الثلاثاء ١١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
بقلم تامر عبد الحميد أنيس

أصداء المواجهة الأولى

رؤية مسرحية لمناظرة سيبويه والكسائي

(1)

في صدر القاعة يجلس الخليفة هارون الرشيد ، وعن يمينه نديمه يحيى بن خالد البرمكي.

يحيى: أما علمت يا مولاي من وفد علينا اليوم.
الرشيد: ومن عساه يكون يا يحيى؟
يحيى: عمرو بن قنبر.
الرشيد: تعني سيبويه.
يحيى: أجل يا مولاي، عالم البصرة.
الرشيد: وما الذي جاء به ؟
يحيى: جاء يطلب أن أجمع بينَه وبين الكسائي.
الرشيد [بنبرة تعظيم]: الكسائي ؟! ما أجرأه !!

يحيى: لقد عجبتُ من جَرْأتِه يا أمير المؤمنين، ونهيتُه عمَّا قصد، وقلتُ له: إنَّ الكِسائيَّ شيخُ مدينةِ السَّلام، وقارئُها، ومُؤَدِّبُ أميرِ المؤمنين، وكُلُّ مَنْ في المِصْرِ له ومَعَه، فأبى إلا أن أجمعَ بينهما.

الرشيد: ما علمت عنه إلا خيرًا، ولئن صحَّ ما يقال فيه لهو أعلم أهل البصرة بعلم الخليل رحمه الله، وأبصرُهم بمذاهب أشياخها من أهل العربية.

يحيى: لكنَّه يا مولاي شابٌّ حديث السِّنِّ، وأخشى إنْ أنا جمعتُ بينه وبين الكسائي أنْ تكون منقصةً لقدره، وهو منك بالمنزلة التي تَعْلَمُ، وما يسوؤه يسوؤك.

الرشيد: اسمع يا يحيى، لا يُعرَفُ الفَضْلُ في العلم بالسِّنِّ، وإنَّما جُعِلَتِ المجالسُ بين العلماءِ والمناظَرَةُ لِيَظْهَرَ مَنْ كان منهم أقوى حُجَّةً وأغْزَرَ عِلْمًا.

[يتنهد الرشيد بعمق] إنّ علماء العربية من أهل البصرة والكوفة وبغداد لم يألوا جُهدًا في وضع أصولها وضبط شواردها، ولهم علينا حقٌّ عظيم فلقد حفظ الله بهم كتابه.

يحيى: صدَقتَ يا أميرَ المؤمنين، فما الرَّأْيُ؟

الرشيد: اضرِبْ له موْعِدًا في داري هذه بعد أنْ تستأذِنَ الكِسائيَّ، ولننظُرْ عَمَّ يُسْفِرُ اللقاءُ؟
يحيى: أفعل يا أميرَ المؤمنين إنْ شاء اللهُ.

***

(2)

في صدر القاعة كرسي فخم يجلس عليه يحيى بن خالد البرمكي، وعن يمينه ولداه جعفر والفضل، ويقف على مقربة منهم الفراء، والأحمر الكوفي، وهشام بن معاوية الضرير، ومحمد بن سعدان، يدخل سيبويه وحيدًا يمشي في سكينة ووقار إلى أن يصل قريبا من مجلس يحيى.

سيبويه: السلام عليكم ورحمة الله، حياكم الله آل برمك.
يحيى وولداه: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
سيبويه: وأين أمير المؤمنين؟

يحيى: أمير المؤمنين يقرئك السلام، وما دعاكم للمناظرة في داره إلا تكرمة لكم، لكنَّه في مشغلة من أمر الخلافة.

سيبويه: أصلح الله الأمير ووزراءَه، وهيَّأ له من أمره رشدا.

يقترب الأحمر من سيبويه ويلتفت له.

الأحمر [بحدة]: أنا عليُّ بنُ المباركِ الأحمرُ، أأنت سيبويه؟
سيبويه: نعم .. أنت مؤدبُّ ابنِ أمير المؤمنين؟
الأحمر: وَقَدْ بَلَغَك؟
سيبويه: وماذا عندك من العربية ؟

الأحمر [بحدة أكبر]: عندي ما ليس عندك؟ فإنِّي أحفظ أربعين ألفَ بيتٍ شاهدًا في النحو، سوى ما أحفظ من القصائد وأبيات الغريب، وأني سائلك عن مسائل منها لا أحسبك تعرفها.

تدور هينمة بينهما، في حين يكلم الفراء هشامًا الضرير ومحمد بن سعدان.

الفراء: والله ما أحسب هذا الفتى يُفلِتُ من سكين الأحمر، فقد بلغني أنَّ في لسانه حُبسَة، وأنَّ قلمَه أبلغُ مِنْ لسانِه، ومثلُ هذا لا يثبتُ للمناظرة وإنْ حَمَل من العلم جبالا.

هشام: وما حمله على أن يطلب مناظرة الشيخ؟

صوت الأحمر مرتفعًا: أخطأتَ يا بصريّ!

سيبويه ناظرًا إليه في تعجب ومرارة: هذا سوءُ أدب !
الفراء وهو يُقبِلُ على سيبويه: إنَّ في هذا الرجل [يشير بيده إلى الأحمر دون أنْ ينظُرَ إليه] حَدًّا وعَجَلَةً، ولكنْ ما تقولُ فيمن قال: هؤلاءِ أبون، ومررْتُ بأبين، كيف تقول مثالَ ذلك من وأيتُ وأويْتُ؟

سيبويه: لستُ أُكَلِّمُكما أو يَحضُرَ صاحبُكما حتى أناظرَه.

يدخلُ الكسائيُّ ومعه مجموعة من تلاميذه.
الكسائي: السلام عليكم ورحمة الله.

الجميع: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الكسائي [مخاطبا يحيى ناظرا إلى سيبويه] : ها أنا قد وافيتكم يا يحيى على موعدنا، وإنِّي أرى صاحبنا قد أعد واستعد.

يحيى [باسما]: مازال في شَدٍّ وجَذْبٍ مَعَ تلميذَيْكَ هذَيْنِ حتى أَتَيْتَ.
الكسائي: مَرْحبا بِكَ يا بَصْرِيُّ في بَغداد.
سيبويه: لو كان أدبُ أصحابِك معي مكانَها لكان أَظْهَرَ للتَّرْحاِب.
الفراء: وما تَنْقِمُ مِنَّا يا رَجُل؟!

سيبويه: تسارِعون في تخطِئَتي وأنا أجيبُ على مَذْهَبِي ومَذْهَبِ أَشْياخِي من علماءِ البصرة، وما ضرَّنِي لو خالفتُ صاحِبَكم هذا، أو خالفْتُكُم جَميعًا؟!!

الكسائيُّ: دعْكَ من هؤلاءِ، وأَقْبِلْ عَليَّ، فإنَّما جِئتَ لمناظرتي أنا، فهل تَسْألُني أو أَسْأَلُك؟
سيبويه: لا، بل سَلْنِي أنتَ.

الكسائي: إذن، كيف تقول: قد كُنْتُ أظُنُّ أنَّ العَقْرَبَ أَشَدُّ لَسْعَةً مِنَ الزُّنْبورِ فإذا هو هي، أو فإذا هو إيَّاها؟

سيبويه: فإذا هو هي، ولا يجوز النصبُ.

الكسائي: لَحَنْتَ.
سيبويه: عادتُكم.
الكسائيُّ: فكيفَ تقول: خَرَجْتُ فإذا عبدُ الله القائمُ أو القائمَ؟
سيبويه: فإذاعبد الله القائمُ، بالرفعِ، ولا يجوزُ النَّصْبُ بحال.
الكسائيُّ: أخْطأتَ، العَرَبُ ترفعُ في ذلك كلِّه وتنصِبُ.

سيبويهِ: بل ما قُلتُه الصوابُ، وليس هذا محلًّا للنصبِ، وما تقولُه أنتَ دَعْوَى يُعْوِزُها الدَّليل.

يحيى: قد اختلفتُما وأنتما رئيسا بلَدَيْكُما، فَمَنْ ذا يَحْكُمُ بَيْنَكما؟

الكسائيُّ: هذه العربُ بابكَ، قدْ جَمَعْتَهُمْ مِنْ كُلِّ أَوْبٍ، وَوَفَدَتْ عَلَيْكَ مِنْ كُلِّ صُقْع، وهُمْ فُصَحاءُ الناس، وقد قنِعَ بِهِم أهلُ المِصرَيْنِ، وسمِعَ أهلُ الكُوفةِ وأهلُ البصْرَةِ منهم، فيُحْضَرون ويُسأَلُون.

يحيى: لقد أنصفتَ يا كسائيُّ. [يتوجَّه للحرس]: أدخلوا مَنْ بالباب مِنَ العَرَب.

[يدخُل أبو فَقْعَس، وأبو زياد، وأبو الجرَّاح، وأبو ثَرْوانَ، يتوجَّه إليهم يحيى].
سيبويه [في نفسه]: يا إلهي! إلى مَنْ يحْتَكِمون؟!

يحيى: أيُّها العرَبُ أنتم أهل الفصاحة وعنكم تؤخذُ اللغة، وقد اختَلفَ عندي هذان الرجلان ورضيا بحكمكم بينهما، فأمَّا الكسائيُّ فقال يجوز أن يُقال: قد كُنْتُ أظُنُّ أنَّ العَقْرَبَ أَشَدُّ لَسْعَةً مِنَ الزُّنْبورِ فإذا هو إيَّاها، كا يجوز أن يقال: فإذا هو هي، وأمَّا هذا البصريُّ فقال: لا تقول العرب إلا: فإذا هو هي.
ينظر النفر الأربعة بعضهم إلى بعض برهة.

أبو فقعَس: مولاي الوزير؛ الصَّوابُ ما قال هذا الشيخ [ينظر إلى الكسائي].

يحيى إلى بقية العرب: وأنتم ماذا تقولون.

الثلاثة: القول ما قال الكسائيُّ.

الكسائيُّ: هذا خلافُ ما تقولُ يا بصريُّ.

سيبويه: أمَّا عَرَبُ بلدِنا فلا تعرفُ إلا (هو هي). [تبرقُ عينُه كأنَّه التفت إلى شيءٍ خَفِيّ، فيقول:] أيُّها الوزير – أصلحك الله – سألتُكَ إلا ما أمرتَهم أنْ ينطِقوا بذلك؛ فإنَّ ألسِنَتَهم لا تَجْري عليه.

يحيى [بنبرة عتاب]: قدْ تسْمَعُ أيُّها الرَّجُل ما قال هؤلاء، فدعك من اللَّجاج، وأقِرَّ بخطئِك.
سيبويه ينكس رأسَه في حياءٍ وضيق.

الكسائيُّ: أصْلَحَ اللهُ الوزيرَ! إنَّه قدْ وَفَدَ عليكَ من بَلَدِه مُؤَمِّلًا، فإنْ رأيتَ ألا تَرُدَّه خائبًا.
يحيى: أمَرْنا لك بِعَشْرَةِ آلافِ دِرْهَم، إكرامًا لوفادتك.

سيبويه [يهُزُّ رأسَه في أسىً]: جزى اللهُ الأميرَ خيرًا.

[ثُمَّ يقول في نفسِه]: لو علِموا ما فعلوا بي بظُلْمِهم إيَّاي لعرفوا أنَّ المال لا يأسوه.

***

رؤية مسرحية لمناظرة سيبويه والكسائي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى