الجمعة ٢٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
بقلم موسى إبراهيم

بائعة قوارير الرمل

هذه المدينة جميلة وهادئة في الصباح الباكر، منظر البحر الأزرق من بعيد يمنحني شعور بالإرتياح، هنا أتنفس بعمق، أخطو برشاقة وأبحث بعيوني عن أشياء فريدة، أدخل محال بيع التحف التراثية، ولكنني لا أشتري شيئا لأن الأسعار سياحية بل جنونية.

تجلس على كرسي خشبي، أمامها مباشرة طاولة خشبية وعلى الطاولة تستقر أوعية فخارية مملوءة بالرمل، كل وعاء مملوء بكمية كبيرة من الرمل وبلون يختلف عن الرمال في الأوعية الأخرى، وهنالك الكثير من القوارير الزجاجيه المملوءة بالرمال ولكن بشكل جميل وكأن الرمال شكلت ملامح لوحات فنية تراثية رائعة، ألقيت التحية على الفتاة صاحبة المحل وطفقت أتأمل هذه اللوحات الجمالية الآسرة، لفت انتباهي أن بعض القوارير تحوي حروف لأسماء أشخاص، أسماء نساء ورجال أيضا، منقوشة باللغة الأجنبية، لفت انتباهي أيضا صندوق كرتوني مليء بالقوارير التي تحمل أسماء ولكنها تحمل نفس الإسم.."شادي".

دفعني فضولي لأن أسألها:"عفواً يا آنسة! هل هذه القوارير لشخص واحد فقط؟؟! ولماذا طلب منك صنع الكثير منها؟ هل هو أحد المترشحين للبرلمان ؟" أضفت مازحا.. هزت رأسها وقالت: "لا..هي ليست للبيع..ولكنني أصنع كل يوم قارورة لحبيبي الغائب وأضعها هنا..أحاول التخلص من هذه العادة ولكن دون جدوى" سألتها:"ولكن ما هي قصته؟" قالت: "تعرفت عليه في الجامعة، كنا زملاء دراسة في قسم فنون جميلة، أحببته كثيرا وهو أيضاً أحبني أكثر، كنا كل يوم نجلس في المرسم ونتشارك في رسم الرمال داخل القوارير الزجاجية ونهديها للزملاء والزميلات، ننقش بالرمل أسماءهم أو رسومات يقومون هم باختيارها..بعد أن تخرجنا سافر هو إلى روما ليكمل تعليمه العالي وأنا أنتظره هنا وقد امتهنت هذه المهنة منذ أن انقطعت رسائله قبل ثلاثة أعوام." بدت لي قصة خرافية أو شيء يشابه دراما تركية رومنسية! قلت لها:"ولكن..هو سافر..ولم يعد إليك..تركك للإنتظار ولهذا الحنين..ألا تحاولين نسيانه؟!!!" قالت: "بلى..إنني أحاول نسيانه منذ زمن..حتى أنني قررت اليوم أن لا أصنع له قارورة رمل..سأرسم لك واحدة باسمك .." ضحكتُ كثيراً حتى أن المارّة لاحظوا ضحكاتي الجنونية، أردفتْ:"وما الذي يضحكك يا أستاذ؟" أجبتها ضاحكاً:"آنستي الجميلة هل تعتقدين أن التوقّف عن محبّة شخص ما يكون بالتوقف عن انتظاره والحنين إليه؟؟!" قالت:"أجل! سأنساه..يجب أن أنساه.. لقت تعبت منه..إن حبه يلاحقني دائما..لم أعد أستطيع الصمود أكثر..على أن ألتفت إلى مستقبلي وحياتي والأمل القادم..سأنساه..سأنساه ..أجل أجل..." أخذت تحرك ذراعيها وكأنها تبحث عن شيء ما، بدت متوترة، بل غاضبة، ثم أمسكت بأنبوب طويل في قمته شكل مخروطي وأمسكت بإحدى القوارير وقالت:"ما اسمك؟" أجبتها:"مروان" بدأت تعمل بشكل ملفت جميل وسريع، تملأ القارورة بالقليل من الرمل الأزرق، ثم تدخل شيء يشبه الإبرة .. ثم تعاود سكب بعض الرمل الأحمر .. والأبيض .. وهكذا.. أخذت تحدثني وكأنها تبرر لي سبب تعلقها بشادي: "إن الفتاة يا سيد مروان لا تمنح قلبها بسهولة، ولكنها إن فعلت فاعلم أنها منحت روحها وعقلها لمن تحب.. إن المرأة الوفية قد تمضي العمر كله تنتظر حبيبها الغائب حتى يعود..إنها ترسم في خيالها عالماً مزهراً يجمعهما معاً رغمَ ما يحيط بها هي من ظروف قاسية، إن المرأة حين تحب تعطي كل ما تملك لحبيبها، وتسعى جاهدة للبقاء قربه، كيف لي أن أفسر حالتي لك؟ أنا لا أملك تفسيرا منطقيا لها..!
الغريب بالأمر أنني قد أنسى صديقة، زميل، زبون أو حتى قريب.. ولكن شادي ما زال يستحوذ على قلبي وتفكيري..أتعبني غيابه اللامبرر..لهذا قررت أن أنساه ولن أرسم اسمه بعد اليوم.."
أنهت الرسم في القارورة الزجاجية ثمّ قدمتها لي ..
لم يكن اسمي ما قرأته داخلها..ضحكتُ .. بكيتُ .. غصّت روحي
ومضيت..

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى