون في بستانه الشرقي، مستخدمًا منشاره القديم الذي زيّته يوم أمس، ليزيل عنه ما علق به من صدأ، وليعيد إليه بعضًا من مضائه. فهو لا يستخدمه إلا في مثل هذه الأيام القليلة من كل عام، بعد أن ينتهي موسم القطاف والعصر وتخزين الزيت، لبيعه في أيام مقبلة غير أيام الموسم، التي تتدنى فيها الأسعار لوفرة المعروض منه في الأسواق.

بعدها يتفرغ الحاج حسن بضعة أيام، لتشذيب أغصان أشجاره، مثلما يفعل سائر الفلاحين، فيقص غصنًا اشرأب بعنقه بعيدًا، حتى ليصعب الوصول إليه عند القطاف، أو غصنا تدلى منحدرًا صوب الأرض، فيعيق حركة الدواب في موسم الحرث، أو غصنًا شاخ وآن له أن يفسح المجال لغصن فتي.
إنه خبير بفن التقليم، وكثيراً ما يتباهى بذلك قائلاً:

يجب أن تكون الأشجار على هيئة الكأس، مفرغة من الداخل، متماسكة من الخارج، ليسهل تعرضها للشمس، ولتسهل حركة المتسلق عليها لجني ثمارها.

في أثناء انهماكه بتقليم الأغصان، تقوم زوجته الحاجة أم إبراهيم بتجميع الأغصان التي يسقطها أرضاً، وتقوم بتنسيقها في حزمة كبيرة، بعد أن تهوي على ما نشز منها ببلطة في يدها، فترغمها على الانتظام داخل الحزمة، تمهيداً لإحكام الوثاق حولها بحبل متين، عندما يفرغ أبو إبراهيم من عمله وينزل من فوق الأشجار، فيتعاونان على شد رباط حزمة الحطب، ثم تحميلها على ظهر الحمار، وتوثيق رباطها على ظهره. فهذا الحطب بعد أن يجف خلال بضعة أسابيع من طرحه في ساحة الدار، يتم تقطيعه بالبلطة إلى قطع مناسبة، ليصبح عدة الشتاء المقبل في الطبخ والتدفئة، عندما يصبح تحلق أهل الدار حول كانون تلتمع به جمرات متقدة متعة ما بعدها متعة. يقرب أحدهم كلتا يديه قليلاً فوق الجمر المتقد، ثم يتبع ذلك بفركهما معا ظاهرا وباطنا، يتخلل ذلك نفخات في يديه المجتمعتين في محاولة لمقاومة برد " المربعانية "، الذي يجمد الدم في العروق، بينما يدفن آخر درنات من البطاطا أو " البزيزة " أو " أم قيس "، أو غيرها من الدرنات والأبصال الشتوية البرية في طرف الموقد، ليتناولها بعد حين وقد اختلط بياضها بسواد، لكنها ساخنة وتبعث الدفء على أي حال.

عندما هبط أبو إبراهيم من فوق آخر شجرة، كان التعب قد أخذ منه كل مأخذ، فتوسد حذاءه المهتريء، وتمدد ليريح بدنه قليلاً، ليكون قادراً على تناول طعام الغداء، الذي جهزته أم إبراهيم في البيت صباحاً، وَصَّرتهُ في صُرةٍ تركتها معلقة في غصن زيتونة، بعيداً عن متناول الحشرات والأفاعي التي قد تلوثه بسمومها.

ظل يقظاً ولم يسمح لنفسه بالتمادي في راحتها رغم إلحاحها عليه،فلو تراخى وأطلق لنفسه العنان لتنام، فقد لا يستيقظ قبل صبيحة الغد من شدة التعب الذي يثقل بدنه.

عندما دعت أم إبراهيم زوجها لتناول الغداء، وفردت صرتها بما فيها من حبات الزيتون، وقرص الجبن المصنوع بيديها، وبعض حبات من الطماطم ورأس البصل، كان الوقت قريباً من العصر. وكانت رياح تشرين تئن في بطون الأودية، وتثير زوابع من الغبار المختلط بأوراق الأشجار الذابلة المتطايرة عن أمهاتها، التي يتواصل عريها يوماً بعد يوم، لتستقبل الشتاء المقبل وقد تعرت تماماً، فيغسل بدنها ويزيل أدرانها ببركة أمطاره السماوية المتدفقة، ويبعث فيها بذرة الحياة من جديد ويكسوها بعد عري.
إن رياح الخريف تبعث الشجن في النفس، وتذكر الإنسان بخريف عمره يا أبو إبراهيم، يا الله حسن الختام.

قالت أم إبراهيم ذلك بعد أن تنهدت تنهيدة طويلة.

لا يا إم إبراهيم، لا تزالين قوية، وفيك من الحيوية والنشاط ما ليس في بنات هذه الأيام. ثم إن هؤلاء الذين يصفون الخريف بأنه فصل الشيخوخة، لا يعرفونه مثلما نعرفه على الطبيعة. إن كلامهم كلام كتب وجرا يد. لا يعرف الفصول إلا من يعايشها. نحن الفلاحين وحدنا نعرفها. أريد أن أسألك:
متى نقطف رماننا؟

في أوائل الخريف.

ومتى نملأ خوابينا قمحا وشعيرا مؤونة لنا ولبهائمنا؟

في أول الخريف أيضاً.

ومتى نعصر زيتوننا وندخره مؤونة للعام، و نعد فائضه للبيع؟

في منتصف الخريف.

متى نحرث أرضنا ونبذر فيها القمح عفيراً*، استباقاً لهطول الأمطار وأملاً في محصول وفير.
في أواخر الخريف.

وماذا بعد يا أم إبراهيم؟ وغمزها بعينه ضاحكاً.

حتى مواشينا من نعاج وأغنام متى يحلو لها أن تلقح وتحمل بذرة الحياة؟

في هذه الأيام في الخريف.

فماذا أبقى الخريف لغيره من مباهج الحياة؟

ربما يكون الشتاء ببرده القارس، وقلة الحركة فيه باعثاً على التشاؤم كما تقولين، أما الخريف فلا.
ولم تجد أم إبراهيم ما ترد به، فقد غلبها أبو إبراهيم بحججه، ولم تجد ما تعلل به انقباض نفسها سوى الوحدة، وقد كبر الأولاد والبنات وتزوجوا. فقالت:

ماذا بقي لنا من العمر وقد تزوج الأولاد والبنات، و"طيّر العش" وعدنا وحيدين مثلما بدأنا.
هل بك شوق لتجديد العش من جديد يا أم إبراهيم ؟ قولي.

لا زال فينا رمق، ولا زال في العمر بقية، و"الدهن في العتاقي"

وضحكت أم إبراهيم وهي تقول:

الله يجازيك يا أبو إبراهيم، شاب رأسك و قلبك ما شاب.

لم يتناول أبو إبراهيم سوى لقيمات قليلة، رغم أنه كان يحس بجوع شديد، غير أن رغبته في أخذ قسط من الراحة قد تغلبت على شهيته للطعام، فاكتفى بتلك اللقيمات التي سكّنت معدته، وتمدد معتذراً من أم إبراهيم، التي كانت تود لو حملوا الحطب على الدابة، وتوجهوا للبيت وهناك يرتاح كما يشاء لكنه ألح عليها .

الله يرضى عليك، اتركيني أرتاح ساعة من الزمن، وغط في نوم عميق.

وطال نومه ساعة وساعتين، وأم إبراهيم بجواره تنتظر أن يصحو بمفرده.

لا تريد أن تزعجه فليس من عادته أن يطول نومه. ولما أوشك الغروب أن يحل لم تجد بداً من إيقاظه، فخاطبته وهي تلكزه بيدها:

أبو إبراهيم، أبو إبراهيم، كفاية نوم ، الدنيا أغربت يا ابن الحلال.

وأعادت نداءها ولكزها له مرات ومرات وهي تقول:

شو هالنومة يا زلمة؟ عمرك ما عملتها، كأنك لم تنم منذ شهر.

وما كانت تدري أنه ينام نومته الأخيرة، إلا عندما مدت يدها تتحس جبينه ووجهه فترتد يدها باردة راعشة.

ما صرخت أم إبراهيم ولا أعولت، بل طفقت تجوب البساتين المجاورة بقدمين راجفتين، علها تجد بعض الفلاحين الذين لم يغادروا بعد صوب القرية، قبل أن يحل الظلام، ليعينوها في مصابها.

وقد وجدت بعضهم فعلاً، وتنادى الرجال على بعضهم من هنا وهناك، ولما تيقنوا من وفاته، أحضر بعضهم سلما خشبياً كان يستعمله خلال النهار لتقليم الأغصان الجانبية العالية.

فرشوا عليه بعض الخرق التي بحوزتهم، وجعلوا منه تابوتاً مددوا فوقه جثمان أبي إبراهيم، ولم ينسوا أن يحكموا وثاقه فوق السلم بحبل متين لئلا يسقط أرضاً، وهو محمول على أكتافهم إلى بيته، ليغسل ويكفن، ثم ليودع الثرى قبل حلول الظلام.

العفير:*هو بذر القمح مبكراً استباقاً لموسم الأمطار، فإن هطلت مبكرة أعطى غلة وفيرة، وإن تأخرت الأمطار التقطت الطيور معظمه ولزم بذر الحبوب ثانية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى