الأربعاء ١٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٢
بقلم صادق جواد سليمان

بين الحداثة والحضارة

هناك حاجة لاستحضار المعطيات الحضارية المغيبة عن الحال العربي منذ عقود، خاصة حينما نرى هذا الخلط الحاصل عربياً بين الحداثة والحضارة، وبين معطيات هذه وتلك. وقد اختلط علينا الأمر، نحن في الخليج العربي بالأخص، إذ ظننا الحداثة عين الحضارة، فما عدنا نمايز بينهما، أو أننا صرنا نعوض عن النقص الحضاري بالتوسع الحداثي. بذلك تهافتنا، ولا نزال، على الحداثة، كون معطياتها سهلة الاقتناء أو التوفير بالمال، وهي أيضا الأظهر لأجل التباهي بها كمنجزات "حضارية". بذلك عزفنا، ولا نزال، عن المعطيات الحضارية الحقة، كون التحقق فيها يتطلب ارتقاء في الفكر، تساميا في الأخلاق، تساويا في الحقوق، وعملا مؤسسيا، لا فرديا، في تقرير وإدارة الشأن الوطني.

في الحاضر الراهن، المعطيات الحضارية على صعيد الدول العربية منفردة غير متواجدة أو هي غير وافية، لذا التكامل الحضاري على صعيد الوطن العربي ككل، منطقيا أمر غير وارد بعد. التكامل انطلاقا من معطيات منقوصة لا ينتج إلا تراكما للنقص السائد المشترك. التكامل ينشد حيث تكون المعطيات المتفرقة المرشحة للتكامل سليمة في ذاتها، وإذن لا ينقص سوى ابتعاث الترابط التكاملي ما بينها لإطلاق مشروع النهضة المنشودة. لكن في الحال العربي، معطيات دولنا الحضارية غير سليمة، لذا هي غير مؤهلة للتكامل إلا لصالح تكريس الحال القائم الذي يراد تجاوزه.

الأجدر، إذن، في هذا الحاضر، أن يكون التركيز على البناء الحضاري الذاتي في كل قطر عربي. بتعبير آخر: عندما تستوفي بلداننا، أو معظمها، المعطيات الحضارية في بنائها الوطني، سيتولد من دفع ذلك استتباعا سياق نحو التكامل الحضاري بين شعوب الأمة عبر الوطن الكبير.

منطقي فيما ذهبت إليه، هو أن بين الحداثة والحضارة فارق نوعي: فارق موضوعي، لا فارق شكلي فحسب... فارق معنى، لا مجرد فارق لفظ.

الحداثة هي منظومة الأشياء الحسية التي نحدثها حولنا لتيسير أمور الحياة، الاستمتاعِ بها، والترفه فيما هي تجلب من راحة ورغَد. من معطيات الحداثة، مثلا، المدارس، الجامعات، المستشفيات، شبكات الطرق، شبكات توصيل المياه، شبكات الكهرباء، وسائل النقل، وسائل التواصل، المسكن اللائق، الملبس الواقي والجميل، وفور المأكل والمشرب، وسوى تلك العديدُ من مستلزمات العيش وميسرات الحياة.

مع ذلك، تبقى معطيات الحداثة في صميمها وسيلة، لا غاية. هي وسيلة من حيث أنها تمكن من تحقيق غايةً أسمى: غايةِ تحقق الإنسان ارتقاء في إنسانيته. بهذا المعنى، الحداثة ممكن ومنطلق، إذا شئنا اتخذناه سلما إلى التحقق الحضاري.

وما التحقق الحضاري؟
هو ما يتحصل في داخلنا، لا ما يستحدث في محيطنا الخارجي. هو بقدر ما يتبلور فينا ذاتيا، نتعرض به معرفة، نتهذب مسلكا، ونسمو خلقا. هو ما نرتقى به إنسانيا، فننضح أداء خيّرا، لا منّ فيه ولا أذىً منه إزاء أي أحد، ولا عسف ولا عنف ولا عدوان. هو ما لا تعالٍ فيه على أحد، ولا تصاغرَ أمام أحد. هو ما لا استئثار فيه بما الناس فيه سواسية.

معطيات التحقق الحضاري جلية ناصعة، لا مجال لنكرانها، أو الاشتباه فيها، إلا إذا كان ذلك ابتغاء التنكر لها بقصد، وهذا عربيا ما لا أحب افتراضه. هي ما يشهد الإجماع الأممي على لزوميتها جنبا إلى جنب مع الإنجاز الحداثي. بذلك تمكن أيما أمة من نماء حقيقي على الصعيدين الفردي والمجتمعي في ترادف. بذلك، في أيما مسعى صادق لإعادة توطين البعد الحضاري في الحياة العربية، هي الأجدر والألزم أن توضح وتؤكد وتطبق تطبيقا راسخا ومستداما لأجل الارتقاء بمستوانا الحضاري للأعلى بين أمم هذا العصر.

على ما أرى، معطيات التحقق الحضاري ثمانية: فيما يلي أورد تعريفا وجيزا لكل منها، مع إدراك أنها متعالقة عضويا، لا يكون لأيما أمة انتهاض حضاري حقيقي بدون أن تتبناها وترسيها كمنظومة متكاملة، دستوريا وقانونيا وتطبيقيا، في حياتها الوطنية.

المعطى الحضاري الأول هو نظام ديمقراطي راسى في مبادئ خلقية ثابتة واضحة. الديمقراطية، كمجرد إجرائية انتخابية، لا تكفي لضمان سلامة سير الأمور، لذا لا تفي صميما بالمطلب الحضاري. لكي يكون النظام الديمقراطي سليما في بنائه وأمينا في أدائه، وجب أن يؤصل تحديدا في مبادئ العدل، والمساواة، وكرامة الإنسان. من هذه المبادئ الثلاثة، إلى جانب المبدأ الديمقراطي الرابع، الحاضن لها، تتفرع كافة حقوق الإنسان، وتباعا، تستمد جميع حقوق المواطنة.

تأكيد لزوم هذا التأصيل، نلحظه في الدساتير العصرية التي تلزم الدولة بالتثبت المبدئي: تلزمها بتبني النظام الديمقراطي درأ للاستبداد، وتلزم النظام الديمقراطي بالرسوخ المبدئي درأ للشطط، مانعة بذلك الدولة من التنكر أو التجاهل للمبادئ المثبتة دستوريا فيما تشرع الدولة من قوانين، تضع من لوائح، أو تنفذ من تطبيقات إجرائية.

المعطى الحضاري الثاني هو المواطنة المتساوية، وقوامها العقد الاجتماعي المساوي بين المواطنين كافة أمام القانون: عقد لا يجيز أيما امتيازات بناؤها حسب أو نسب أو دين أو مذهب أو جاه اجتماعي أو موقع سلطوي.
المواطنة، بذلك، تعنى المواطنة المتساوية بين المواطنين جميعهم، رجالٍ ونساء، وحقوقها، بذلك، تتوازى مع حقوق الإنسان المفصّلة والمعترف بها عالميا. بتعبير آخر: حيثما تضمن حقوق المواطنة المتساوية على نحو غير منقوص تضمن أيضا حقوق الإنسان. مدى الوفاء بحقوق الإنسان أضحى اليوم المسطرة الرئيسة التي تقاس بها جدارة الدول عالميا، وضمن الدول، تقاس بها جدارة الحكومات.

المعطى الحضاري الثالث هو سيادة القانون: أمام القانون، في أية مقاضاة عدلية، يتساوى الجميع. ضمان ذلك يتطلب قضاء مستقلا، مصانا من أي تدخل، محلي أو خارجي. سيادة القانون تعني أن المواطنين كافة، ذكورا وإناثا، في وطنهم سواسية أسياد. بهذا المعنى، سيادة الدولة مستمدة من سيادة مواطنيها جمعيا، لذا لا جدارة سيادية بمعنى حقيقي تكون لدولة أهلها في وضعية رعايا، لا مواطنين.

المعطى الحضاري الرابع هو اقتصاد منتج منصف: أيما اقتصاد سليم بالضرورة يعنى بزيادة الإنتاج وعدالة التوزيع بتوازن حصيف. حيثما يختل التوازن يختل الأداء الاقتصادي، فيجر الخلل إلى اضطراب سياسي اجتماعي. يتحقق التوازن بانتهاج التنمية الإنسانية المعنية بالنماء الحضاري. طبعا، التنمية الاقتصادية هي الأساس، من حيث توفيرها لوازم الحياة،َ كالصحة والتعليم والمسكن اللائق وفرص العمل ويسر المعاش. لكن التنمية الانسانية، فوق ذلك، تعنى صميما بتحقيق اللوازم الحضارية المتمثلة في عدالة توزع الأرزاق، تكافؤ الفرص، المشاركة السياسية، ضمانِ حقوق الإنسان، تعزيز الهوية الثقافية، دفع النماء المعرفي، وانتهاج اقتصادٍ رصين، غيرِ مبددٍ للمال العام في مظاهر بذخ، وغيرِ مجيزٍ ولا ممكن من عشوائية التصرف فيه وفق غباتٍ شخصية.

المعطى الحضاري الخامس هو النماء المعرفي: جل الحياة العصرية يدار، وكل احتياجاتها تلبى بفضل المعارف والنظم والتقنيات المتفتقةِ من محض خبرة الإنسان. غذاءً كان أو صحة أو تعلميا أو تنقلا، أو إعلاما، أو دفاعا وطنيا، أو تبادلا تجاريا، أو نظاما اقتصاديا، أو عمرانا في الأرض أو ضبطا للأمن، أو تمكينا لفعاليات ثقافية، أو تيسيرا لأداء فرائض دينية ... جميع تلك وأكثر ممكّن بفضل الناتج المعرفي الإنساني وتطبيقاته التقنية المتنوعة. المعطى الحضاري لا يتحفظ على جدارة الاجتهاد الإنساني، بل يعتمد محصله المعرفي ويعمل بمخرجاته التطبيقية لأجل تطوير نوعية الحياة للأحسن للناس كافة.

المعطى الحضاري السادس هو الاستقرار السياسي معضدا بالوئام الاجتماعي. المجتمعات المعاصرة تعددية التركيب من حيث العرق واللون والدين والمذهب والمنشأ الوطني، وسوى ذلك من الخصوصيات المتنوعة للناس. من هنا تأكيد أهمية المشترك الوطني. حيث لا يتساوى الناس على أرضية المواطنة يشعرون بالغبن فيتراجعون من عمومية الانتماء الوطني إلى خصوصية انتماءات فئوية مستثيرة للفرقة والخصام. بذلك يتداعى الوسط الوطني، وتتنشط الأطراف: كل طرف جاراً النار إلى قرصه، معليا المنفعة الخاصة على الصالح الوطني المشترك. لأجل تحصين اسقرارها السياسي ووئامها الاجتماعي، مجتمعات العصر توطد المواطنة المتساوية كحاضن وطني جامع منيع.

المعطى الحضاري السابع هو ردع الفساد: للفساد وجوه شنيعة متعددة، سياسية، اجتماعية، اقتصادية، تجعله من أخطر الأسقام التي يمكن أن تبتلي بها الشعوب. سياسيا، الفساد يأخذ شكل استغلال نفوذ سلطوي للاستئثار إجحافا بما الناس فيه أسوة. اجتماعيا، الفساد يستعمل الوجاهة التقليدية لاجتلاب منافع، دونما حق أو استحقاق. اقتصاديا، الفساد يسري بالتراشي المالي. في شكله الآخر، التراشي يجري بمقايضة منافع عينية بين متنفذين في مواقع السلطة، أو مقربين لديهم، وفي الحالتين، يجري بتحايل على القانون.

المعطى الحضاري يمقت الفساد ويمجه. إنه يرصد قنوات تسربه إلى الحياة العامة، متقصيا وكاشفا كل ما يريب. إنه يتعقبه، يعريه، يحاكمه، ويعاقب عليه بصرامة رادعة.

المعطى الحضاري الثامن والأخير هو المواكبة لمسيرة الحضارة في جميع الميادين. ذلك يعني عدم التخلف عن الموكب الحضاري الجامع لمسيرات أمم هذا العصر. يعني أيضا رفع التحفظ عن تبني ما يتبلور معرفيا في الخبرة الإنسانية عامة، مما ينفع الناس ويرتقي بالأمم إلى صعد حضارية متراقية.

خلاصة: الحداثة غير الحضارة، والتوسع الحداثي، مهما بلغ، لا يغني عن حاجة الأفراد والأمم إلى الارتقاء الحضاري. حيث يكبت النفَس الحضاري طويلا يتولد الاحتقان، فيتأزم الوضع الوطني، يتحلحل الاستقرار السياسي والوئام الاجتماعي، وتتراجع ثقافة الأمة. المرء لا يعيش بالخبز وحده، كلمة قالها المسيح قديما ليبصر أهل عصره أن الرخاء والرغد لا يغنيان عن حاجة الإنسان الصميمة إلى تحقيق ذاته بالفضيلة والرقي العقلي. كذلك نبي الإسلام جاء معنيا بابتعاث المعطيات الحضارية في خبرات الأمم: جاء متمما لمكارم الأخلاق، وجاء رحمة للعالمين.

كما في الماضي، كذا في عصرنا، الإنسان، فردا ومجتمعا، مهما يؤتى من ماديات عصره، يبقى باحثا عن مبادئ وقيم يدرك فطرة أن بها كان، وسيكون، في كل زمان ومكان، ارتقاء الإنسان، فردا ومجتمعا، على السلم الحضاري.

ختاما: بتقديري، في الخبرة العربية الراهنة لا زلنا أكثر شغفا بمنظومة معطيات الحداثة، وأقل اهتماما بمنظومة معطيات الحضارة. لكن طموحنا كأمة ناهضة، بالأخص الطموح لدى شباب الأمة، ينزع وضوحا نحو توطين المعطيات الحضارية في الحياة العربية. لذا سعينا أولى أن ينطلق بتركيز مكثف وهادف نحو التحقق الحضاري. بذلك سيتوجه تطلعنا ليس خياليا نحو التكامل الحضاري عربيا من أوضاع منقوصة حضاريا على الصعيد القطري، بل إلى التركيز عمليا على دفع البناء الحضاري وطنيا في كل بلد عربي. فقط عند تحقق مستوى حضاري واف في معظم الأقطار العربية، سيتبلور التكامل الحضاري على صعيد الأمة كاستتباع منطقي هادف لتعزيز الحال الحضاري العربي ككل. وسيكون ذلك نورا على نور.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى