الأحد ٢٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٢
عن الحضارة «10»
بقلم محمد متبولي

ظهور طبقة النهضة والثورة الشاملة

إننا إذا كنا نتحدث على أن الإنسان الشرقي الذي فقد كافة مقومات التقدم الحضاري، عليه أن يعيد بناء تصوراته حول ربه ونفسه ومجتمعه وعالمه، من أجل أن يغير تلك الصورة الذهنية الراسخة لديه من أنه غير قادر على إحداث تغيير جذري في مجتمعه وعالمه، وان عليه تقبل جحيم الأرض حتى يحصل على جنة السماء، دون أن يبذل أى مجهود في جعل ذلك الجحيم أقل حدة، فبطبيعة الحال لن يتحقق ذلك بدون وجود مجموعة محفزات تساعده، وقد تمثل هذه المحفزات في حد ذاتها ثورة شاملة داخل المجتمع بأسره، وقد تكون عناصر هذه الثورة الشاملة هى تحقيق ثورة فكرية كبرى، وأخرى معرفية علمية، وثورة اقتصادية وثورة فى مجال العدالة الاجتماعية، وأقصد بكلمة ثورة هنا إحداث تغيير جذرى واضح وكبير التأثير فى تلك المجالات.

فمن المؤكد أن إنسان مفكر متعلم مؤمن بالعلم، لديه ظروف اقتصادية جيدة ويحيا في مجتمعه بكرامة، هو النموذج الأمثل الذي نسعى للوصول إليه من أجل أن يكون الوحدة الأساسية للبناء الحضاري الجديد، وقد تحقق المجتمعات الشرقية هذه الثورات الشاملة عن طريق أن تصنع ثورة شعبية جبارة كثورات الربيع العربي، تكون بمثابة فتح الطريق لتلك الثورات، أو إن كان المجتمع لا يرغب في تلك الثورة الشعبية أو لم تصل الأمور لديه لهذا الحد، فعليه أن يوصل لقيادته قيادة مستنيرة تحقق هذه الثورة الشاملة، فالأمر متروك لظروف كل مجتمع.

وسنبدأ هنا بالثورة الفكرية، وقبل أن نتحدث عن عناصر تلك الثورة، فعلينا أن نتخيل المشهد الأتي، سيدة بسيطة تبيع الخضر والفواكه في أحد الأسواق المحلية، ثم بعد أن تنهى يومها الشاق متحصلة على بضعة نقود قليلة تكفيها بالكاد عوز الحياة، تعود إلى منزلها لتقضى ليلتها بين الكتب والبرامج الحوارية، حتى تتمكن من تكوين رؤية حول الواقع والمستقبل وبناءا على تلك الرؤية ستحدد اتجاهاتها السياسية والفكرية، وتتخذ قرارات مصيرية مثل أن تحدد من هى القوى المستنيرة التي ستختارها في الانتخابات القادمة لتقود المجتمع نحو التقدم، أو من هو الكاتب الذي ستدعمه لتنشر فكره في العالم، إن تخيل الأمر على هذا النحو هو مشكلة كبيرة لدى العديد من المفكرين والمثقفين العرب، وتوقع أن يحدث ذلك يوما ما دون تدخل منا يعد درب من الجنون.

إن الخطوة الأولى نحو تحقيق الثورة الفكرية هو أن تتشكل داخل المجتمع شريحة من المفكرين والمثقفين البارزين، الذين ينظرون لأفكار ومعتقدات المجتمع نظرة نقدية، وفى نفس الوقت هم لا يسكنون أبراج عاجية ولا ينفصلوا عن الشارع ولديهم قدرة عالية على التواصل مع البسطاء وإيصال إليهم الأفكار بسهولة، ويجب أن تضم هذه الشريحة كبار المبدعين والمفكرين ورجال الدين والعلماء والمثقفين، ثم تبدأ هذه الشريحة بنشر الفكر والوعى على مستوى المجتمع وتتوسع لتضم بعد ذلك كافة المثقفين والمتعلمين فى المجتمع، لتتحول بذلك إلى طبقة اجتماعية كبيرة تضع فكرة النهضة والتقدم الحضاري هدفا رئيسيا لها، وتعمل على نقل الوعى بشكل مباشر للبسطاء ومن هم أقل منهم فكريا وثقافيا، وتمكنهم من تكوين رؤية حول الحاضر والمستقبل، ونشدد هنا على كلمة تمكينهم من تكوين رؤية وليس فرض رؤية معينة عليهم، ثم تضمهم بعد ذلك لهذه الطبقة، ببساطة إننا هنا نتحدث عن شريحة مجتمعية ستقوم بدور أشبه بدور الأنبياء، فتفرق للمجتمع بين ما يدفعه للتقدم وما يجعله يرتد للتأخر ثم تنمى لديه الوعى والضمير وتتركه في النهاية يختار ما يناسبه، ثم ينضم الأفراد المؤمنين بفكرة التقدم لطبقة النهضة الجديدة التي ستكون هذه الشريحة نواتها.

وننتقل هنا إلى ما نتوقعه من هذه الثورة الفكرية، إن هذه الثورة ستقوم بنقد كافة الأفكار والمعتقدات والأخلاقيات الموجودة في المجتمع، واضعة عين اعتبارها تاريخ هذا المجتمع وقيمه وتقاليده الراسخة المتوارثة، وعقائده الدينية وتجارب التقدم التي حققتها المجتمعات المماثلة إن وجدت، والتجارب العالمية المعروفة فى النهضة والحضارة، ثم تبدأ بعد ذلك بعزل كل الأفكار التي تحافظ على تخلف المجتمع وتأخره، والمعتقدات الخاطئة خاصة فى مجال الدين التي تغلب عليها الخرافة، أو ضيق الرؤية، أو تؤسس لسيادة مجموعات رجعية للمجتمع، والأخلاقيات التي فرضتها حالة التردى الحضاري مثل عدم احترام الآخر أو استباحة حقوق الآخرين أو الصمت على الظلم، أو حتى أخلاقيات التعامل بين الناس كركاكة أسلوب الحوار وتدنيه، وغير ذلك، ثم تقوم بعملية واسعة النطاق لدفع المجتمع وإقناعه بالتخلي عن كل ذلك.

ثم تقوم هذه الثورة بتبني الأفكار والمعتقدات والأخلاقيات التي تدفع المجتمع للأمام، شريطة أن لا يتعارض ذلك مع تاريخ المجتمع وتقاليده وقيمه الراسخة التي لا تدعم التأخر، بمعنى أدق إننا لا يجب ونحن نصوب أفكار المجتمع ونحاول تمكينه من تبنى رؤى أكثر تقدمية للمستقبل أن نطعنه في صلب عقيدته أو نطلب منه تغييرها لأن ذلك لن يحدث، وسيكون كفيل بالقضاء على هذه الثورة الفكرية في مهدها، وحتى لا يفهم من بين السطور ما لا نقصد، إننا عندما نتعامل مع قضية شائكة مثل قضية الدين ونتحدث عن إصلاح وتصويب الفهم الخاطئ للعقائد أو الدين، نعنى أننا نحاول تمكين الإنسان من التعامل مع خالقه بشكل أكثر عقلانية، فيتفكر في حكمته من خلقه وخلق العالم، ويسعى لتحقيق وصية الخالق عز وجل له بإبعمار الدنيا، ويبتعد عن مزج الدين بالخرافة، ويهتدى بما تركه أسلافه شريطة أن يراعى الفارق الزمني والمكاني والحضاري وحجم المعرفة الإنسانية بينه وبينهم.

إن دور الشريحة المثقفة التي ستقود هذه الثورة وستؤسس طبقة النهضة، هو أن تخلق المناخ المجتمعي المناسب لعملية النقد الشامل التي ذكرناها، وتهيئ المجتمع لقبول نتائجها وتبنيها والمضى قدما نحو تحقيقها، وكذلك ضمان استمرارية هذه العملية وجعلها جزءا أصيلا من ثقافة المجتمع، فالمجتمع الناجح هو الذي يراجع نفسه باستمرار، ثم استغلالها في خروج نتاج فكرى يساهم في الحركة الفكرية والحضارية العالمية، ودور المثقفين الآن هو أن يقللوا من مساحة الخلاف بينهم، ويقربوا وجهات النظر، ويتفقوا على هدف مشترك وهو تشكيل الشريحة التي ستقود الثورة الفكرية، ولا مانع أن يحتفظ كل منهم باتجاهه لأن ذلك سيعطى زخما للحركة الفكرية ولكن مع احترام كل منهم للآخر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى