الثلاثاء ٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
بقلم فيصل سليم التلاوي

غرناظة

إنها المرة الأولى التي تطأ فيها قدماه تراب غرناطة، بل ليس قدماه بعد، إنها إطارات سيارته التي وطئت ثرى الحلم القديم الذي تعلقت به نفسه منذ الصغر.

لا يدري لماذا تتعلق روحه بغرناطة من بين سائر المدن الأندلسية الآفلة، تماما مثلما يتعلق قلبه بيافا من بين سائر مدن فلسطين التي لم يرها أبدا. إنه يحن إلى يافا التي لم ترها عيناه أكثر من حنينه إلى قريته الجبلية الوادعة الحالمة، التي أمضى فيها سنوات طفولته و صباه، لا يدري لذلك سببا، فالقلب و ما يهوى.

إن غرناطة حلمه البعيد، و يافا حلمه القريب، الذي هو على مرمى حجر منه، لكنه اليوم يقف وجها لوجه أمام حلمه البعيد قبل القريب.

يبحث عن أول ساحة في مدخل المدينة، ليوقف فيها سيارته ويتركها آمنة مطمئنة، إنه يفضل السير على الأقدام، خاصة في المدن التي يجهل معالمها، ليستطيع التأمل كما يريد، والتـوقف متى يشاء، و ليجنب نفسه الأخطاء المرورية و تبعاتها.

لا متعة تضاهي السير على قدميك في مدينة تدخلها لأول مرة، فكيف إذا كانت غرناطة؟

لاحت على يسار الطريق تلك الساحة الأنيقة الواسعة، يمم وجه سيارته نحوها، يبحث عن مكان مناسب مواجه للشارع، بدا له مأمونا و بارزا لايضل عنه عند عودته. أوقف سيارته وهمّ بالنزول، نظر إلى اللافتة التي تحمل اسم الساحة، ليسجلها في مفكرته خشية نسيان اسمها، وإضاعة المكان. فاجأه الاسم، خاطب صديقه مبتهجا:

 انظر يا كمال، لقد بدأ التعارف، إنها ساحة عبّاد.

ترى أي أجدادنا " العبابيد " هذا الذي ينتظرنا هنا في هذا المساء؟ لقد حسبت عبادا ليس هنا، فقد ظننته هناك في " إشبيلية "، يتفيأ في ظلال برج" الجيرالدا " على ضفاف الوادي الكبير.

ساحة عبّاد أول ما وطئته أقدامنا في غرناطة، أنا و صديقي كمال. تركنا أمتعتنا في السـيارة، بعد أن أخذنا ما خفّ وزنه منها، وما يكفينا لقضاء ليلتنا الأولى. كان همنا الأول هو البحث عن فندق نلقي فيه عصا ترحالنا بقية ذلك المساء، و نمضي فيه ليلتنا تلك، و نترك التعرف والتجوال لصبيحة الغد.

لم يطل بنا البحث، فقد عثرنا على الفندق المنشود، ذي النجمات الثلاث متوسط الحال، مثلما اعتدنا في كل مدينة حللنا بها في جولتنا الصيفية، التي بدأناها منذ قرابة شهر. كان فندقنا يقع في قلب المدينة، و لغرفتنا في الطابق الثالث شـرفة جنوبية واسعة تطل على الشارع الرئيسي.

لم آخذ سوى قسط يسير من الراحة. ما إن غربت الشمس حتى هبطت درجات السلم تاركا صديقي يغط في نوم عميق، يدفعني شوق عارم للقاء غرناطة، شوارعها، بيوتها، أهلها، كأنني مسافر عاد إلى مسقط رأسه بعد طول غياب.

تعبت من السير و التأمل والتلفت ذات اليمين وذات الشمال، أحدق في كل صغيرة وكبيرة في هذه المدينة التي هامت بها روحي قبل أن أراها، جلست على مقعد في مقهى على رصيف الشارع، ورحت أتأمل الجالسين والمارة من حولي، فأزداد عجبا:

 هذه المرأة البدينة التي تعبر الطريق، وقد تلفعت بمعطفها الأسود الطويل، الذي يصل إلى منتصف ساقيها، لقد نسيت منديلها، لو أنها مدت يدها إلى جيب معطفها فأخرجت منديلها الأبيض أو الأسود، ووضعته على رأسها، لحسبتها تسير في أحد شوارع القدس العتيقة، أو في سوق " الحميدية " في وسط دمشق.

 وهذا الرجل الذي يجلس أمامي يطالع جريدة المساء بشاربه الأسود الكث، ووجهه الأسمر المستدير، ألا يشبه جارنا أبو العبد؟

 و ذاك النادل القصير القامة، الضئيل الجسم، كأنه المكوك في ذهابه وإيابه، إنه لا يختلف في شيء عن ماهر ابن صاحب المقهى الوحيد في قريتنا، والذي يعمل نادلا أيضا في الأمسيات وفي أيام العطل.

 ترى من يكون هؤلاء الجالسون جميعا؟ أليسوا بقية أهله الذين غادروا هذا المكان منذ مدة وجيزة. قبل خمسمئة عام فقط. وقد ذهلوا حتى عن أبنائهم و بناتهم فخلفوهم وراءهم، و مضوا هائمين على وجوههم، ابتلعهم البحر، و أُلقي ببعضهم على الشوطيء الجنوبية البعيدة، وكبر هؤلاء الأيتام هنا، وضيّعوا كبارا لسان من ضيّعهم صغارا. لو أنهم استعادوا ألسنة أجدادهم للحظات فقط، لحسبت نفسك في ساحة "المرجة" في دمشق.

 والفلاحون الذين مررنا بهم في البراري على جوانب الطرق الجبلية طيلة هذا النهار، وقد أطبقت يُمنى كل منهم على مقبض محراثه الخشبي، يسوق أمامه زوجين من الثيران، لو أن أحدهم فتش مليا في زوايا بيته، فعثرعلى " قنباز " جده أو سرواله الأسود الفضفاض، فارتداه وصاح بأعلى صوته (أووف..)، وانطلق من حنجرته فجأة موّال" عتابا أو ميجنا "، لتهيأ لك أنك في ضيعةٍ من الضِياع في الربوع الشامية.

انتشلني من أحلام يقظتي هجوم الظلام، وانصراف معظم الجالسين على المقهى،
و خشيتي أن أكون قد تأخرت على صاحبي. نهضت من مكاني وعدت أدراجي نحو الفندق، وجدت صديقي لا يزال غارقا في نومه فنمت.

نهضت صبيحة اليوم التالي مبكرا مع شروق الشمس، انسللت بخطوات هادئة نحو الشرفة، أمتع ناظريَّ بمرآى غرناطة عند الشروق.

كانت الخضرة تمتد أمام عينيّ على مد البصر، و ألقٌ ينسكب تحت أشعة الشمس من قمم "سيرا نيفادا" البعيدة، أو جبال " البشارات " كما كـان يسميها أجدادنا، وقد عمّم الثلج هاماتها في وسط الصيف، والمدينة تتثاءب و تصحو ببطء من نومها الحالم في حضن السهل والجبل.

لم أطق صبرا حتى يستيقظ صاحبي و نبدأ الجولة سويا، قلت لنفسي:

 أقوم بجولة استطلاعية بمفردي، أتعرف على المعالم الرئيسية فأكون دليله في جولتنا الثانية.

قادتني قدماي تلقائيا دونما سؤال إلى حيث يتجه كل زائر لغرناطة، فاللافتات في كل شارع و عند كل منعطف، تشير إلى مكان واحد" الحمراء" و"جنة العريف". سرت مع السائرين، ولجت بوابة القصر والجنة، و ما كان تشـوقي للقائهما كبيرا مثل تشوقي للمدينة ذاتها، أحيائها القديمة، قصبتها، قلبها النابض في حي "البيازين".

لكنني بدأت بما يبدأ به الزائرون جميعا، بقصر الحمراء و قاعاته الرائعة.

التقطت صورا للذكرى في بهو الأسود، تأملت الزخارف والمنمنمات الرائعة في كل زوايا القصر، و تقرَّت يداي بلمسٍ حروف العبارة الموحية، التي نقشت في كل جانب من جوانبه "لا غالب إلا الله".

لاحظ بعض السائحين شغفي و تحديقي في حروف العبارة، ففهموا أنني من بقية أولئك القوم الذين كانوا هنا يوما ورحلوا.

مضيت مع جموع الزائرين، واستمعت إلى دليل يشرح لهم عن المكان، حتى إذا وصلنا إلى حجرات حريم السلطان قال:

 هنا كانت حجرات الحريم، و هنا كان يقف المغني الأعمى ليطرب الحريم، كان من الضروري أن يكون أعمى، حتى تنعم الحريم بالطرب لصوته، و لا ينعم برؤيتهن، لو لم يكن أعمى بطبيعته لفقؤوا عينيه.

اقشعرت الأبدان لسماع كلمة فقء العينين، وصرختُ مستنكرا:

 هذه فرية و كذبة كبيرة، لكن صوتي ضاع بين الجموع.

انفصلت عن الفوج السياحي، وتحولت بمفردي هذه المرة إلى جـنة العريف، فلا أريد سماع تخرصاتٍ أخرى. تجولت في أرجاء هذه الحدائق الغناء البديعة الصنع. متعت نفسي بمناظرها و ورودها ورياحينها و نوافيرها و قنواتها الخفية المتقنة الصنع.

غادرت قصر الحمراء و جنة العريف ميمما وجهي نحو بغيتي الأصلية، قلب المدينة، أزقتها، حواريها، سرت على غير هدى، أوغلت في المسير حتى وجدت ضالتي أخيرا. إنني أقف أمام لافتة تحمل اسم "البيازين".

التقطت نفسا عميقا، أريد أن أملأ صدري مــن هواء حي "البيازين". الذي حلمت به كثيرا، و أبطأت سيري استعدادا لتأمل كل شبر و تمعنه مليّا، حدقت في أرضية الأزقة و في واجهات البيوت العتيقة، التي تزين شرفاتها و أسوارها الأواني الفخارية أو المعدنية المزدانة بالقرنفل والياسمين و ألوان الورود. وإذا ما أمعنت النظر من فرجة واحد من هذه الأبواب، طالعتك باحة واسعة في مدخل المنزل، وقد توسطتها بركة ماء بنافورتها التي لا تكف عن الخرير، و قد ظللت الساحة عريشة من أشجار العنب أو الياسمين. أذهلني ما رأيت و ما حسبت نفسي إلا في حي من أحياء دمشق القديمة.

أيعقل أن تكون هذه البيوت عمرها خمسمئة سنة ولا زالت على حالها؟ لم يبق إلا أن أتفرس في أسماء أصحابها، فلعلي أعثر على اسم أعرف صاحبه. دققت كثيرا في الأسماء المدونة على مداخل المنازل فما وجدت اسـما أعرفه، طال بي التدقيق والتمحيص حتى نسيت نفسي ومضيت بعيدا في أعماق الحي.

و هناك عند سفح الجبل، و حيث يتفرع الزقاق ذات اليمين و ذات الشمال، وقد احترت أي السبيلين أسلك، فوقفت في الوسـط متفرسا في واجهة البيت الأبيض، الذي يفصل بين مدخلي الحارتين و هتفت:

 إنه هو، لقد وجدته أخيرا، إنه البيت الذي طال بحثي عنـه، لقد نقشت حروف الاسم نقشا بخط مغربي، "كرم بن أمية" وتحتها بحروف إسبانية Carmen Bin Omaiah، كان البيت مقفلا منذ أمد بعيد فيما يبدو على هيئته، و فهمت عندها لماذا يكثر اسم "كارمن" بين الفتيات الإسبانيات، إنه الاسم العربي كرم مع تحريف بسيط.

أطلت الوقوف بالمكان والتحديق في الاسم، والتقطت له صورة لا زلت أحتفظ بها بعد قرابة أربعين عاما ضمن أثمن مقتنياتي.

أحسست كأنني قد وجدت ضالتي، و لقيت غرناطة التي جئت أبحث عنها، عدت أدراجي إلى الفندق، وجدت صديقي منتظرا وقد استطال غيبتي، حدثته طويلا عن الناس و الأماكن التي لقيتها، و عرفت الكثير منها ولم يعرفني منها أحد.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى