الأحد ١١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٢
بقلم حوا بطواش

رحلتي الى باريس

منذ زواجنا وأنا ألحّ على زوجي السياحة في الخارج. سنوات طويلة ونحن في قريتنا الصغيرة، الوادعة، القابعة في سهول الجليل الأسفل، والتي نادرا ما نخرج منها إلا للعمل أو الدراسة أو التسوّق، ونادرا ما يتسنّى لنا الخروج من هذه البلاد، أرض فلسطين الجميلة والغنية بمناظرها الطبيعية الخلابة، ولكن ما العمل والنفس توّاقة لرؤية الآخر، البعيد، المختلف، وبلدان وأماكن أخرى جميلة، مبهرة، نراها على شاشة التلفاز فنظنّها الأجمل والأبهى والأفضل والأحلى. هذا الخريف، وبعد جهد كبير لتوفير نفقات الرحلة، قرّرنا أخيرا السياحة خلال عطلة عيد الأضحى في مدينة الأنوار، باريس.

عيد الأضحى هذا العام صادف في نهاية فصل الصيف، رغم أن الطقس ما زال حارا وجافا وكأنّ الصيف يأبى أن يغادر، موسم السياحة كاد أن ينقضي، وأعياد اليهود من ورائنا، وأسعار السياحة في انخفاض. إنه الوقت المناسب والفرصة الوحيدة المواتية للسياحة لأناس مثلنا على هامش الحياة، يعملون طويلا، يكسبون قليلا، وينفقون معظم مدخولاتهم على احتياجاتهم الأساسية من أكل وشرب ولبس وأجار بيت، وضرائب المياه والكهرباء والأملاك، والحكومة الكبيرة، البعيدة، العالية، التي ما انفكّت تزيد الخناق على صغارها الذين مثلنا في ظل سياسة الرأسمالية والتهديد للحرب على هذا أو ذاك، دفاعا عن النفس والحدود، والكبار والصغار، واليهود والعرب، وفي ظل ارتفاع الأسعار المخيف، أناس ما زالوا يحلمون منذ الأزل في الخروج من أجواء هذا التوتر وهذا الخناق، والسياحة خارج البلاد ولو مرة واحدة في الحياة.

باريس مدينة آسرة بفتنتها، ساحرة بجمالها، تحوي بداخلها كل أشكال البشر من كل أرجاء العالم، وكأن هؤلاء البشر اتّفقوا على هذا المكان بالذات ليكون منفذهم ومنقذهم من أهوال بلدانهم التي غادروها، والتقوا في هذه المدينة الفرنسية الجميلة في قلب أوروبا.

لا أدري كيف لم يخطر ببالنا أن خريف باريس ليس تماما كخريف بلادنا. وصلنا الى هناك بملابسنا الصيفية القصيرة، الخفيفة، التي تكشف أجسادنا الى برودة هوائها واسوداد سمائها المنذرة بالمطر. أسرعنا الى أقرب محل لاقتناء معطفين لمواجهة هذا البرد الذي لفّنا بشكل مفاجئ منذ لحظة هبوطنا.

قال زوجي: "لن أحسّ أنني في باريس حتى أرى برجها العالي!"

إنطلقنا الى هناك نحثّ الخطى، ركبنا المترو، هبطنا، صعدنا، حتى رأينا البرج من بعيد. أسرعنا كثيرا، اخترقنا الشوارع، قطعنا الحدائق، تُهنا قليلا وجُلنا طويلا، حتى انتصب أمامنا أخيرا برج إيفل عاليا، شامخا، محاطا بالبهاء. ركضنا بلهفة ولوعة، يغمرنا طوفان من الفرح... حتى وصلنا أخيرا الى المكان. إنه برج حديدي يبدو عاديا جدا في النهار، حتى شككت للحظة أنه البرج الذي ترنو اليه عيوننا وتسعى اليه خطانا، ثم سرعان ما حلّ المساء فسطعت أضواؤه، جميلة، زاهرة، باهرة، وثبت في داخلنا إحساسنا أننا حقا في باريس، مدينة الأنوار، مدينة البرج إيفل، تضحك لنا ضحكتها المشرقة ببهجة اللقاء وتعانقنا في جوّها الشاعري المسحور.

كان الناس في الموقع من مختلف الفئات والهيئات، كثيري الأشكال، غريبي الملامح والحضور، وكم يسعد المرء في مثل ذلك الموقف في مثل ذلك المكان الجميل، البعيد، وتلك الأجواء الساحرة إذ به يرى شكلا من البشر يألفه، فيخالجه شعور عجيب بالقرابة، رغم عدم القرابة، والألفة رغم الغرابة. هكذا كان إحساسنا تماما حين لمحنا فجأة من بين هؤلاء البشر زوجين آخرين بالقرب منا يلتقطان الصور مثلنا لذلك البرج العالي، المضيء. كانت لهما ملامح وهيئة شرق أوسطية واضحة ومألوفة. خطر لي أنهما ربما هنا لقضاء شهر العسل.

"لماذا لا تطلب منهما أن يلتقطا لنا صورة معا؟" قلت لزوجي مشيرة إليهما بعينيّ.
فوافق زوجي واقترب من الشاب يسأله بالعربية ما أردنا. فابتسم الشاب بأدب وحميمية لا نجدها إلا عند العرب تجاه الآخرين، وأخذ منه آلة التصوير، والفتاة وقفت على جانب منه وعلى وجهها ابتسامة مريحة، فالتقط لنا الشاب الصورة. وبعد أن شكره زوجي بلطف سأله: "من أين أنتم؟"

ردّ الشاب: "من مصر."

فقال زوجي أمام دهشتي: "اهه، أهلا وسهلا. إذن، نحن جيران. فنحن من إسرائيل."
كدت أضرب جبهتي بكفي لسماع قوله! ولم أعرف أين أذهب بوجهي؟!

بدت علامات الحرج على ملامح الشاب وفقد وجه الفتاة كل لون، ولكنهما ابتسما رغم ذلك بطريقة مهذّبة، وقال الشاب: "أهلا وسهلا. تشرفنا." ثم غادرا مودعين وذابا في زحمة المكان.

قلت لزوجي: "كم مرة قلت لك لا تقل إسرائيل؟! متى ستتعلم أن تقول نحن من فلسطين؟! فلسطـــــين!! لقد أصبتَهما بالرعب فهربا منا كأننا وحوش شرسة ستنقضّ عليهما!"
"لم يهربا،" قال مطمئنا. "ولم يأبها بالأمر. هذا هو اسم دولتنا."

لن يتعلّم أبدا. وكيف له أن يتعلّم عن فلسطين وقد علّموه منذ الصغر بلغتهم العبرية عن إسرائيل وتاريخها وجغرافيتها وأدبها وحروبها حسب وجهة نظرهم مع تغييب كامل لتاريخ شعب آخر ومأساته ونكبته وتغييب لغته العربية*؟!

في باريس، يحتار المرء ماذا يأكل، وبما أننا لم نرغب في تناول الطعام في المطاعم الباهظة الثمن، اخترنا طوال إقامتنا تناول الأكل في المحلات التي نعرف مأكولاتها وهي منتشرة في كل بلدان العالم: ماكدونالدز. ولكن كم من مرة يستطيع المرء أكل الهامبورغر والشيبس والكولا؟ ذات مساء، في طريق عودتنا الى الفندق، صادفنا فجأة محلا كُتبت عليه بالأحرف العبرية: فلافل. فلكم كانت كبيرة فرحتنا إذ وجدنا شيئا ما نعرفه، فدخلنا نسلّم على البائع باللغة العبرية "شالوم" وطلبنا فلافل. جلسنا الى طاولة من الطاولات يدغدغنا إحساس غريب بأننا في بيتنا، وانتظرنا طعامنا. وبعد دقائق، ظهر الرجل وبيده قطعتان من الخبز مع الفلافل وقال: "سيم سلاط" (ضع السلطة).

وجدنا ثلاث حبات كاملات من الفلافل، منكمشات، خجلات في داخل كل قطعة من الخبز!
هل هذا الرجل جدي أم أننا نهذي؟ لا بد أنه سيعود ويأتينا بالمزيد. ولكن شيئا لم يحدث. إبتلعنا ريقنا، ومعه لساننا، ووضعنا السلطة كما قال. عدنا للجلوس، أكلنا فلافلنا دون أن ننبس بكلمة، مصدومَين مما يحدث لنا! دفعنا ثمن الفلافل الذي أكلنا ثم خرجنا والذلّ يغشى وجهينا.
في يومنا الأخير في باريس، قلت لزوجي: "لن أترك باريس قبل أن أرى ملاعب الرولان غاروس!" تلك الملاعب التي طالما رأيتها على شاشة التلفاز، تابعت مبارياتها، شجّعت أبطالها، وحلمت بزيارتها. ولكن الوقت لم يكن وقتا للمباريات فيها، فبطولة الرولان غاروس، بطولة فرنسا المفتوحة بكرة المضرب، تجري في بداية الصيف، في يونيو من كل عام، ولم يكن مسموحا بالدخول إلا لأعضاء النادي. هكذا شرح لنا الحارس الأسود الذي استوقفنا لدى البوابة. فطلبنا منه أن يسمح لنا بالدخول فقط لالتقاط بعض الصور، وهكذا سمح لنا بلطفه الدخول الى الساحة التي أمام الملاعب والتقطنا بعض الصور التذكارية التي ما زلت أحتفظ وأفتخر بها، تذكّرني أنني كنت هناك، قريبا جدا من تلك الملاعب.

رحلتي الى باريس كانت جميلة ومليئة بالمفاجآت، عدت منها محملة بصور مدهشة بقيت محفورة في الذاكرة. عدت، وبعد لم أشبع منها، الى حضن بلادنا التي استقبلتنا بدفئها المعهود. عدت الى قريتنا الجميلة، الهادئة، للإقامة بين قضبان ضلوعها بأمن وسعادة وارتياح.

* في قريتنا كفر كما، قرية الأقلية الشركسية في البلاد، يتعلم طلاب مدرستها باللغة العبرية، وقليل من العربية، بمنهاج دراسي يبرز الإنتماء لدولة إسرائيل ويشجّع الإنخراط في المجتمع الإسرائيلي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى